هذا هو الجزء الثاني من مقال حول شراكة السودان والصين في توطين فن الأكروبات الصينية في السودان، كنت قد تناولت في الجزء الأول الملامح الرئيسة للمبادرة السودانية لتأسيس أول فرقة في السودان. وهنا أود سرد المزيد من تفاصيل حول أداء وشهرة الفرقة ثم أختم بمرئيات مقترحة لتطوير الفكرة ومستقبلها في عموم القارة الإفريقية.
الذهاب إلى الصين لقضاء شهر العسل
في أوائل ثمانينيات القرن الماضي كانت أعمار الدفعة الأولي من طلاب الأكروبات قد بلغت أكثر من 20 سنة. وكانوا يَحِنون جداً إلى الأيام الماضية التي قضوها في الصين ويشدهم الشوق إلى معلميهم الصينيين في بداية تدريب الأكروبات. يواصل العم سليم حديثه قائلاً: "وكان هؤلاء الأعضاء الكبار يتحلقون حول المدربين الصينيين أثناء وقت الراحة في قاعة التدريب سائلين عن المستجدات والتطورات في الصين وأحوال معلميهم الأصليين ويتذكرون الحياة الجميلة التي لا يُمكنُ أن ينسوها وعاشوها عند طفولتهم في مدينة ووهان الصينية".
وسألتُه عن حياتهم واجتماعياتهم في السودان وكيف كانوا يقضون أوقاتهم بعد ساعات العمل؟ فأثنى سليم على الشعب السودان وكرمه واستقباله للضيوف ببِشاشة، وقال: أثناء وجود بعثتنا التدريبية في السودان لمدة سنة ونصف تزوج العديدُ من أعضاء الدفعة الأولى. وقد دُعينا لحضور حفلات زفاف عدة مرات. ويضحك ويقول: لدينا مدرب قام بدور المأذون ذات مرة.
وأضاف في ذلك الوقت عادةً كانت تُقام حفلات الزفاف في أفنية المنازل والحضور بعضهم كبار وآخرون صغيرو السن. ويدخل العروس والعريس ببطء في الفناء مع نغمات الموسيقى وزغاريد النساء، ويجلسان وسط الفناء على الأريكة، وأمامهما مساحة شاغرة، في وسطها سجادة كبيرة مطرزة بالزهور يرقص عليها العروس والعريس والضيوف. وعندما تبدأ الموسيقى ترقص العروس والعريس قبل غيرهما. ثم يشترك الرجال والنساء الحاضرون بعدهما في الرقص على أنغام الموسيقى وتؤدي العروس أولاً "رقصة الرقبة" التي تحظى بشعبية واسعة لدى الناس في شمال ووسط السودان. وكانت الشابات يرقصنها في العهود القديمة من أجل العثور على شريك الحياة المستقبلي. أما الآن فيرقصنها حرية فقط لإضافة جو من الدفء والبهجة إلى حفلة الزفاف. وأصبحت "رقصه الرقبة" في ذلك الوقت رقصة لازمة في حفلات الزفاف يجب أن تجيدها العروس قبل الزواج، وبعد فاصل من الرقص من خلال "رقصة الرقبة"، تُبَثُّ من مُكبِر الصوت موسيقى "الديسكو" فيهيج ويَموج الشباب والشابات ويرقصون بكل حماسة ونشاط. وبهذه الطريقة، يؤدون نوعين من الرقص تقليدي وأفرنجي بالتناوب وهكذا يستمرون في الغناء والرقص طوال الليل حتى الساعة الرابعة من صباح اليوم التالي.
وما علم سليم أن حفلات الأعراس طيلة ثلاثة عقود مضت كانت تنتهي عند الحادية عشرة ليلاً، وقد فارقتْ ليالي الأعراس فناءات البيوت إلى قاعات وصالات الأندية والفنادق المغلقة، وذكر أن بعض كبار أعضاء فرقة الأكروبات السودانية قالوا لهم: "بعد الزواج سنذهب إلى الصين لقضاء شهر العسل حيث نزور أساتذتنا ونتجول مرة أخرى عند بحيرة الشرق بمدينة ووهان (مهد الأكروبات السودانية) ونزور سور الصين العظيم والمدينة المحرمة ببكين وقويلين ذات المناظر الجميلة بمنطقة قوانغشي".
