القاعدة الروسية الأولى بإفريقيا.. ما الأهداف الحقيقية وراء إنشاء بوتين قاعدة بحرية في السودان؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/11/24 الساعة 10:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/11/24 الساعة 10:08 بتوقيت غرينتش
لقاء سابق بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس المجلس العسكري السوداني عبدالفتاح البرهان / رويترز

يبدو أن (عام كورونا) لا يريد أن ينقضي بدون جعلنا نواصل رفع حواجب الدهشة على الأحداث الغريبة التي حدثت فيه وما تزال تحدث. فقد خرجت علينا أنباء الإثنين الماضي تقول إنّ روسيا ستقوم بإنشاء قاعدة بحرية روسية في السودان وتحديداً على ساحل البحر الأحمر في الأراضي السودانية، والتي ستكون القاعدة الأولى لها في إفريقيا والثانية في العالم (خارج نطاق الاتحاد السوفيتي السابق) بعد قاعدة طرطوس البحرية في سوريا. فوفقاً لأمر صادر من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم الإثنين الماضي، صدر توجيه لوزارة الدفاع الروسية بالمضي قدماً في بناء قاعدة يمكنها استقبال 300 فرد ومساحة تستقبل ما يصل إلى أربع سفن حربية، منها سفن تعمل بالطاقة النووية. 

التحليل الأوّلي للأمر يؤشّر الى أن روسيا تسعى إلى توسيع وجودها العسكري العالمي وتعزيز علاقاتها التجارية والدفاعية المزدهرة مع القارة الإفريقية. وهي علاقات تشهد توسّعاً مطّرداً في السنوات القليلة الماضية. وليس أدلّ من استضافة روسيا لقمة روسية – إفريقية في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي في مدينة سوتشي حضرها رئيس 43 دولة إفريقية، والاتفاق على أن تكون القمة كل ثلاث سنوات مثلها مثل القمم المماثلة بين إفريقيا ودول مثل الصين وتركيا. ويبدو في هذا الصدد أن روسيا تدخل في سباق المنافسة على إفريقيا الذي تتنافس فيه الصين والهند والولايات المتحدة مع القوى الأوروبية التقليدية المتمثّلة في بريطانيا وفرنسا.

اللافت فيما يتعلّق بالقمة الروسية التي انعقدت في أكتوبر/تشرين الأول 2019 أن السودان شارك فيها على مستوى رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان، ومشاركة البرهان لها دلالتها إذا ما ألقينا نظرة متعمّقة للصراع الداخلي بين العسكر والمدنيين على الحكم في السودان منذ الإطاحة بالرئيس بالبشير، حيث يسعى العسكر بقيادة البرهان لفعل أيّ شيء يمكّنهم من البقاء في السلطة وإضعاف الجناح المدني، من مغازلة لدول خليجية داعمة للأنظمة العسكرية، إلى التودّد للولايات المتحدة عن طريق التطبيع مع إسرائيل، إلى السعي لخطب ودّ روسيا عن طريق السماح لها بإقامة قاعدة عسكرية بحرية في سواحل السودان الشرقية على البحر الأحمر. وهي كلها خطوات مشابهة لما فعله الرئيس المصري الذي يحمل، للمصادفة، نفس اسم رئيس مجلس السيادة السوداني لترسيخ قبضته على السلطة. مع اختلافات طفيفة بين الوضع في البلدين.

الطموح الروسي في إفريقيا يتمثّل في توسيع التجارة الخارجية الروسية مع إفريقيا، وخاصة في مجالات المعدات العسكرية والقمح والآلات الزراعية والطائرات والاستثمار في التنقيب عن المعادن، خاصة الذهب. بالإضافة إلى كسب أصوات الدول الإفريقية في المحافل الدولية بعد غياب طويل منذ انهيار الاتحاد السوفيتي. وفي حوار لليونيد فيتوني، نائب رئيس المعهد الإفريقي التابع لـ"الأكاديمية الروسية للعلوم". وهي مركز أبحاث يتبع للحكومة الروسية، عبّر فيتوني عن قناعته بأن روسيا يمكن أن تستفيد اليوم من "قواعد التنقيب عن الذهب" في إفريقيا. وأنّ روسيا يمكن أن تستغل السوق الإفريقية المتنامية تحت ضغط العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا، "حيث إن لدى الدول الإفريقية اهتماماً كبيراً بأسلحتنا، خاصة بعد استخدامها بنجاح في مناطق النزاعات الإقليمية".

