كان يوم 23 ديسمبر/كانون الأول محطّة فارقة في العلاقات بين الإمارات والجزائر، بوفاة رئيس الأركان الجزائري أحمد قايد صالح، إثر سكتة قلبية، عن عمر ناهز الـ 80 سنة، وذلك بعد أيام فقط من انتخاب عبدالمجيد تبّون رئيساً للجزائر يوم 13 ديسمبر 2019.
رئيس الأركان كان من المقرّبين للنظام الإماراتي، خاصة بعد الزيارة التي أدّاها لدبي في فبراير/شباط 2019 قبل أسابيع فقط من استقالة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة من منصبه، بداية شهر أبريل/نيسان من ذات السنة. زيارة لم يتقبّلها الحراك الجزائري واعتبرها محاولة للبحث عن تسويات إقليمية لشأن جزائري داخلي مع دولة راعية للانقلابات في المنطقة.
هواجس الحراك الجزائري، والتي تُرجمت إلى شعارات في الشارع على غرار "قايد صالح عميل الإمارات"، و"إلى حكام الإمارات لن تحقّقوا أجنداتكم على دماء الجزائريين ".. كان لها ما يبرّرها بالنظر للسعي المحموم لأبوظبي إلى استمالة "البروفيلات" العسكرية الوازنة، في أيّ دولة تشهد تحرّكات شعبية منادية بالتغيير السياسي، كما فعلت في مصر والسودان وليبيا واليمن، في إطار مشروع كامل لعسكرة المنطقة ووأد أي نفَس ثوري قد يأتي بالإسلاميين إلى السلطة.
الصحفي الفرنسي نيكولا بو، وفي مقال نشره موقع موند أفريك الفرنسي في مارس/آذار 2019 (في ذروة الحراك الشعبي الجزائري وقبل استقالة الرئيس بوتفليقة بأسابيع) تحدّث بشكل معمّق، عن العلاقات التي تجمع الفريق قايد صالح بدولة الإمارات، فالرجل الأوّل في المؤسسة العسكرية الجزائرية، والمتحكّم في ميزانية تسلّح ضخمة تقدّر بـ11 ملياراً سنوياً، يعتبر من زبائن البنوك الإماراتية، وكانت أبوظبي حاضرة ضمن مشروع تعاون بين الجيش الوطني الجزائري ومجموعة مرسيدس بنز الألمانية، لإنتاج عربات مصفحة "نمر"، كما أبرمت مجموعة "توازن" الإماراتية اتفاقية مع مجموعة Epic gpim الألمانية للنهوض بالصناعات الميكانيكية، وذلك ضمن مشروع جزائري – ألماني لدعم الصناعات الميكانيكية داخل وزارة الدفاع الجزائرية، وذلك بحسب ما ورد في التقرير.
وأضاف نيكولا بو بأنّ البنوك الإماراتية تعدّ "صندوقاً" لأموال عدد من أثرياء الجزائر (لديهم علاقات بالمؤسسة العسكرية وعائلة بوتفليقة المتنفذة)، الذين أودعوا فيها ثروات بمئات ملايين الدولارات باعتبارها جنّة ضريبية، على غرار علي حداد الصديق الشخصي للسعيد بوتفليقة شقيق الرئيس، والإخوة كونيناف (جميعهم تلاحقهم قضايا فساد وتم إيقافهم بعد استقالة بوتفليقة).
وأرادت أبوظبي أن تدخل على خطّ الحراك الجزائري، عبر بوّابة "أصدقائها" من رجال الأعمال، وبعض جنرالات العسكر في إطار اللعبة، التي تتقنها بشكل بارع وهي لعبة "الثورة المضادة".
شهر العسل الذي عرفته العلاقات الإماراتية الجزائرية انتهى بوفاة قايد صالح، واعتلاء عبدالمجيد تبّون لسدة الحكم، حيث لم تنتظر أبوظبي كثيراً، لتتخذّ موقفاً معادياً من القيادة الجزائرية الجديدة وتحديداً يوم 12 يونيو/حزيران 2019 بتصريح الرئيس تبّون بأن العاصمة الليبية طرابلس "خطّ أحمر" وذلك بعد لقاء رئيس حكومة الوفاق فايز السراج، وقبلها وزير الخارجية التركي تشاويش أوغلو لتتحرّك "الأساطيل" الإعلامية الإماراتية وتوابعها مهاجمة الموقف الجزائري، واعتباره انحيازاً واضحاً إلى الموقف التركي.