صادف 12 أبريل/نيسان 1981 الذكرى السنوية السابعة لتأسيس فرقة الأكروبات السودانية. وبهذه المناسبة نظمت وزارة الثقافة والإعلام السودانية مساء ذلك اليوم حفلاً بهيجاً تكريماً لبعثة المدربين الصينيين.
وحضر الرئيس نميري والسيدة حرمه إلى مسرح قاعة الصداقة برفقة وزير الثقافة والإعلام الدكتور إسماعيل الحاج موسى. وفي المقاعد الخاصة بالضيوف الكبار جلس الرئيس نميري والسيدة حرمه والسيد الوزير والسفير الصيني في السودان السيد سون هان يي في صف واحد يُشاهدون الفِقرات الجماعية التي تمرن عليها أعضاء الفرقة الكبار والصغار خلال سنة مضت.
وبدأ العرض وظهرتْ على الستار الخلفي لخشبة المسرح لافتة كبيرة كتب عليها شعار باللغتين العربية والصينية يقول: "عاشت الصداقة السودانية الصينية". وشكلت الفتيات باستخدام الشرائط الحريرية نجمة خماسية، وأدى الفتيان وراءها حركات الدورة الهوائية والطيران الأمامي. وأدت الفتاة الصغيرة لُبنى البالغة 12 عاماً من عمرها حينذاك فقرة "وضع الكوب على الرأس"، وامتاز أداؤها بالحركة الناعمة والأساس المتين والاسترخاء، ما ترك انطباعاً عميقاً لدى المشاهدين كما قدمت فرقة الأكروبات فقرات توقيف الدراجة، وحمل العمود، والتشكيل الفني بالكراسي، والعجلة العمودية.. وغيرها، الأمر الذي اجتذب رشقات نارية من التصفيق الحار. وعندما رأى المشاهدون فقرة العجلات الجماعية
وفقرة الألعاب السحرية وغيرهما من الفقرات المثيرة المدهشة صفقوا تصفيقاً حاراً كالرعد ورددوا هتافات مطولة.
وفي منتصف العرض أعلن المذيع بدء مراسم التكريم. وصعد الرئيس نميري على خشبة المسرح وابتسامة عريضة تعلو وجهه. وشد على أيدينا بقوة نحن المكرمين الستة قائلاً: "مبروك" -والحديث للأستاذ سليم- ثم علقَ نوطَ الجدارة من الطبقة الأولى على صدر كل واحد منا ومنحنا شهادة النوط الموقعة باسمه والصادرة من قصر الرئاسة. ووسط التصفيقات ونغمات الموسيقى وقفنا أمام رجال الدولة السودانيين وجمهور المسرح وكاميرات المصورين رافعين الشهادات تعبيراً عن شكرنا لحكومة السودان وشعبها على مثل هذا الفخر العظيم بالنسبة إلينا وعن عزمنا على نقل هذه المودة إلى شعب الصين ورجالها المشتغلين بالأكروبات. وبعد هبوطنا من فوق الخشبة صافحنا وعانقنا رجال الحكومة السودانية وقادة فرقة الأكروبات السودانية بمشاركة الإخوان السودانيين إيانا الفرح وجني ثمار الصداقة.
كان الرئيس نميري شخصية قوية وعملية وجدول أعماله مليء بالمهام الرئاسية طوال يومه، كما يقول العم سليم، وكان من المقرر أن يشاهد الشوط الأولَ من العرض لكنه واصل مشاهدة العرض بعد مراسم التكريم حتى النهاية.
سار الباص على شاطئ نهر النيل إلى مسكن بعثة المدربين الصينيين، وكانت قلوبنا نحن المدربين تفور وتثور أثناء رؤية نوط الجدارة الذهبي على الصدور واستلام شهادة النوط في الأيدي. وقد عقدنا العزم على إتمام مهمة التدريب في غضون شهر واحد قبل مغادرة السودان وعلى تسليم رد مُرضٍ إلى الحكومة السودانية.
