شعور غريب أن تطلّ برأسك داخل عالم شديد الخصوصية وبالغ الحساسية، كعالم قصر باكنغهام في لندن، حيث تجلس الملكة إليزابيث الثانية منذ أكثر من ستين عاماً على العرش. وفي الحقيقة لم أشعر بعد مُتابعتي لحوالي 40 ساعة، على مدار 4 مواسم، من أحداث مسلسل The Crown، أنّني أطللتُ برأسي فقط، بل شعرت كما لو أنّي دخلت هذا القصر الملكي لبريطانيا بذاته، وجلست فيه على مقعدٍ مخصّص لي وحدي، لأتابع مرور أهم الأحداث التي جرت به، بداية من منتصف القرن الماضي، وخلال ما يقرب من خمسين عاماً بعدها..
جلست على مقعدي المريح هذا، لأتابع بشغفٍ حقيقي حياة هذه الأسرة الملكية. هذه الحياة التي ظننتها حياة مختلفة، عن حياتنا نحن البشر "العاديين"، ولكن كانت الدهشة من نصيبي في النهاية. ولم تكن وحدها، بل كان هناك شعور آخر بالحسرة على هؤلاء البشر، الذين امتلكوا كل شيء، من جاهٍ وأموالٍ وسلطةٍ تقترب إلى حد التقديس، ولكنهم خسروا مع ذلك- أغلبهم على الأقل- أبسط معاني الإنسانية، وهو معنى الحريّة.
الـ Fairy tale الأكثر حُزناً في العالم
ملايين الأشخاص حول العالم شاهدوا الموسم الجديد من مسلسل The Crown، الذي بدأ عرضه على شاشة نتفليكس في منتصف نوفمبر الحالي، وأزعم أنّهم شعروا مثلي بالحزن يُخيّم على قلوبهم في هذا الموسم، بأكثر مما شعروا في أي موسمٍ سابق، وذلك لظهور شخصية الأميرة ديانا به، وهي المعروفة باسم أميرة القلوب، والناتج عنه، عرض قصتها المأساوية مع ولي العهد الأمير تشارلز.
إذا لم تكن سمعت يوماً بالقصة الشهيرة التي تحكي عن الفتاة ذات الـ19 عاماً، التي تعمل كمساعدة لمعلمة في روضة للأطفال، والتي تزوجها الأمير تشارلز، ولي العهد، والملك المنتظر، فأنصحك ألا تُكمل قراءة، وتبدأ في مشاهدة مسلسل The Crown على نتفليكس، أو من الممكن أن تبحث عن هذه القصة بتفاصيلها الكثيرة والممتعة، ضمن عشرات المصادر من وثائقيات وأحاديث تليفزيونية وصحفية وكتب أيضاً.
أما إذا أحببت أن تعرف ما هي القصة بإيجازٍ.. فاستمع إليّ..
" في يوم من الأيام، كانت هناك فتاة جميلة، وقعت في غرام أمير وسيم، للأسف كان الأمير يحب امرأة أخرى بالفعل، والتي كانت تحب بدورها رجلاً آخر، وعاشوا جميعاً في تعاسة للأبد".
كان هذا مُلخَّصاً مُدهشاً ودقيقاً، للقصة الحزينة التي جمعت بين الأمير تشارلز وديانا سبنسر، من وجهة نظر الأميرة آن شقيقة الأمير تشارلز.
وهو ما نعرف منه أنّ الأمر كان بالنسبة لديانا سبنسر، الشابّة الساذجة، التي لا تمتلك خبرات حقيقية في الحياة، كالقصة الخرافية، التي تلتقي فيها الفتاة الجميلة بالأمير الوسيم، فيقعان في غرام بعضهما على الفور، وتنتهي القصة حينما تبدأ حياتهما السعيدة، أي بزواجهما.
ولكن كان الأمر مختلفاً بالنسبة للأمير تشارلز، فكانت ديانا تُمثل له الزوجة المثالية، التي يُحبها الشعب، ويُحبّها القصر، حتى إنّ الكاميرا تُحبّها، في حين أنّ قلبه هو، وهو زوجها، مُتعلقٌ بامرأة أخرى.