أبوظبي لم تستوعب بشكل سريع "مباشراتية " تبّون ووضوح موقفه من الملفّ الليبي دون مواربة، أو مبالغة في الدبلوماسية، فمن المعروف أن "قصر المرادية" ومنذ عهدة عبدالعزيز بوتفليقة كان متوجّساً من تحرّكات أمير الحرب "خليفة حفتر"، خاصة بعد أن "هدّدها بالحرب" على خلفية دخول قوات عسكرية جزائرية للأراضي الليبية سنة 2018، وهو ما اعتبرته الجزائر "تطاولاً" من مشير متقاعد معروف بفلتاته من على عواهن القول، إذ سبق له أن صرّح في فيديو منسوب له سنة 2014 بأنّ الجزائر تريد نهب ثروات ليبيا.
الموقف الجزائري من الملفّ الليبي، وإن اتّضح مع الرئيس تبّون، فإنّه يعكس العقيدة العسكرية الجزائرية، التي تعتبر أن تواجد فرنسا في ليبيا بدعم إماراتي مصري يمثّل تهديداً للأمن القومي الجزائري، حيث تناقلت تقارير إعلامية فرنسية، الصائفة الماضية كواليس زيارة وزير الخارجية الفرنسي جون إيف لودريان للجزائر العاصمة، وذلك بعد خسارة قاعدة الوطية الاستراتيجية (على تخوم العاصمة الليبية طرابلس)، وسعي المسؤول الأوّل عن الدبلوماسية الفرنسية بطلب إماراتي، إلى إقناع السلطات الجزائرية بتغيير موقفها من الملفّ الليبي، وهو ما قوبل بالرفض، بحسب ما أفاد به موقع موند أفريك.
الانزعاج الإماراتي من الجزائر، وإن لم يطفُ على السطح رسمياً، فإن مؤشّراته كانت ثقيلة عبر "الجفاء " الدبلوماسي والبرود الذي اعترى العلاقات بين البلدين، خاصة بعد زيارة وزير الخارجية التركي تشاويش أوغلو للعاصمة الجزائرية خلال شهر يونيو، والتي سبقتها بأشهر قليلة زيارة دولة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في شهر يناير/كانون الثاني في زيارة وُصفت بالناجحة، خاصة على المستوى الاقتصادي والاستثماري، وتقريب وجهات النظر في الملفّات الإقليمية.
الهرولة نحو التطبيع.. القطرة التي أفاضت الكأس
"نلاحظ هرولة بعض الدول نحو التطبيع مع إسرائيل ونحن لا نبارك هذه الخطوة، ولا نشارك فيها فالقضيّة الفلسطينية قضيّة مقدسة لدى القيادة الجزائري، والشعب الجزائري برمّته ..".
كان هذا التصريح للرئيس عبدالمجيد تبون يوم 21 سبتمبر/أيلول خلال حوار أجراه مع قناة تلفزيونية محلية، تصريح انتقد فيه "هرولة بعض الدول نحو التطبيع" مع إسرائيل، وهو ما أثار حفيظة دولة الإمارات، باعتبارها القاطرة التي تجرّ قطار التطبيع في المنطقة بعد إمضائها اتفاقية مع تل أبيب برعاية أمريكية منتصف شهر سبتمبر.
انزعاج أبوظبي تُرجم -بحسب ما نشره موقع maghreb intelligence الفرنسي في تقرير خاص، عبر رسالة "تهديد" وجّهتها إلى قصر المرادية، في شهر أكتوبر/تشرين الأول، عبر اللواء عبدالغني الراشدي الملحق العسكري السابق للجزائر في أبوظبي، والرئيس الحالي للمديرية العامة للأمن الداخلي، حيث أكّدت القيادة الإماراتية أنّها لن تتردّد في تبنّي إجراءات اقتصادية وسياسية ضدّ الجزائر إذا ما واصلت القيادة الجزائرية في هذه السياسة المعادية لأبوظبي.