الأكروبات شهرة في السودان وسُمعة في إفريقيا وآسيا
وفي بداية ثمانينيات القرن العشرين الماضي، ما إن انتشر خبر عرض فرقة الأكروبات السودانية حتى اصطف الناس في طوابير طويلة أمام مسرح قاعة الصداقة الواقعة على شط نهر النيل، يتسابقون في شراء التذاكر لمشاهدة الأكروبات. وكانت قاعة المسرح في كل عرض غاصة بالمشاهدين حتى في معظم الأحيان كان بعضهم يجلسون في المقاعد الإضافية أو يقفون جانباً. وعندما يرى المشاهدون الحركات الرائعة المثيرة يتجاوبون بالتصفيق والضحك والهتاف وأصوات الإعجاب حتى زغاريد النساء.
وفي الخرطوم وأم في درمان سواء كنا في الشوارع أو في المسارح دائماً ما كان الأصدقاء السودانيون يحيوننا تحية حماسية قائلين: "الصين كويسة". وحينما عرفوا أننا مدربو الأكروبات يقبلون علينا ويصافحوننا ويسألوننا ومعهم أبناؤهم: "هل ستدربون دفعة جديدة من طلاب الأكروبات؟ تفضلوا بأخذهم إلى الصين لتعلم الأكروبات". وبعض الأطفال كانوا يسألوننا مباشرة: "هل أصلح لممارسة الأكروبات؟ من فضلكم ألحقوني بالدراسة".
وعلى الصعيد الدولي، تتمتعُ فرقة الأكروبات السودانية بسمعة متزايدة، وتمتاز بعُلو المُستوى الفني وكمال التكوين، حيث يأتي ترتيبها في طليعة الدول العربية ودول شمال إفريقيا على مر السنين، واصطحبها الرئيس النميري في زياراته، على سبيل المثال لأوغندا وكينيا والكويت والإمارات العربية المتحدة وغيرها من الدول، ولاقت ترحيباً حاراً وتقديراً عالياً، وكان الرئيس نميري يزور مقر الفرقة بين وقت وآخر ويشهد تدريباتهم ويمازحهم، كما روى عدد من أعضاء الفرقة.
ويواصل صديقنا سليم حديثه الشيق قائلاً: "حدثني رجل سوداني عجوز أشيب كان يسكن قرب مقر إقامتنا، وذكر لي أن مصدر سروره أن ألعاب الأكروبات الصينية قد مهّدت طريق الحرير الجديد بين الصين والسودان وحتى العالم العربي وإفريقيا".
وعقب زفرة حَرى وآهةٍ عميقة من العم سليم خرجت كلماتُه عفوية: "ما أسرعَ ما يَمُرُ الوقت. لقد غادرتُ السودان منذ أكثر من أربعين سنة. ولكن أيامنا هناك ما زالت ماثلة في ذهني، وضحكات الأصدقاء السودانيين ما برح يترددُ صداها في أذني، والحركات الأكروباتية الرائعة لأعضاء فرقة الأكروبات السودانية لا تزال تتراءى أمام عيني بين حين وآخر وإني شديد الحنين الى إخواني السودانيين".
"خلال نحو نصف قرن، أي من عام 1974 إلى عام 2018، تطورت فرقة الأكروبات السودانية من الصفر إلى الوجود، من فرقة صغيرة إلى كبيرة. في البداية لم يكن هناك ممثل أو ممثلة للأكروبات، فأرسلت الصين مدربيها إلى السودان لاختيار الطلاب والطالبات وإيفادهم إلى الصين لتلقي التدريبات، كما ساعدت الفرقة في الأزياء والدعائم وتصميم الفقرات الأكروباتية المتنوّعة. وبالاعتماد على العزيمة القوية والإيمان والجهود الذاتية وبفضل تدريب المدربين الصينيين نمتْ فرقة الأكروبات السودانية حتى أصبحت فرقة ألعاب أكروباتية مهنية نشطة محبوبة ومعروفة في السودان والدول الإفريقية، وذات شهرة وسُمعة في السودان حتى في إفريقيا وآسيا أتمنى أن تعود أقوى كما كانت، يقول سليم ليو..".
