أثار حدث اعتزال حليمة عدن عارضة الأزياء الأمريكية ذات الأصول الصومالية المسلمة حليمة عدن ضجة كبرى، وذلك بعد تصريحاتها القائلة بأنّ عالم صناعة الموضة قد تعارض مع معتقداتها الدينية والتي دفعتها إلى تقديم تنازلات كبرى فيما يخص دينها وهويتها.
قبل سنوات قليلة كانت حليمة عدن محطّ أنظار الجميع لكونها امرأة سوداء مسلمة ومحجبة، في عالم يسوده الإسلاموفوبيا، لكنّها نجحت في لفت الأنظار إليها بإطلالتها المميزة، وأيضاً بتصريحاتها التي تحدثت فيها من تحوّلها من عاملة نظافة إلى عارضة أزياء عالمية، وأكدّت فيها على ضرورة الكسب الشريف.
لم تكن حليمة عدن العارضة المسلمة المحجبة الوحيدة في عالم عروض الأزياء فقد شهدنا صعود أسهم عارضات أخريات مثل مواطنتها شهيرة يوسف والبريطانية إكرام عبدي عمر، وهو ما دفع العديد إلى تثمين التنوع في عالم صناعة الموضة وعدم اقتصاره على نموذج واحد واعتبار أنّ الموضة لا تستثني المحجبة ولا تقصيها خارج آخر صيحاتها.
جاءت تصريحات حليمة عدن ضدّ المتفائلين بدمقرطة وأنسنة الموضة لتؤكد أن هذا العالم ليس وردياً كما يصوّر وليس مبهجاً كإطلالة العارضات فوق البوديوم، إنّه عالم قاس ولا يحكمه سوى قانون الربح، ومن يدخله يجب أن يقبل بقانون اللعبة أو يغادرها وينسحب من أضواء الشهرة والثروة، إنّ الحديث عن التنوّع داخل عالم الأزياء في المركزية الغربية ليس إلا خدعة كبيرة.
نظرة الغرب إلى الأنثوي المخفي: الحجاب
لم تخرج صورة حليمة عدن عن المعايير العالمية لعارضة الأزياء إضافة إلى حجابها ولونها، وهو ما عزز رغبة صناع الموضة في الربح السريع وجذب أسواق جديدة، أي الدول المسلمة والتي تلبس نساؤها الحجاب.
لم يكن التعامل مع حليمة من باب محاربة الإسلاموفوبيا والنظرة المعادية للمسلمين والتأكيد على حرية المرأة والتي من حقها أن تلبس الحجاب برغبتها، وهي النظرة المغايرة لما نعرفه عن نظرة النسوية البيضاء المعادية للحجاب واعتباره اضطهاداً مباشراً للمرأة المسلمة، فحسب تعريف معجم أكسفورد الإنجليزي للحجاب فهو "قطعة ملابس ترتديها النساء خصوصاً لإخفاء الوجه أو حمايته" والإخفاء هنا له دلالات أخرى، فهو حسب الكاتبة التركية ميدا يينغو غلو فهو "شيء يحجب الطبيعة الحقيقية لشيء ما، أي يمنع عن النقاش يحفظ من المعرفة العلنية.. وهو الذي يحجب عن الإدراك أو المعرفة أو الإدراك الحسي" في انتقادها للنظرة الاستشراقية لحجاب النساء.
فكيف تحوّلت حليمة عدن التي تمثل غموض الشرق الرافض إلى كشف وإظهار نسائه حسب نظرة الرجل الأبيض إلى أيقونة في عالم الموضة؟ سؤال يمكن الإجابة عنه بسهولة إن بحثنا في عقيدة المركزية الغربية التي لم تؤمن يوماً بالاختلاف بل آمنت بالتنوّع والتعدد، فحليمة لم تكن إلا ضحية شعار فضفاض حول التعدد والتنوّع في الغرب ومحاولة امتصاص لغربة وعزلة الآخر في مجتمعات المركزية الغربية، خاصة بعد صعود اليمين المتطرّف والذي هاجم المهاجرين والمسلمين وأيضاً من أجل استغلال هذا الآخر اقتصادياً من خلال ترويج بضاعتهم.
كانت الرغبة في الربح محرّكاً لدخول عدن مجال عرض الأزياء، فحسب تصريحاتها الأخيرة لم يتمّ التعامل مع حليمة كإنسان مختلف له هويته الخاصة وطقوسه ومن المفترض احترامها، لقد تمّ تجاهل اختلافها، في المقابل اشتغل الإعلام الغربي على صورتها لتأكيد التنوّع بطريقة استعلائية، من أجل تثبيت صورة الأنا المهيمن ضدّ الآخر المختلف، فعمل حليمة عدن في عروض الأزياء كرّس بشكل ضمني هيمنة الغرب في الحديث عن الآخر وإعادة إنتاجه بما يوافق حضارته وقيمه.
صناعة الموضة أو صناعة الاستعباد
لم يكُن حجاب حليمة عدن عنوان قبول الاختلاف داخل مجتمعات المركزية الغربية بقدر ما كان هامشاً للربح السريع، وتحويله إلى سلعة في سوق العرض والطلب، وهو ما يعرّي فظاعة عالم صناعة الموضة التي كانت بوّابة جهنم على الكثيرات اللواتي دخلن هذا المجال سعيدات ليخرجن فيما بعد تعيسات وقد وجهن تهماً كثيرة لصنّاع الموضة.
