منذ أول يومٍ لنا في هذه الدنيا، ومنذ أول مسلسلٍ أو فيلم شاهدناه، ومنذ أول مطربٍ شعبي ملأت الأفراحَ أغانيه، أدركنا شيئاً لا ينفصل عن عِرقنا المصري الأصيل أولاً، وهو أن فلسطين جزء ضخم في هويتنا، ويكاد لا يخلو أي عملٍ فني من "تلقيحة" على الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، بنبرة سخريةٍ لاذعةٍ حيناً، أو نبرة درامية مؤثرة، أو رسالةٍ موجزةٍ واضحةٍ نهاية الفيلم. حتى حين أراد المطرب الشعبي شعبان عبدالرحيم -رحمه الله- أن يخرج على النص ويغني شيئاً مختلفاً، غنَّى "أنا باكره إسرائيل".
كل الذين اتفقنا أو اختلفنا معهم، اتفقنا على مواهبهم واختلفنا على آرائهم وتوجهاتهم، اتفقنا على إجادتهم للتمثيل والكوميديا، واختلفنا مع بعضهم أخلاقياً في المحتوى الذي يقدمونه، فإننا لم نختلف مع أيٍّ منهم بخصوص فلسطين، لم نرَ أياً منهم يبتسم في وجه صهيوني، إن كان قد قابل صهيونياً أصلاً، لم نرَهم حتى في التمثيل يتهاونون مع القائمين بأدوار العدو، ولم نجدهم يخذلوننا في أي مشهدٍ تُذكر فيه القضية الفلسطينية.
حتى بينما أشاهد آراء لفنانين مشهورين بخصوص فلسطين والاحتلال الإسرائيلي، وجدت "عادل إمام" لا يقول إن الذي يناصر الاحتلال الإسرائيلي خائن، بل قال إن كل من هو ضد "المقاومة" خائن، وأذهب بعقلي إلى ما قبل هذه السنوات الأخيرة، لأتأمل كيف كان مفهوم "المقاومة" مغروساً في وعي الجميع، كيف كانت فئات المجتمع على اختلافها، من أول الشيخ على المنبر إلى الممثل الذي يقدم أدواراً لا تُرضي الشيخ على المنبر، كيف كانوا جميعاً يتفقون على كره الاحتلال الإسرائيلي. ولا ننسى أبوتريكة فارداً جناحيه على مصراعيهما، مغطياً رأسه بفانلته الحمراء، وكاشفاً عن تيشيرت مكتوب عليه "تعاطفاً مع غزة"، وألف موقفٍ آخر لألف إنسانٍ كريمٍ آخر.
إلى أن أتى اليوم الذي وجدنا فيه أنصاف مواهب، وأشباه فنانين، وشباناً كانت تسعهم دور الرعاية والتأهيل بالأحرى، يخرجون على الشاشات ممثلين المجتمع الذي- بالتأكيد- لا يشبههم، وإن حاولوا هم أن يشبهوه قدر الإمكان، يتبنون كل الأدوار المقززة، ولا يتركون موضعاً للابتذال إلا خاضوه وأتقنوا دوره ببراعة.
على رأسهم كان نجم الجيل "محمد رمضان"، ذلك الفقاعة الكبيرة، ذلك المغرور المريض، ذلك الشاب الذي لو قدم شيئاً واحداً غير تمجيد نفسه فسيتذكره الناس إلى الأبد، لأن ملامحه فيها ما يرشحه لِأن يشبههم، لكنه ليس كذلك على الإطلاق، فلا يمثل المجتمع إلا من ينكر ذاته، ولن تجد أحداً ينكر ذاته أكثر من مواهبنا اللامعة الفذة، الذين كان يظهرون واضحين في كل المواقف. أما محمد رمضان فلم يكن يشبه أحداً إلا نفسه.