حجم التبادل التجاري الروسي مع إفريقيا كان 20 مليار دولار في العام 2018، ويرجّح أن يتضاعف إلى ثلاثة أمثال هذا الحجم في السنوات المقبلة، بحسب خبراء يرون الفرصة سانحة في ظل خطط القيادة الروسية الحالية للتوجّه نحو إفريقيا. وحجم التجارة الروسية مع إفريقيا متواضع جداً إذا ما قارنّاه مع دول أخرى مثل الصين (وصل إلى 204 مليارات دولار في 2018). وأحد أسباب التوجّه الروسي العقوبات الأمريكية والأوروبية المتواصلة على الاقتصاد الروسي منذ ضمّ بوتين لشبه جزيرة القرم في 2014، والاتهامات الأوروبية له بمحاولة اغتيال منشقّين أو معارضين روس في دول أوروبية أو داخل روسيا نفسها. آخرها الاتهامات الألمانية لموسكو بمحاولة تسميم المعارض البارز اليكسي نافالني في أغسطس/آب. وهي اتهامات تتبعها عقوبات اقتصادية ودعوات متكرّرة لتخفيض حجم التعامل التجاري مع روسيا ومقاطعة منتجاتها، وفي مقدمتها الغاز الروسي الذي تعتمد عليه أوروبا بصورة كبيرة.

الوجود الروسي في إفريقيا قديم يعود لحقبة الحرب الباردة، حيث كان للاتحاد السوفيتي تعاملات عسكرية وسياسية مع دول إفريقية كثيرة مثل أنغولا وإثيوبيا والجزائر ومصر والسودان (في بعض الفترات). وقد تناقص هذا الوجود بشدّة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي لأسباب معروفة، لكنه يعود الآن بقوّة في مناطق مثل إفريقيا الوسطى وموزمبيق والسودان؛ حيث حصرت جاسمين أوبرمان خبيرة الإرهاب في جنوب أفريقيا – على سبيل المثال – وجود 203 من الجنود، أكثرهم روس، و3 مروحيات مقاتلة، وتقنيات عسكرية حديثة في منطقة متوتّرة وغنية بالغاز في موزمبيق. كما أن هناك أنشطة لشركات تعدين روسية في كل من جمهورية إفريقيا الوسطى والسودان. ومبيعات الأسلحة الروسية شهدت زيادة ملحوظة في العقد المنصرم لدول مثل أنغولا والسودان ويوغندا والجزائر وغيرها.

عند الحديث عن السودان لا بد من استحضار معلومة أن الجيش السوداني يعتمد بصورة كبيرة على المعدات العسكرية الروسية لعقود خلت، خاصة في ظل الحصار والمقاطعة الغربية التي استمرت لثلاثة عقود. وقد كان السودان أول دولة عربية وإفريقية تتسلم مقاتلات سوخوي من طراز (Su-35) المتطورة من روسيا قبل ثلاثة أعوام. والعلاقات السودانية مع الاتحاد السوفيتي ووريثته روسيا الاتحادية مرّت بمراحل مدّ وجزر منذ إعدام السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني عبدالخالق محجوب هو وغالبية قيادات الحزب بعد محاولة انقلابية فاشلة في العام 1971. حيث طلب الرئيس السوفيتي حينها من الرئيس المصري أنور السادات التدخّل لإقناع الرئيس السوداني جعفر النميري بعدم إعدام محجوب الحاصل على وسام لينين. وهو أمر لم ينجح فيه السادات وأدّى لجفوة امتدت لسنوات بين الخرطوم وموسكو. وعن هذه الجفوة يقول وزير الخارجية السوادني المخضرم حينها، منصور خالد، إنّه حاول بعدها لسنوات إصلاح العلاقات المتوترة. وفي إحدى الفعاليات الدولية حاول التودّد إلى وزير خارجية الاتحاد السوفيتي والحديث معه، لكن الوزير السوفيتي الذي كانت بلاده ما تزال حانقة على نميري قال له في اقتضاب: "الاتحاد السوفيتي يا سعادة الوزير يمكنه العيش دون السودان، لكن السودان لا يمكنه العيش دوننا".