شكلت صناعة الموضة منذ بداية القرن العشرين (1920) منعطفاً كبيراً في تحوّلات الجسد الأنثوي فأصبحت الساقان الطويلتان والرشيقتان مثالاً لجمال المرأة ومحط استثمار لصناع الموضة، على إثرها خضع الجسد الأنثوي إلى قوانين صارمة من أجل دخوله عالم الأضواء، لقد تحوّل هذا الجسد إلى جسد استعراضي لا يمتّ بصلة إلى صاحبته بل يتصل مباشرة بصناع الموضة وما يرغبون في ترويجه، ليؤكد بشكل ضمني المقولة الشهيرة "الفتاة الجميلة هي حادثة طارئة، إلا أنّ المرأة الجميلة هي إنجاز مكتمل". وهو ما ينطبق على عارضة الأزياء التي تحوّلت إلى رمز الجمال التجاري يعمل على اكتمال عناصره شركات كبرى في لوازم التجميل والعطورات وصولاً إلى الأزياء والأحذية والحقائب، هو جسد منفصل عن العامة له مقاييسه الخاصة والقاسية ليكون محط عدسات المصورين ومتصدّراً أغلفة أشهر المجلات.
فضح موت عارضة الأزياء المراهقة الروسية في الصين "فلادا دزيوبا "(14 عاماً) قبل سنوات قليلة بشاعة عالم الموضة وذلك بعد استغراقها في العمل لساعات طويلة دون راحة، وسلطت حادثة موتها على استغلال القاصرات في مجال عروض الأزياء.
وفي تصريحات لعارضة الأزياء العالمية "كارا ديفيلين" لصحيفة "وول ستريت جورنال" قالت فيها العارضة إنّ أجساد العارضات يتحكم بها المصممون فلا مجال لاكتساب الوزن، علماً أنّ مقاس العارضات يجب أن يكون ملائماً للمقاييس العالمية، إذ يجب أن يكون مقاسها مقاس الصفر وهو أصغر مقاييس الموضة، ما أدّى إلى خلق الهوس بالحميات الغذائية القاسية في صفوف عارضات الأزياء اللواتي إن اكتسبن غراماً واحد سيفقدن عملهن.
تناقلت بعض المواقع الإعلامية أغرب الحميات الغذائية لعارضات الأزياء مثلاً كابتلاع كرات القطن والتي تمثل خطراً كبيراً على الصحة وغيرها من الوصفات الغريبة من أجل المحافظة على الوزن المثالي لعارضة الأزياء المهددة في كل وقت بفقدان عملها إن استجابت لنمط غذائي طبيعي.
أصبح النحول ميزة أجساد عارضات الأزياء بل سبب تفردهن وجمالهن فـ"خطوط القوام هذه التي هي بمثابة رهان على النجاح وهذا الاطمئنان على الأناقة والحركة.. إنّها امرأة ناحلة حيوية مليئة بالنشاط" حسب عبارة جورج فيغاريلو في كتابه "تاريخ الجمال". لقد غيّرت صناعة الموضة نظرة الإنسان إلى الجسد الأنثوي، فالنحول والنحافة من صفات الجمال المكتمل والبدانة وزيادة الوزن من علامات فشل المرأة في مواكبة تطوّرات العصر الراهن.
إنّ الصرامة المتبعة في تحديد مقاييس أجساد العارضات هي تجديد لدماء الاستعباد في عصرنا الحديث، بوصف هذه الأجساد أداة تسويقية لبضائع شركات الأزياء، يجب ضبطها وفق مقاييس صنّاع الموضة على حساب صحة العارضات.
الغرف المظلمة لصناعة الموضة: تحرّش واستغلال جنسي وعنصري للنساء
وفي عودة إلى تصريحات عارضة الأزياء الأمريكية "كارا ديفيلين" والتي تحدثت في جزء منها عن استغلال المراهقات جنسياً وتعرضهن إلى التحرّش أو إجبارهن على تقديم رشاوى جنسية، وهو ما يعزز صحة عشرات الشهادات لعارضات أزياء عالميات تحدثن فيها عن تعرّضهن إلى التحرّش أثناء عملهن.
وفي تصريحات عارضة الأزياء كاميرون راسل قالت إنّ العنصرية تحكم عالم الأزياء بسبب تفاوت الأجور بين العارضات بسبب لونهن، فالبيضاء هي الأغلى سعراً والسمراء أقل منها وتأتي النساء ذات الأصول اللاتينية في أسفل القائمة، وفي تصريح العارضة الشهيرة ناعومي كامبل سنة 2014 ذكرت هذه الأخيرة معاناتها بسبب لونها الأسود في بداية مشوارها الذي أدّى في بعض الأحيان إلى رفضها.
إنّ صناعة الموضة التي خطفت أبصار النساء والرجال على حدّ سواء، والتي جعلت من عارضة الأزياء أيقونة تحلم بعض النساء بامتلاك خصرها، ليست إلا ضحية هذه الصناعة التي جعلتها دمية جميلة تتحكم بتفاصيل جسدها وملامح وجهها، وإن خرجت عما رسم لها المصممون ستكون خارج دائرة الأضواء، إنّه ثمن باهظ أن تدخل عالم الموضة وتصبح إحدى أيقوناته، ثمن لا يمكن أن يدفعه الجميع والخروج من هذا العالم تحرر من الاستعباد البرّاق، فهل استرجعت حليمة عدن إحساسها بالحرية بعد خروجها من هذا العالم؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.