قبل يومٍ وليلة، كان محمد رمضان في مكانٍ ما في دبي، يرقص على أنغام "هافا ناجيلا" العبرية، مع مستوطنين- لا يجب أن نعرّفهم بشيء قبل كلمة مستوطنين-، مع مستوطنين مشاهير، أحدهم مطرب كان مجنداً بجيش الاحتلال الإسرائيلي- أو جيش العار الإسرائيلي كما يقول عادل إمام-، والآخر مستوطن ولاعب كرة قدم انتقل مؤخراً إلى نادٍ إماراتي- كمقدم للزواج بين أبوظبي وتل أبيب-، والتقط رمضان معهما الصور دون أن ينسى رفع إصبع السبابة في الصور، ولم تكن ليقول لا إله إلا الله بينما يحمل خنجراً أو مقلاعاً أو مولوتوفاً وتحت إبطه رقبة جندي إسرائيلي، وإنما ليقول إنه مع كل تلك القذارة "نمبَر وَن"، ذلك المرض الفتاك الذي يخصه وحده بين المليارات في العالم، مرض الـ"نمبَر ون".
ومع فتيات ليلٍ إسرائيليات كان يرقص محمد رمضان، على أنغام أغانيه تارةً وعلى أنغام الأغاني العبرية تارةً، ولم يندَ جبينه بقطرة عرقٍ واحدةٍ من الخجل، وإنما قد يكون تعرق من شدة الرقص، وفي الخلفية يرى المُشاهدُ لفيديوهات محمد رمضان صوراً حزينةً فاجعة، لفلسطين تبدو من وراء الضباب، تبكي حين تسأل عن اسمه فيقولون لها "محمد"، وشهداء يدلّون رؤوسهم من الأعلى، من فوق السحاب الذي تخرقه الناطحات، يبصقون على ذلك الوجه الأسمر المزيف، فكان الذي على جبهة محمد رمضان ليس العرق، وإنما بصقات الشهداء.
ولم يجد "نمبر ون" من يختلف عليه ككل مرة، لم يجد معجبين بأغنيته تارةً بينما يرفضها الآخرون أخلاقياً، وإنما الجميع اتفق هذه المرة، كان المشهد مذهلاً، حين اتفقوا على أن ذلك الولد ضال، أنه خرق حدوداً لا نخترقها نحن المصريين وإن خرقها أي أحدٍ عدانا، لأن الأمر لدينا حساس أكثر من حساسيته الطبيعية، كأننا محموقون للفلسطينيين أكثر منهم، فضلاً على أن الأمر لا يخصهم وحدهم وإنما يشمل الأحرار جميعاً، ونحن أول الأحرار وأوْلاهم بالغيرة والغضب.
وبدأ عداد الإعجابات في صفحته يقل ألفاً بعد ألف، رد فعل شعبي مناسبٍ للعصر الذي نعيشه، رد فعل قوي بامتياز، سيدرسه ربما متخصصو الإعلام الجديد مستقبلاً، تابعت ذلك الهبوط في الإعجابات لديه، وبالتأكيد مع محاولاته المدفوعة لتعويض ما راح، وخشيت أن يستصغر الناس ألف "إلغاء للإعجاب" بصفحته التي بها أكثر من 8 ملايين، لكنني فوجئت بالوعي الذي في ردود بعض الناس على بعضهم، حين قالوا: "هكذا بدأنا مقاطعة فرنسا، وهكذا يستمر رئيس فرنسا نفسه في التراجع يوماً بعد يوم".
حظ محمد رمضان أنه أتى بفعلته القبيحة في وقتٍ استنتج فيه الناس أن عليهم القيام بالفعل دون ربطه بالنتيجة، ثم ستأتي النتيجة مبهرةً لهم، وبعد ساعات قال محمد رمضان- دون أن يعتذر- إنه لا يسأل كل إنسانٍ عن اسمه وعنوانه ودينه ولونه قبل أن يلتقط صورة معه، مؤكداً أن كل هذه محاولات للنيل منه ومن نجاحه، في نعرته المستمرة المتواصلة في نظرية المؤامرة، أن جميع الناس يحقدون عليه، ويتصيدون له صورةً مع "إسرائيلي" ليُسقطوه من قمة نجوميته.
لكن ذلك لم يخدع الناس، لأن الفنان لم يلتقط صورةً معهما على هامش حفلٍ خيري، ولم تكن صورةً في ستاد به 100 ألف متفرج، وإنما كانت الصور حميمية للغاية، بما يناسب حفلاً خاصاً جداً "على الضيق"، مقصوراً على مستوطنين إسرائيليين مشهورين، وقلوب مستوطَنة وإن كانت الوجوه تحمل ملامح عربية سمراء.
