ذهب الكاتب شادي حولدار للدراسة في إحدى جامعات النخبة في أمريكا، وحيث كان عقله مفعماً بالتساؤلات عن المجتمع الأمريكي، فقد وجدها فرصة للتعرف على الأمريكان، حاول أن يفهم طريقتهم في التفكير من الكتب ومن العلاقات الإنسانية حيث الحوار واستطلاع الآراء. وبعد سنة خرج بكتاب عنوانه: "كيف يفكر الأمريكيون"، وأحاول هنا أن أتوقف عند بعض ما لفت نظره عن المجتمع و الحياة في أمريكا.
يقول شادي في كتابه: إن أمريكا عبارة عن مجتمع مهاجرين يجدون أنفسهم في بوتقة للصهر تجعل من مجموع الأمريكان خليطاً متكاملاً من بشر لم يفقد كل منهم نكهته الأصلية، ولكنه استبدل هويته الأصل بالهوية الأمريكية، وجاء يسعى للحلم الأمريكي.
الحلم الأمريكي يعني أن الظروف التي نشأت فيها لا علاقة لها بالمكان الذي تصل له بجهدك وكفاحك. الحلم الأمريكي يتمثل في توفير فرص متساوية، لكن الواقع يوضح أن الحلم الأمريكي ليس متوفراً للجميع بشكل متساوٍ، ولكنه يتضمن وعداً بإيجاد الحلول لتتحقق المساواة للجميع.
في وثيقة إعلان استقلال أمريكا كتب جيفرسون: البشر جميعاً متساوون، والخالق وهبهم حقوقاً غير قابلة للتصرف، تشمل الحياة والحرية، والسعي نحو السعادة. لكن حق الحياة في المفهوم الأمريكي لا يشمل فقط اعتبار حق الحياة مقدساً ولكنه أيضاً يشمل الحرية والملكية الخاصة، ويعتبر الأمريكيون أن ملكية الذات هي أبسط أشكال الحرية، فلا يستطيع التصرف بها إلا الشخص نفسه، إذ ليس من حق أحد أن يتدخل في الكيفية التي يعيش بها الفرد حياته الخاصة، وهو حر في تشكيل قيمه الشخصية وقناعاته.
يؤمن الأمريكيون بحق الأغلبية في نواحٍ محددة، ولكن هناك صمامات أمان تمنع طغيان الأغلبية، أي تحمي الأقليات، والأقلية تشمل الأغنياء ومُلاك الأراضي وكذلك الأقليات الدينية والعرقية.
يعني ذلك مثلاً أنه يُحظر على الكونغرس سن قانون يتعلق بالتأسيس لدين أو يمنع حرية الممارسة الدينية. عملياً تملك المحكمة العليا الصلاحيات التي تلغي بها أي قانون يصدر عن الكونغرس، أو أي أمر رئاسي ينتهك الحقوق الدينية للأقليات. الآباء المؤسسون تأثروا بأفكار الفيلسوف الإنجليزي جون مل الذي يرى أنه من الضروري وضع خط فاصل للحد المشروع لتدخل الرأي الجمعي في الاستقلالية الفردية، فإن للفرد استقلالية مطلقة في أفعاله التي لا يطال تأثيرها سواه. وتشمل الاستقلالية الفردية حرية العقيدة والرأي والميول والفكر والشعور، أي أن نفعل ما نشاء على أن نتحمل ما يترتب على ذلك من نتائج.
في العاصمة الأمريكية نصبٌ لجورج واشنطن أول رئيس للولايات المتحدة، قاد الرجل الجيش الذي أجلى آخر الجيوش البريطانية عن نيويورك، كان بإمكانه أن يتمسك بمركزه بناءً على شعبيته الكاسحة، إلا أنه استقال مؤسساً مفهوماً مهماً للأمريكان، الوضع الصحيح للجيش هو أن يكون تحت السلطة المدنية وليس العكس.
تمثال واشنطن يُظهر الرئيس وهو يتقدم بخطاب استقالته للكونغرس مرتدياً رداء التوجا الروماني، يذكّر هذا الرداء الأمريكيون بالقائد الروماني الذي وصل إلى أعلى منصب في روما، قاد الحرب للدفاع عن بلده، اكتسب شعبية عظيمة، عند انتهاء ولايته عرض عليه ممثلو الشعب الاستمرار في منصبه، رفض لأن القانون لا يسمح بذلك لكن بعد سنوات وضع البرلمان قانوناً للحالات الطارئة، تم بناءً عليه عودته إلى الولاية ليتصدى لتهديد خارجي، أُعطي صلاحيات استثنائية مؤقتة ليتمكن من إنجاز مهمته، بعد النصر عاد للبرلمان وتقدم باستقالته، وكان مرتدياً لباس التوجا الروماني للدلالة على أنه مواطن عادي.