يذكر الكثيرون كيف أدهش الرئيس السابق البشير المراقبين قبل أعوام قليلة بدعوته الرئيس بوتين إلى إنشاء قواعد عسكرية في بلاده لحماية السودان ممّا وصفه بالتحرش الأمريكي، وقد أدهشت الدعوة المفاجئة بوتين نفسه، فلم يصدر أي قرار حينها ووعد البشير بالنظر في الأمر. لكن يبدو أن الوقت قد حان من وجهة نظر القيادة الروسية التي تعتقد أن الوقت قد حان للتمدد في إفريقيا والبحار الدافئة مثل البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط. ولروسيا قاعدة بحرية قديمة في مدينة طرطوس السورية تطلّ على البحر المتوسط، فلماذا لا يكون لها قاعدة أخرى في البحر الأحمر تحقق لها أهدافاً جيوسياسية واقتصادية في المستقبل في إفريقيا، خاصة أن معظم القوى العالمية الكبرى لها قواعد فيه (الولايات المتحدة وفرنسا والصين واليابان لها قواعد في جيبوتي).

المثير في الأمر أن الولايات المتحدة لم تعلّق رسمياً على القرار الصادر من الكرملين، ويصعب التكهّن بسبب الصمت الأمريكي الرسمي، هل هو عائد لانشغال واشنطن بالمعركة الانتخابية ومعرفة وزير الخارجية المغادر قريباً مايك بومبيو بموقف السودان من واشنطن، خاصةً بعد الابتزاز الأمريكي الذي مارسته إدارة ترامب تجاه الخرطوم؟ أم هو بسبب زهد واشنطن في أي موطئ قدم في السودان واكتفائها بقواعدها في جيبوتي وغرب إفريقيا والساحل. خاصةً مع الأخبار التي وردت الشهر الماضي بتخفيض رتب الملحقين العسكريين الأمريكيين العاملين في دول إفريقية وعربية وإغلاق بعض الملحقيات العسكرية في سفارات أمريكية في إفريقيا والشرق الأوسط.

لكن التغريده التي كتبها القائم بالأعمال الأمريكي الأسبق في الخرطوم، البرتو فيرنانديز، والتي قال فيها "أنا أمريكي.. وفي المنافسة العالمية أفضل أمريكا على روسيا وأي دولة أخرى. لكن هذه خطوة معقولة من جانب السودان إذا أتاحت لهم الوصول إلى الموارد أو التمويل الإضافي. الأمريكيون لديهم بالفعل قواعد أخرى على البحر الأحمر. هذه ليست الحرب الباردة وليست تهديداً كبيراً"، ربما توضّح سبب الصمت الأمريكي في الوقت الحالي. فهذا السفير المتقاعد هو جمهوري ويمثل إلى حد كبير رؤية إدارة ترامب. والجدير بالذكر أنه أكثر الدبلوماسيين الأمريكيين معرفة بالسودان وصداقة للسودانيين. وقد كوّن خلال الفترة التي رأسَ فيها البعثة الدبلوماسية الأمريكية في الخرطوم خلال العقد الماضي صداقات قوية وكثيرة في المجتمع السوداني.

خلاصة القول أن القيادة في السودان (عسكرية أو من المدنيين) في الوقت الحالي مثل الغريق الذي يتعلّق بأي شيء يعتقد أن في إمكانه إنقاذه من الموت. والموت بالنسبة للعسكر هو إزاحتهم من السلطة وتكوين حكومة مدنية ديمقراطية منتخبة بعد هذه الفترة الانتقالية، لأن المحاكمات على جريمة فض الاعتصام وأخطاء أخرى أصغر تنتظرهم وإن طال الزمن. بينما بالنسبة للمدنيين يعتبر الوضع الاقتصادي والأمني الحالي موتاً بطيئاً بسبب الخذلان الخارجي والتآمر عليهم من الداخل والخارج، هذا إذا قمنا بغضّ النظر عن الخلافات بين قوى الحرية والتغيير والعسكر من جهة، وبينهم وبين رئيس الوزراء عبدالله حمدوك من جهة أخرى. والأمر في مجمله يذكرني بردّ لي على باحث أمريكي سألني ذات مرّة عن سبب موافقة الأفارقة على استقبال الاستثمارات والبضائع الصينية رغم جودتها المنخفضة، حيث قلت له إنّ "الذي يجد ماءً غير نظيف وهو يوشك على الموت عطشاً لن يلقي بالاً لنظافته أو إمكانية تسببه في مرض له"، وهو الأمر بالنسبة للسودان حالياً.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد زمراوي
كاتب وباحث في العلاقات الدولية
كاتب وباحث في العلاقات الدولية
تحميل المزيد