يقود فتحي باشاغا، وزير داخلية الوفاق بالحكومة الليبية المعترف بها دولياً، التي تسيطر على العاصمة طرابلس، جهوداً سياسية ودبلوماسية حثيثة لرسم خريطة سلطة ليبية قادمة، من المفترض أن يطبع عليها طابع التوافق، جهود باشاغا لم تكتفِ بالتنسيق المحلي مع مكونات السلطة في ليبيا، بل إنه يطال مهمة أشبه بالمستحيلة لتحقيق وفاق دولي وإقليمي ويراد منه استقرار ليبيا.
حراك باشاغا جاء عن قناعة مسبقة بأن حكومة الوفاق الوطني الناتجة عن اتفاق الصخيرات الموقع في 2015، والذي كان هو من أبرز المخططين والداعمين له، فشلت وأزّم فشلها الوضع في ليبيا بسبب عدم توافق دولي تمثل في تباين المواقف بين أبرز اللاعبين الدوليين بالولايات المتحدة، روسيا وتركيا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا والإمارات ومصر والسعودية وقطر، حيث قوض هذا التباين كل الجهود الأممية لتحقيق توافق محلي، وشكل الاصطفاف خاصة من جهة فرنسا وروسيا والإمارات ومصر، التي دعمت حفتر بكل وضوح وإصرار وعنف ودموية، إلى أن وصل الأمر إلى دعمه لشنّ عدوان على العاصمة طرابلس، لغرض السيطرة بقوة السلاح وزمجرة الدبابات وأزيز الطائرات على سدة الحكم في ليبيا.
تعقيد المشهد الليبي على خارطة مصالح اللاعبين الدوليين
لا يخفى عن الجميع أن ليبيا تتمتع بموارد طبيعية ضخمة، وقلة سكانية، ومساحات شاسعة، وموقع استراتيجي متميز على شواطئ المتوسط، وكبوابة لإفريقيا من الشمال، إذ تسعى الولايات المتحدة وبريطانيا إلى أن يكون هذا الموقع بعيداً عن أي تواجد روسي محتمل، بينما تسعى روسيا للاستقرار في المياه الدافئة والحصول على مرافئ جديدة في المتوسط بعد قواعدها في سوريا، ومن ثم ستتمكن من لعب دور مهم في المتوسط، خاصة أنه يحتوي على مناجم للغاز الطبيعي يسيل لها لعاب الجميع.
تركيا إلى جانب أنها تخوض حرباً اقتصادية وتوسعية مع الإمارات، إلا أنها تسعى للتمدد على شواطئ المتوسط، وللحصول على مراكز أكثر للنفوذ وللتغلغل إلى إفريقيا بشكل أكبر، مع التجانس الديني والفكري والثقافي والإرث التاريخي بين الأتراك والليبيين، أما فرنسا فهي تسعى للحدِّ من التمدد التركي الفكري والاستراتيجي في مناطق العرب وإفريقيا، وتريد أن تعيد سطوتها على إفريقيا، مستغلة الاختلاف السياسي الإماراتي المصري والتركي، والسجال التركي الأوروبي حول قبرص، ومعضلة غاز شرقي المتوسط.
مصر تسعى إلى أن تكون السلطة في ليبيا موالية لها، بسبب رؤيتها للحراك السياسي والديمقراطيات في المنطقة، ورغبتها في تشكيل سلطة ونظام عسكري في ليبيا موال لها، أما الجزائر فهي ترى ليبيا امتداداً ديموغرافياً لها، ولا ترغب في خروجها من البعد المغاربي لتحقيق توازن دولي في نزاعاتها مع المغرب ودول الحوض الإفريقي الفرنسي، مالي وتشاد وغيرهما.
الإمارات إلى جانب قفزاتها التي تتسم بالمراهقة السياسية فهي لا تخفي رغبتها في عودة الليبيين لحظيرة الاستبداد، ناهيك عن البحث عن تموضع عربي وإقليمي أكبر من حجمها وإمكاناتها ومحاولة تطبيق تجربتها على مصر، بأن تكون مصر وجنوب اليمن الإمارتين الثامنة والتاسعة من إمارات أبناء زايد، ورغبة كبرى في امتلاك شواطئ ليبيا، ورهنها تحت إدارة شركة موانئ دبي، إحدى أذرع الإمارات الاقتصادية. وقطر المحاصرة تستميت على تحالفها ومصالحها في ليبيا، فخسارتها لليبيا تعني عزلة عربية شبه تامة في جامعة الدول العربية، التي تتآمر ضدها أصلاً، كما أنها تأمل عدم خسارة ليبيا للغريم الإماراتي، الذي لا يرقب في القطريين إلّاً ولا ذمة.