أعاد واشنطن تذكير الأمريكان بما قام به القائد الروماني، وهكذا أصبح الدستور الأمريكي ينص على أن بقاء الرئيس الأمريكي في الحكم لا تزيد على ولايتين، أصبح واشنطن يمثل للأمريكان الفضائل التي يجب أن تتوفر في المواطن الأمريكي، وهي وضع المصلحة العامة فوق المصلحة الشخصية.
رغم أن الممارسات الدينية تضعف في المجتمع الأمريكي فإن بعض المفاهيم الدينية لا زالت تؤثر بقوة في التفكير الأمريكي، مارتن لوثر الذي تنسب إليه البروتستانتية "وهي أحد مذاهب وأشكال الإيمان في الدين المسيحي" غيّر مفهوم العمل في الدنيا، أما الكاثوليك فيعتقدون أن العمل هو عقاب من الله على خطيئة آدم وحواء التي خرجا بسببها من الجنة، لكن مارتن لوثر أسس مفهوم أن العمل هو شيء جيد ومقدس، مفاهيم كنسية أخرى أيضاً ترسخت في العقل الأمريكي، الكنيسة الميثودية استقلت عن الكاثوليكية، سُميت أهل الطريقة لأنهم يركزون على أن يعيش الشخص حياته بناءً على خطة واضحة للعمل والادخار، فالله لا يحب المسيحي غير المنظم الذي يعيش بعشوائية، كما ترسخ مفهوم الكالفينية وهو أن النجاح في العمل مؤهِل للاصطفاء الديني واستجابة للنداء الكوني.
الاقتصادية الليبرالية تحكم السوق الأمريكي، وهي صلب اتفاقات الجات العالمية أيضاً، وتعني إبقاء الحكومة بعيدة عن السوق ومنعها من توجيه النشاط الاقتصادي، الفيلسوف وعالم الاقتصاد آدم سميث، قال إن للسوق أيادي خفية، تجعل منه ذاتي التحكم للوصول إلى الكفاءة الأعلى دون تدخل حكومي، القوانين الطبيعية التي تحكم السوق ثلاثة، المصلحة الشخصية، التنافسية الحرة، العرض والطلب.
ورغم ما أراه في ذلك من أنانية تقتل كل من لا يستطيع مجاراة الآخرين، وترفع من معاناة غير المحظوظين لسبب لا علاقة له بتقصيرهم في العمل، يظهر أن المؤلف يعتقد أن هذه القوانين جعلت الجميع في وضع أفضل.
قبِل الأمريكيون قانون مكافحة الاحتكار التجاري وتكوين مجلس لتنظيم عمل الاقتصاد الأمريكي ولكن بشكل مؤقت بسبب الحرب. بعد الحرب ظهر فائض كبير في الإنتاج الزراعي بسبب أن أوروبا لم تعد بحاجة لاستيراد الغذاء من أمريكا، فلم يتمكن المزارعون من سداد ديونهم، تقدم الكونغرس بمشروع تقوم الحكومة فيه بشراء الفائض وبيعه، إلا أن الرئيس الأمريكي متمسكاً بأن الدولة لا حق لها في التدخل في السوق رفض المشروع رغم وجاهته، يبين هذا كم تعلو قداسة الرأسمالية على أي شيء آخر.
خرجت أمريكا من الحرب العالمية الأولى في عشرينيات القرن الماضي، سُمّيت العشرينيات الصاخبة لما أحدثته من تغييرات في المجتمع. المصانع التي كانت تصنع الأسلحة خلال الحرب تحولت لتصنيع المواد الاستهلاكية، كثير من هذه المواد لم يكن الناس يشعرون بالحاجة إليها، قامت الدعاية بخلق الحاجة، لتسهيل تملكها بدأت برامج التملك بالتقسيط، أما مفهوم خط الإنتاج الذي ابتكره هنري فورد فقد أدى إلى زيادة الإنتاج وتقليل كلفته.
