الرجل الأبرز في تاريخ الخرطوم.. هل ينتهي جيل الكبار في السياسة السودانية برحيل الصادق المهدي؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/11/29 الساعة 08:51 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/11/29 الساعة 08:52 بتوقيت غرينتش
رئيس الوزراء السوادني الأسبق الراحل "صادق المهدي" / رويترز

فُوجئت الأوساط السياسية في السودان نهاية الأسبوع المنصرم بخبر وفاة الإمام الصادق المهدي، رئيس الوزراء الأسبق وزعيم حزب الأمة وإمام طائفة الأنصار ذات التأثير الكبير في السياسة السودانية خلال القرن الماضي، عقب إصابته بفيروس كورونا المستجد هو وعدد من أفراد عائلته مطلع الشهر الحالي. وقد نُقل الراحل إلى الإمارات بطائرة خاصة قبل ثلاثة أسابيع للعلاج بعد أن ساءت حالته الصحية، إلى أن أُعلن عن وفاته فجر الخميس الماضي. والصادق المهدي له تأثير كبير وسط حزبه، الأمر الذي يجعل وفاته بمثابة صدمة للحزب لا يتوقع أن يخرج من تأثيرها قريباً.

وُلد الصادق المهدي في أم درمان في العام 1935، ودرس الابتدائية في أم درمان والجزيرة أبا، والمدينتان تعتبران من معاقل طائفة الأنصار. وفي الجزيرة أبا تلقى علوم القرآن، ليعود إلى أم درمان ويواصل تعليمه المتوسط، ويبدأ تعليمه الثانوي في مدرسة إنجيلية ويحاول إكماله في مدرسة قبطية في مدينة الإسكندرية بمصر، لكنه قطع تعليمه الثانوي احتجاجاً على ما سمّاها بـ"البيئة غير المحتشمة" في المدرسة، ثم يعود ليمتحن للشهادة الثانوية من منزله ويغادر إلى بريطانيا للدراسة الجامعية. ويعرض أيضاً عن دراسة الزراعة ويتحوّل لدراسة الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة أكسفورد، التي تخرّج فيها في العام 1957، ليعود إلى السودان ويعمل بوزارة المالية لسنة واحدة، يتركها بعدها للتفرّغ للعمل السياسي والنقابي.

ترأس المهدي الجبهة القومية المتحدة التي أُنشئت لمجابهة الحكم العسكري بقيادة الفريق إبراهيم عبود في العام 1961، ليرث والده في رئاسة حزب الأمة في العام 1964، ويصير بعدها رئيساً للوزراء عقب ثورة أكتوبر (تشرين الأول) الشهيرة في العام 1966، وعمره لم يتجاوز الثلاثين. وتم اعتقاله بعد انقلاب جعفر النميري في 1969 ليُنفى إلى القاهرة، ويشارك بعدها في "انتفاضة شعبان" في 1973، والتحرك العسكري المدعوم من القذافي في ليبيا في 1976، ليعود إلى البلاد بعد المصالحة الوطنية مع نميري ويصبح رئيساً للوزراء مرّة ثانية، عقب فوز حزبه بعد الإطاحة بالنميري في 1986.

اعتُقل المهدي مرةً أخرى في 1989، بعد انقلاب الإسلاميين الذي قاده عمر البشير، وزُج به في السجن لعدّة أشهُر مع عدد من قيادات الأحزاب السياسية حينها، ليُنقل بعدها إلى الإقامة الجبرية لعامين، سُمح له بعدها بالحركة داخل حدود العاصمة الخرطوم فقط. وحاول بعدها ممارسة المعارضة السياسية من الداخل، لكن المضايقات الأمنية خلال فترة التسعينيات العصيبة أجبرته على مغادرة البلاد سراً بالبر إلى إريتريا، في عملية سرية أُطلق عليها حينها "تهتدون"، ليعود إلى البلاد في العام 1999، بعد لقاء له مع البشير في جيبوتي، ويمارس المعارضة السياسية من الداخل. وغادر البلاد بعدها عدّة مرات اعتراضاً على ممارسات نظام البشير، كان آخرها في العام 2018، حيث استقر في القاهرة لفترة، وأُبعد بعدها بطلب من حكومة البشير، ليغادر إلى لندن، ثم يعود إلى الخرطوم أواخر العام 2019 مع بدايات الثورة التي أطاحت بالبشير.

ولم تخلُ حياة الرجل السياسية التي استمرت لستة عقود من الزمان من اتهامات لشخصه، حيث اتُّهم في 1966 بالتواطؤ داخل دوائر الحزب للإطاحة برئيس الوزراء ووزير الخارجية حينها محمد أحمد المحجوب، من أجل أن يصبح هو رئيساً للوزراء، كما اتُّهم بأن مصالحته مع النميري في 1978 كانت مفاجئة لحلفائه، وأنها كانت مصالحة بين شخصين أكثر من كونها "مصالحة وطنية" كما أُطلق عليها حينها. وفي العقد الماضي حاصرت الاتهامات الراحل بأنه متصالح مع نظام البشير ومستفيد منه، حيث تساءل كثيرون كيف يمكن أن يكون أحد أبنائه مساعداً لرئيس الجمهورية (البشير)، والآخر ضابطاً في جهاز أمنه.