وذلك رد الفعل المذهل لنا جميعاً، ولإخوتنا الفلسطينيين، فتح لنا باباً جديداً لقياس رد الفعل، ففي عصرٍ تمثل فيه الـ"سوشيال ميديا" أرضيةً لهذا الجيل من الفنانين أو المشاهير بلا فن، فإن الجمهور الذي في هذا المكان نفسه، قادرٌ على أن يخسف بهم هذه "الأرضية"، ويدفنهم أحياءً وهم في عز مجدهم، حين يقعون فيما لا يُغتَفر، وأي جريمةٍ يا أحمق أكبر من أن تخون فلسطين؟
لا نقول إن كائن المحمد رمضان انتهى، وإنما نستطيع الجزم بذلك حين تمتد المقاطعة الحقيقية من المواقع إلى الواقع، فنجد أعمالاً له بلا جمهور، ونجد أغاني بلا مستمعين، ونجد شبحاً كبيراً متضخماً ينكمش بلا اهتمام، ونجد فقاعة محمد رمضان تنفقئ إلى الأبد، ويكون ذلك أفضل فيلم يختتم به مسيرته الخاوية، فيلمه الحقيقي الأول والأخير: "السقوط الكبير".
وستكون البطولة لنا نحن، حين لا نمرر أي اعتذارٍ منه، ولو رسم وشماً بعلم فلسطين على ظهره، ولو غنى مهرجاناً بعنوان "القدس لنا"، ولو تبرع بكليتيه ورئتيه وقلبه لجريحٍ في غزة، ولو فعل أي شيء على سبيل الاعتذار، فلن نقبله، فليفعله لكن على سبيل التكفير بينه وبين نفسه عن ذنبه، لأن اعتذاره إلينا ليس بمثابة إفاقةٍ من تلك الخطيئة، وإنما اعتذار إلى "نسبة المشاهدات"، وأرباح الأفلام. ولأن موالاة الاحتلال الإسرائيلي تحديداً، ليست ذلك الذنب الذي يقبل التوبة، لأن فاعله لا يخالف أصله فقط، وإنما يقتلع ضميره من جميع أحشائه أولاً. ومن يستطيع استعادة ضميره بعدما يحرقه؟
إذَن، نحن نملك الأدوات، نملك أن نخسف بالأوهام الأرض، نملك أن نخفض كل وضيعٍ رفعناه بالخطأ ذات يوم، نملك أن نمحو عارنا فنقضي على الخائن قبل أن يتكاثر، ونغسل الذل الذي عاد به إلى أرضنا المجيدة، ونطهر الرجس الذي ظنَّ شهرته ستشفع له فيه، ونكتب رسالةً واضحةً جداً، شديدة اللهجة جداً، نقول فيها: فلسطين هي المقياس، موقفك منها إما يجعلك رجلاً فوق الرؤوس، أو نعلاً تحت الأقدام.
هل انتهت فقاعة محمد رمضان؟ ليست فقاعة محمد رمضان فقط التي انتهت، وإنما كل فقاعةٍ تفكر بالظهور مستقبلاً. وشكراً لمحمد رمضان، هذه المرة الوحيدة التي نشكره فيها، أنه أعطانا ذلك النموذج المثالي لدرس عملي فيما نستطيع تقديمه بدءاً من الآن، من ملاحقة محاولات التطبيع، والمواجهة الحقيقية لكل أصحاب الفن الهابط، ولنجعلهم دائماً حيث ينتمون؛ إلى القاع السحيق، وفي القاع لن يلومهم أحد على صُحبة جيرانهم، ولن يلتفت أحدٌ إلى تطبيع أي ذليل مع "إسرائيل".
ولعل تلك الموجة الأخيرة أعطتنا أملاً، وأعطت الفلسطينيين أملاً، في إخوة العروبة والجيرة والإسلام. قد نختفي أحياناً، قد نحاول الظهور ويكتمون صوتنا أحياناً، قد نطيل أعناقنا فيقطعونها أحياناً، لكن حين نرى أي ثغرةٍ تسمح لنا بالظهور، فذلك صوتنا الحقيقي كما رأيتم، وهؤلاء نحن.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.