ربة البيت تحولت إلى استعمال أدوات المطبخ الحديثة التي ساهمت في النهاية في زيادة وقت الفراغ لدى النساء، باكتشاف موانع الحمل لم تعد المرأة مرتهنة بالحمل والولادة، وجدت المرأة طريقها للعمل خارج البيت، وجود موجة من الكراهية للمهاجرين سهّلت خروج المرأة للعمل ليتم التقليل من الحاجة للهجرة، ولما كانت الدولة آنذاك بحاجة إلى منع الكحول لضررها وخاصة على المفرطين في استخدامها وأغلبهم من الرجال، فقد أدت المقايضات الانتخابية إلى تسهيل حصول المرأة على حقوقها في التصويت، الأمريكيون الأفارقة والذين كان تسعة أعشارهم يعملون في مزارع الجنوب تحولوا للعمل في مصانع الشمال، تحسّن وضعهم المادي ومع الوقت طوروا موسيقاهم المعروفة بموسيقى الجاز وظهرت فنونهم وثقافاتهم وأصبح حيهم في هارلم بنيويورك مركزاً ثقافياً، ساهم ذلك في اكتساب السود للاحترام الذي كانوا يفتقدونه. خرج الأمريكان من العشرينيات وقد تخلوا عن رغبتهم في الادخار إلى سُعار الاستهلاك.
يخشى الأمريكيون الاشتراكية خشيةً مبالغاً فيها، وقد أدى ذلك إلى تعيين مدعٍ عام استمر في عمله 50 عاماً وعُرف عمله بمداهمات بالمر، ولم يكن عليه أية قيود، فاستهدف بمداهماته العمال الروس الذين يشتبه في أن يكونوا متأثرين بالشيوعية، وكذلك المهاجرين الإيطاليين الذين يشتبه في تأثرهم بالأفكار الفوضوية، كانت المحاكمات متعجلة ولا تخضع لروح العدالة، قُتل عاملان إيطاليان بتهمة سرقة وقتل، والتي تبين فيما بعد أن أحدهما كان بريئاً بل لم يكن حتى قريباً من مسرح الجريمة، وبعد الحرب العالمية الثانية ازدهرت قوانين جون مكارثى، السيناتور الذي لاحق الأدباء والفنانين المتأثرين بالشيوعية وعرفت تلك الحقبة بالمكارثية.
من الواضح أيضاً كم التقديس لقيم السوق التي تجعل أمريكا كلها مسخرة لحمايته. اتهم ترامب المرشح الديمقراطي ساندرز بأنه يريد أن يحول أمريكا إلى الاشتراكية وإلغاء الحريات الفردية، ساندرز دعا إلى فرض ضرائب تصاعدية لتسديد ديون ٤٥ مليون طالب أمريكي زادت ديونهم عن واحد ونصف تريليون دولار، وكذلك لتوسيع برنامج ميدي كير حتى يوفر ضماناً صحياً شاملاً لجميع الأمريكان، بالطبع خسر ساندرز.
فعند الجمهوريين تعني هذه الضرائب معاقبة الغني المجتهد، وتعوّد الذين لا يعملون على الخدمات المجانية التي تزيدهم تكاسلاً.
ظهرت وخاصة في ستينيات القرن الماضي ثورات ثقافية علمانية، انتقدوا مجتمعهم الذي لا يأبه أهله بالعنصرية ضد السود، ولا يرون ممارسات الهيمنة الأمريكية التي تقتل الناس في فيتنام. أظهرت هذه الثورات معاداة لثقافة الشركات الرأسمالية، وللغرق في الحياة الاستهلاكية، وظهر حماس لممارسة الجنس خارج الزواج، ولتعاطى عقارات الهلوسة، كان هذا هو الجيل الذي جاء من مؤسسة الزواج التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية وكانت مؤسسة محترمة محافظة، كان الازدهار الاقتصادي الأمريكي واضحاً مقابل عناء باقي الدول التي خرجت من الحرب محطمة، في الخمسينيات كانت أمريكا التي يشكل سكانها ٥% من سكان العالم تنتج ٥٠% من إنتاج العالم.
كان ما وصل إليه هؤلاء الشبان انعكاساً لإخفاق الوفرة المادية فى إيصال أهلها للسعادة. إنه الجيل الذي اكتشف كذب سياسييه وتدليسهم منذ تلاعب إدارة جونسون لتبرير تدخلها في فيتنام وحتى تلاعب إدارة بوش وتدليسها لتتدخل في العراق، المفارقة أن الثورات كانت محملة بالأخطاء التي نشأت عن اختلال منظومة القيم لديها.
وأخيراً أقول إن أهم ما في الكتاب هو المؤلف الذي لا يبدو لي أنه قد وصل إلى الثلاثين من عمره، لكنه يستخدم أسلحة العصر وميكانيكياته ليصل لفهم واعٍ للعالم الذي أُتيح له أن يراه، يدرس بتفهم، يبحث عن الناس، لا يترك للإدانة المسبقة ولا للانبهار الساذج أن يضعفا وعيه وعقلانيته.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.