رحلات باشاغا المكوكية
طيلة فترة العدوان على طرابلس وحتى انسحاب القوات المعتدية كان للحراك الدبلوماسي والسياسي الذي يقوده باشاغا دور بارز في تحقيق التحالفات الداعمة للحكومة، فكان باشاغا إلى جانب قيامه بواجباته تجاه وزارته، إلا أنه كان يقوم بتنسيقات مهمة ومصيرية مع تركيا وقطر والولايات المتحدة لتحسين صورة حكومة الوفاق وتوفير الدعم العسكري والسياسي والدبلوماسي لإفشال العدوان.
بعد دحر العدوان بسبب الصمود الأسطوري لقوات الجيش الليبي، والتعاون مع حلفاء الوفاق، ظهرت مساعٍ أممية لتشكيل حكومة من المتنازعين، وفق رؤية جديدة وتوافقات إقليمية ومحلية، تكمن في تغيير المجلس الرئاسي وتشكيل حكومة وحدة وطنية، تبسط سيطرتها على كل التراب الليبي، والهدف هو التمهيد لمرحلة أكثر استقراراً وأقل استقطاباً لتنفيذ الاستحقاقات الانتخابية والقفز إلى نظام دستوري دائم ومستقر.
رحلات باشاغا بدأت في يوليو/تموز الماضي، حيث كانت للجزائر، الجار الأقرب لليبيا، والذي تربطه به الحدود البرية الأطول، وتُشكل الجزائر عنصراً عربياً وإقليمياً مقارباً لرؤية طرابلس للمشهد السياسي الليبي والإقليمي.
بعدها زار باشاغا، أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تركيا وقطر على الترتيب، والتقى خلال الزيارة بالرئيس أردوغان، والأمير تميم بن حمد آل ثاني، مع كل من وزراء الدفاع والداخلية للبلدين، كما تضمنت الزيارة توقيع اتفاقيات أمنية بين حكومة الوفاق وحكومتي البلدين، لتحقيق تعاون أمني واستخباراتي، ولإحراز تقدم في مجال مكافحة الإرهاب.
في نوفمبر/تشرين الثاني، زار باشاغا القاهرة وباريس -بناءً على دعوة من البلدين- وهما العاصمتان المناوئتان لحكومة الوفاق، زيارة مصر أحاطها جانب من السرية، بسبب موقف مصر، المعترفة بحكومة الوفاق، وتعاملها في ذات الوقت مع الحكومة الموازية وحفتر، لكن زيارة باريس كانت رسمية، وتمت أيضاً فيها مقابلة وزيري الداخلية والخارجية الفرنسيين ووزير الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي.
مناورات للخروج من عنق الزجاجة
هذه الزيارات على اختلافها وتنوعها ودوافعها يمكن تشبيهها كمن يسير في حقل ألغام، فالحقيقة أن الدول المتنازعة في ليبيا تشهد توافقات في علاقاتها الرسمية حول عديد الملفات، مثل العلاقات بين روسيا وتركيا، وما تشهده من ندّية وتوافقات في إدلب وناغورني قره باغ، كما أن التبادل التجاري التركي الفرنسي يُقدر بمئات المليارات من الدولارات، رغم الاستقطاب السياسي المستمر بين ماكرون وأردوغان.
من الواضح أن باشاغا يسعى لإخراج ليبيا من دوامة التناحر الإقليمي، وأن تتمتع بعلاقات براغماتية مع الكل، اللهم إلا الإمارات، التي بدأ دورها يتراجع في المشهد الليبي بعد التطبيع مع إسرائيل، لأن الإمارات ما لجأت لهذا الأمر إلا لتهالك دفاعاتها ضد جرائمها في ليبيا واليمن، ولخوفها من إيران وتركيا، وبالنظر إلى خارطة العالم سنجد أن أفغانستان تدفع على أرضها ثمن حرب باردة بين روسيا والولايات المتحدة، كما أن العراق واليمن هما رقعة شطرنج للاعبين سعوديين وإيرانيين مع اختلاف الأدوار.
إخراج ليبيا من هذا المأزق ليس بالأمر السهل، ولن يكون عن طريق رجل واحد، ولكن مؤشرات أمريكية برزت من أقصى الغرب قد تكون علامات إيجابية من الممكن التعويل عليها للبدء في عملية مناورة سياسة قد تكون الأكبر والأمهر على مدى تاريخ ليبيا السياسي، ولِمَ لا نشهد ولادة ليبيا جديدة على غرار حراك الآباء المؤسسين عام 1949، إذ إنهم حصلوا على الاستقلال بلعب دور توافقي مع كل الحاكمين للأمم المتحدة والمنتصرين في الحرب العالمية الثانية، رغم اتّقاد نار الحرب الباردة آنذاك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.