آخر الاتهامات والهجمات القوية تجاهه كانت حول موقفه من الثورة التي قادها الشباب وأطاحت بالبشير العام الماضي، حيث رأى الكثيرون أن موقف الراحل كان ضبابياً ومتماهياً مع النظام بنظر الكثيرين، حيث أطلق على الثورة في بداياتها أوصافاً قلّلت من شأنها. كما خرج ببيان قبل الإطاحة بالبشير بأيّام ينفي خروجه في تظاهرة ضد النظام، قائلاً إنّ المظاهرة المزعومة هي تجمع لأنصاره وهو خارج من المسجد بعد صلاة الجمعة للتعزية في وفاة قرب المسجد. وقد تسببت هذه المواقف في خروج الكثير من شباب الحزب منه والاندماج في الثورة من دون أي ولاءات سياسية، وأدّى ذلك بالتالي إلى إضعاف الحزب الذي يعاني سلفاً من مشاكل عدم تجدّد الدماء داخله وعقدة سيطرة آل المهدي عليه.

من الانتقادات التي واجهها الفقيد أيضاً تبدّل مواقفه السياسية بصورة متكررة، حيث خالف قوى الحرية والتغيير التي تعتبر حاضنة سياسية للحكومة الانتقالية الحالية في عدّة مواقف، آخرها موقفه (أو موقف حزبه) من التطبيع مع إسرائيل. في وقت يعرف فيه غالبية السياسيين السودانيين أن حزب الأمة هو من أوائل الأحزاب التي كانت لها اتصالات مع قيادات إسرائيل منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي برعاية بريطانية. وقد يقول قائل إنّ هذه التحركات قُصد منها مواجهة التحركات المصرية مع الحزب الاتحادي للوحدة مع مصر، لكن هذا القول مردود عليه بأن المبادئ لا تتجزّأ.

هناك من يعتقد أنّه كان من الأفضل للراحل أن يكون مستشاراً "ومنظّراً" وأباً روحياً لحزبه، على أن يكون رئيساً للحزب ورجل دولة. حيث يتطلّب الحكم أشخاصاً أقوياء في اتخاذ القرار وفي الصراع السياسي. وفي سياق نقده له قال وزير الخارجية الأسبق منصور خالد إن المهدي "يعيش تناقضاً بين أكسفورد والجزيرة أبا"، في إشارة الى الصراع الداخلي بين إيمانه بالديمقراطية التي تعلمها في جامعة أكسفورد، وبين العقلية الطائفية والاعتقاد في الزعامة الدينية لأسرته في الجزيرة أبا، معقل طائفة الأنصار التي يتزعّهما. أيضاً هناك من يعتقد أن من طباع الراحل التردد وعدم اتخاذ قرارات مصيرية. وهناك من يعتقد أنه المتسبب الرئيسي في فشل الحكومات الديمقراطية المنتخبة خلال النصف قرن الماضي، لكن الناظر للوضع في كل الأحزاب السودانية يجد أن الراحل وحزبه ليسا استثناءً بالنسبة للقيادة والممارسة السياسية وسيطرة الأسر والأشخاص بدلاً من البرامج والأفكار.

ورغم اختلاف الكثيرين مع المهدي في أفكاره وأفعاله، فإن الجميع يشهدون له بعفة اللسان فيما يتعلّق بالرد على من يهاجمه أو يسيء إليه، كما يشهد له الجميع بالممارسة السلمية للسياسة بينما هو رئيس لحزب عُرف أنصاره بالعنف والطائفية. وقد شهد له الكثير من خصومه السياسيين بهذا، آخرهم رئيس حركة تحرير السودان عبدالواحد محمد نور، الذي نعاه قائلاً إنه انتقده نقداً قوياً في لقاء لهما في باريس قبل أعوام قليلة، لكن الراحل تقبّل النقد بصدر رحب. وهو أمر قليل الحدوث في الممارسة السياسية السودانية، وعن منصور خالد قال المهدي ناعياً إياه: "لم أبادله الودّ في حياته، لكني لم أبادله ما أصابني لقوله وفعله من تجريح. وفي مماته أستمطر له رحمة الله التي وسعت كل شيء.. ولأسرته الخاصة وأصدقائه في المجالات المختلفة حسن العزاء. إنسانيات أهل السودان لا تنكر الاختلافات، ولكنها تتجاوز حدتها بالتسامح الذي حافظ على درجة من الوصال رغم ويلات الاستبداد وجراحات الحرب الأهلية".

من الصعب الحديث عن الوضع السياسي في السودان خلال النصف قرن الماضي دون المرور على اسم الصادق المهدي، حيث كانت له أدوار بارزة في مختلف الأنظمة السياسية في السودان، عسكرية كانت أو مدنية خلال الفترة من 1964 إلى 2020. وخلال مشاركته في الحكم كرئيس وزراء لمرّتين، ومشاركته في المعارضة للأنظمة العسكرية، كان المهدي دوماً في مركز الأضواء. وكانت تصريحاته وعباراته المستحدثة حديث مجتمع السياسيين والإعلاميين في السودان. رحم الله الفقيد وأحسن عزاء أهله وطائفته. وجعلنا من الذين يتجاوزون حدة الاختلاف بالتسامح مثلما ذكر الراحل، والذي يعتبر واحداً من جيل رحل أغلبهم ليتركوا الساحة السياسية لأجيال جديدة تتطلع لمستقبل أفضل للسودان، بعيداً عن الديمقراطيات الطائفية العرجاء والأنظمة العسكرية، التي تأتي وهي حاملة في جعبتها أحزاباً أيديولوجية لم تجد حظاً في الحكم ففضّلت أن تأتي على أسطح الدبابات.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد زمراوي
كاتب وباحث في العلاقات الدولية
كاتب وباحث في العلاقات الدولية
تحميل المزيد