لم تكُن هذه القصة ضمن قصص الـ Fairy Tales، والتي تعني قصة خرافية أو خيالية، كما لم تكن قصة رومانسية على الإطلاق، بل كانت أقرب إلى القصص السوداوية، التي لا تخلو من عبث قاسٍ.
ثالوث الحب لم يكن ثُنائياً أبداً..
استوقفتني كثيراً هذه الحكاية، ورغم أنّي أعلم الكثير من التفاصيل الحقيقية للقصة، إلا أنّ رؤية هذا الكم من الصدق في الأداء، والتشابه في الأحداث بين الواقع، ومشاهد المسلسل المصوّرة، كان باعثاً لي على التعاطف إلى حدٍ بعيد، مع ثالوث هذه القصة، ديانا، تشارلز، وكاميلا.
فتاة تحب فتى يحب فتاة تحب فتى آخر.
ديانا تحب تشارلز، الذي يُحب كاميلا، والتي تحب بدورها زوجها الخائن، الذي لا يبدو بأنه يعبأ بها على الإطلاق.
بالنسبة لي يختلف الأمر كثيراً، حينما تُسرد القصص من خلال الشاشة، لأنّني حينها أتمكن من رؤية الانفعالات على الوجوه، ومن سماع نبرة الصوت التي لترددها معنًى لا يُمكن إخفاؤه، والتقاط جميع التفاصيل الأخرى، التي لا يُمكن للكلمات المكتوبة وحدها أن تُعبّر عنه. ولهذا، كان لقصة تشارلز وديانا أثر كبير عليّ، وعلى أغلب من شاهدوها معي، لأنّنا كمشاهدين، رأينا بداية ثالوث الحب هذا، حينما كانت القصة ثُنائية فحسب، أو حسبما كان يظن الأمير تشارلز في علاقته بكاميلا، قبل أن تدخل الأميرة ديانا فيها، وفي الحقيقة، لا توجد أية علاقة ثُنائية في قصر باكينغهام، فدائماً ما يكون "التاج" حاضراً، وبقوة في أية علاقة عاطفية تجري تحت سُلطته.
الدُخلاء ضحايا التاج
كانوا ضحايا، نعم.. ولكنّهم لم يكونوا أبرياء، كانوا جُناةً أيضاً، جميعهم، تشارلز وكاميلا وديانا، تشارلز الذي تخاذل وجبن عن أن يواجه الملكة بعشيقته السريّة المتزوجة، التي سبق أنّ فرّق بينهما التاج قبل زواجها، وبدلاً من أن يُطالب تشارلز بحقه في الحب، قرر أن يعلن للشعب الإنجليزي عن اختياره للزوجة المثالية، التي تبدو مناسبة جداً لدور الملكة المستقبلية، وبدأ تشارلز في التعامل مع ديانا كدُمية جميلة، ستلعب دورها في الوقت المناسب، وبدون أية اعتبارات لمشاعرها.
وكاميلا، التي لم تتراجع، وتمسكت بحب تشارلز الذي كان نوعاً من أنواع المواساة، والتي تُلهيها عن إهانات زوجها الذي تعشقه، لمشاعرها المُهدرة تجاهه.
وديانا التي لم تستطع أن تبقى صالحة في هذا القصر الفاسد، ففسدت هي الأخرى، وانحرفت، وتلوثت سيرتها التي كانت بريئة، فردّت الأذى بأذى، والخيانة بخيانة.
جميعهم في رأيي أصبحوا جُناة، بعدما كانوا ضحايا سابقين، للتاج الملكي المتمثل في الملكة، التى منحت للحب شروطاً قاسية، لم تنجح في تخطّيها مارغريت أخت إليزابيث مع حب حياتها المتزوج بأخرى، ولم ينجح فيها عمّها إدوارد الثامن الذي أحبّ امرأة مطلقة إلا بعد تنازله عن العرش، ولم ينجح فيها أيضاً ابنها تشارلز، الذي لم تكن كاميلا تُناسب مكانته وطبقته الاجتماعية.