مرئيات المستقبل: ثم ماذا بعد مُضيّ نصف قرن على تكوين هذه الفرقة؟
قبل نحو أربع سنوات التقيتُ بمدير فرقة الأكروبات حينها الأستاذ مضوي عمر ومعه وفد من قدامى أعضاء فرقة الأكروبات السودانية عبر رحلة جوية قادمة من الخرطوم إلى ووهان، حيث ما زالت هناك دفعات تأتي إليها ولكنها متقطعة وقليلة العدد وليست بنفس بريق السبعينيات ولا اهتمام الثمانينيات، ارتسمت على محيّا مضوي أمنيات العودة إلى ذاك الزمن الزاهر وتحدث ومن معه حديث الذكريات واللهفة والشوق إلى ذلك الماضي الجميل متمنين عودته، ومن جانبه قال الأستاذ سليم في حديثه الإذاعي هنا في بكين: "أتمنى لزهرة الفن الأكروباتي السوداني التي زرعَها ورباها الشعبان السوداني والصيني أن تظل متفتحة مدى الدهر".
أقول -في ختام هذا المقال التوثيقي- هكذا بادر السودان ببذر نواةٍ لفن تحبه ليس جماهير الشعب السوداني، بل تعشقُه كثير من شعوب إفريقيا، وأصبحت النواة شتلة رعتها صداقة الشعبين على مدى عقود من الزمان، إلى أن أصبحت شجرة وارفة الظلال تغطي سماوات ممتدة من ووهان مهد الأكروبات فتعبر طريق الحرير المرسوم بأيدٍ صينية صديقة متجهة نحو إفريقيا عبر بوّابة السودان. وأود أن يتواصل العطاء في خمسة مسارات وهي:
(1) يجب اهتمام الدولة بهذا الفن الراقي وتوفير معينات التدريب في عهد التغيير الذي يشهده السودان.
(2) ترفيع البروتوكول الثقافي بين البلدين باستصحاب إحدى بنود سياسات (الحزام والطريق) بما يدعم فرقة الأكروبات باعتبارها تعرف بالهوية السودانية ومدى تحضر الشعب السوداني.
(3) تخصيص ميزانية مفتوحة -رغم ما يعانيه الاقتصاد من تداعيات كورونا- والاستعانة ببيوتات الخبرة لخلق توأمة ما بين ووهان والخرطوم لترقية فن الأكروبات وتوسيع دائرة التأثير ليشمل القارة السمراء المتعطّشة لهذا الفن الراقي.
(4) تسليط الأضواء الإعلامية على هذه الفرقة لاستمرارية هذه الثقافة النادرة.
(5) إنشاء معهد أو كلية أو مركز ثقافي يليق بمستوى علاقات الشعبين الممتدة عبر التاريخ لتوطين هذا الفن والاتفاق مع الصين لمدها بالمعدات الفنية لتطوير الفرقة وبالتالي نشر هذا الفن الجميل في ربوع السودان وإفريقيا. هذه بعض اقتراحاتي إضافة لرؤى بعض ممن التقيتُ بهم من أعضاء الفرقة.
ختاماً، الفرصة مواتية لاستئناف رحلة توطين فن الإكروبات في السودان رغم التحديات، وكما يُقال "من رحم المعاناة يتولّد الإبداع" فإن مشوار الميل قد قطع عدة خطوات ولا زال أبناء الشعبين يتطلّعان إلى الثريا من الثرى ليرتوي عطش الجماهير المحبة والمتطلّعة لهذا الفن الأصيل وبالتالي تخضرُّ شجرة الصداقة الصينية السودانية.
حاشية:
ومما أحزنني وأبكاني وقبيل الدفع بهذا المقال للنشر وعند اتصالي برقم هاتف العم سليم لمزيد من التأكد من بعض المعلومات، وإخباره بأن يترقب نشره فلم يرد هاتفه إلا بعد محاولات عديدة ليأتيني صوت غير مألوف بالنسبة لي عرفتُ أنه ابنه ليُخبرني بأن والده فارق الحياة قبل أسابيع معدودة.
وأعدكم بالعودة للحديث أكثر عن هذا الراحل المحبوب لدى السودانيين والجالية العربية في بكين، فقد كان دائم الابتسامة والرقي هاشاً باشاً، وله إسهامات مقدرة في نشر اللغة العربية وثقافتها حيث يعد من جيل الصينيين الرواد المستعربين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.