وبحسب التقرير، فإنّ الإمارات لوّحت بلعب ورقة التعاون الاقتصادي الثنائي باعتبار أنّها من أكبر المستثمرين في الجزائر.
وبحسب ذات المصدر، فإنّ اللواء عبدالغني قد نقل الرسالة بسرعة كبيرة إلى الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون الذي امتنع عن الردّ.
وأكّد التقرير أن توتّر العلاقات بين الجزائر ودولة الإمارات انطلق منذ الصيف الماضي، بامتعاض أبوظبي من تقاطع الموقف الجزائري الرسمي تجاه الملفّ الليبي مع الموقف التركي، وبعض الملفّات الإقليمية الأخرى.
وأضاف الموقع الفرنسي أن التوتّر بلغ ذروته بعد تصريحات الرئيس الجزائري المنتقدة لهرولة بعض الدول العربية إلى التطبيع مع إسرائيل، فيما اعتبر لدى أبوظبي رسالة عدوانية من الجزائر الرسمية تجاهها.
التقرير الفرنسي حول ردّة الفعل الإماراتية من الجزائر، تتقاطع مع تحرّكات أبوظبي على أرض الواقع بلعب ورقة التوازنات في شمال إفريقيا، وإثارة القلاقل بزرع بذور الفتنة بين الأشقّاء حيث أعلنت رسمياً بداية شهر نوفمبر، عن افتتاح قنصلية لها في العيون المغربية، كنوع من الاستفزاز للجانب الجزائري وما تمثّله قضية الصحراء الغربية من حساسية.
أبوظبي تعي جيداً أنّ الجزائر، العملاق الإقليمي، رقم صعب في أيّ معادلة مهما كان شكلها في المنطقة، بقوّة الأمر الواقع، ولن يجرؤ أي طرف على تجاوزه قبل الإقدام على أي تحرك في محيطه وفي عمقه الاستراتيجي باتّجهاته الأربع، وهو ما يمكن أن نستشفّه من الندّية التي تعامل بها الرئيس الجزائري مباشرة بعد انتخابه مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، حيث اعتبر أنّه لا يعير اهتماماً لمقترحاته، وأنّ الشأن الجزائري يهمّ فقط القيادة الجزائرية والشعب، وذلك ردّاً على سؤال صحفي تعلّق باقتراحات قدّمتها باريس للقيادة الجزائرية الجديدة، في علاقته بالتعامل مع الحراك الشعبي، أو من خلال الاستقبال الباهت لوزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان خلال زيارته للجزائر في بداية شهر نوفمبر (استقبله مدير ديوان وزير الداخلية في المطار)، والتجاهل الإعلامي، فيما اعتبره المراقبون رسالة واضحة للإليزيه، بعد إطلاق سراح عناصر إرهابية خطيرة في مالي على الحدود مع الجزائر.
من نافلة القول أنّ منطقة شمال إفريقيا أحد أهمّ الأهداف الأساسية للإمارات، في مخطّطها الإمبريالي، حيث تسعى "إسبرطة الصغيرة " (تسمية الجنرال الأمريكي جيمس ماتيس للإمارات الدولة الصغيرة التي تريد لعب دور أكبر من حجمها في المنطقة) إلى احتواء بلدان المنطقة بعد نجاحها في مصر صيف 2013 في الانقلاب على الرئيس الشرعي المنتخب محمد مرسي، وتنصيب وكيلها عبدالفتّاح السيسي، ثم نجاحها نسبياً في شرق ليبيا عبر دعم المشير المتقاعد خليفة حفتر، والتخطيط لاجتياح العاصمة طرابلس، كما تحاول منذ سنوات اختراق الساحة السياسية التونسية في محاولة لتعطيل المسار الديمقراطي بعقيدة طحنون بن زايد مستشار الأمن القومي الإماراتي "دع الدرهم الإماراتي يصرخ"، فهدف أبوظبي هو احتواء الجزائر أو تحييدها كحدّ أدنى، عبر الضغط والتلويح بسحب الاستثمارات واللعب على التوازنات، وتغذية الصراعات الإقليمية في بلد كان ولا زال عقبة كأداء أمام المشروع الإماراتي، وحلم أبناء زايد في إمبراطورية من مضيق باب المندب شرقاً إلى نواكشوط غرباً.
المصادر:
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.