جنى التاج عليهم حينما سلبهم حقهم المشروع في اختيار شريك حياتهم بما يتوافق مع مشاعرهم، ومع ما يرغبون فيه فعلاً، لا مع ما هو مفترض أن يكون.
هذا الثلاثي الذي من الصعب أن تُشير نحوه بإصبعك لتحدد من هو المخطئ في هذه القصة، هل هو ضعف تشارلز؟ أم أنانية كاميلا؟ أم سذاجة ديانا المتناهية؟
كلهم في النهاية "دخلاء"، وهي الكلمة التي ذكرها فيليب زوج إليزابيث لديانا، في الحلقة الأخيرة من الموسم الرابع، ليهوّن عليها ألمها وشعورها بالوحدة الناتج عن دفع تشارلز لها بعيداً عنه. نعم كلهم دُخلاء على هذا القصر، بمن فيهم هو زوج الملكة، وتشارلز ابنها، وبالتالي ديانا نفسها، فالتاج في نهاية الأمر مهما كبر حجمه، لا يستقر إلا على رأس شخصٍ واحدٍ فقط كما نعلم.
الخط الفاصل بين الواقع والخيال في مسلسل The Crown
وكما حصل مسلسل The crown على مشاهدات عالمية من الملايين من المشاهدين، فالكثيرون جداً ممن انتهوا من مشاهدة الموسم الرابع منه، وأنا واحدة منهم، بدأوا بمشاهدة الفيلم الوثائقي Diana: In her own words الذي صدر عام 2017، والذي تحكي فيه الأميرة ديانا في تسجيلاتٍ صوتية سرية، قصة زواجها بنفسها منذ البداية. وشاهدت ذلك الوثائقي في محاولة مني، للتفريق بين الحقيقة والخيال في هذه القصة التي خلّدها الزمن.
ولا أُخفي انبهاري بكمّ التفاصيل التي ظهرت على الشاشة والمأخوذة من التاريخ الذي حدث بالفعل، بداية من إجادة الممثلين للكنّة البريطانية العتيقة، واستخدام الملابس ذاتها، والتركيز على الأحداث الشهيرة التي لا يجب الإغفال عنها، واختيار الممثلين ليكونوا نسخة قريبة من الشكل والأسلوب الخاص بالعائلة المالكة، كل هذا وغيره الكثير مما أبدع فيه فريق عمل المسلسل، وعلى رأسهم الكاتب الإنجليزي Peter Morgan.
وقد وجدت الكثير من التفاصيل التي كان الكثير منها صحيحاً، بينما لم يكن بعضها دقيقاً، بخلاف أنه تم إغفال العديد من الأحداث الهامة نسبياً، والتي لم تُذكر في المسلسل، ربما لحساسية الموقف والأشخاص، فمن الغريب أن تصنع سيرة حياة لأهم شخص في بريطانيا على مدار ستة عقود من الزمن، بينما هو لا يزال يحيا، وبإمكانه مشاهدة كل هذه الأحداث الخاصة جداً، التي قد مر بها يوماً، بل مشاركتها مع الملايين من الناس أيضاً.
في النهاية.. هذا العمل بما يحمل من حقائق واستنتاجات، وحتى أخطاء، جدير بالمشاهدة فعلاً، لأنه قادر على أن يُغيّر المفهوم الشائع عن حياة الملوك والمشاهير من الناس، كما أنّ الموسم الأخير منه، والذي مسّ القلوب صدقاً، قادر على تطهير مشاعرك، التي ربما لوثّها العالم بذاته، لتنظر بعمقٍ إلى كل حكايات حياتك، التي ظننتها قصصاً خيالية جميلة، فاكتشفت أنّها لم تكن إلا واقعاً بائساً لحياة تبدو كالحُلم الهادئ الجميل من الخارج، بينما هي في داخلها صحراء يابسة لا نهاية لها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.