تعيش تونس نهاية هذه السنة على وقع أزمة متعدّدة الأبعاد، فعلاوة على الوضع الصحّي المتدهور الذي تعيشه مع تفشي عدوى فيروس كوفيد-19، الذي انعكس سلباً وبشكل مباشر على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، فإن الوضع السياسي غير المستقر يخيّم بظلاله، ولا نبالغ إن قلنا إنّه يهدّد المسار الديمقراطي برمّته، وحتّى نحاول فهم هذا الوضع المعقّد علينا بالعودة بتقنية الفلاش باك لأشهر مضت.
انطلقت الأزمة بين رئيس الجمهورية قيس سعيد وبين رئيس الحكومة هشام المشّيشي يوم أداء الحكومة للقسم، وحتى نكون أكثر دقّة فإن الأزمة قد تحوّلت حينها من أزمة صامتة غير معلنة إلى أزمة صاخبة معلنة بشكل صريح، وصل مداها إلى الصحافة العالمية، إذ عنونت وكالة بلومبيرغ تقريراً لها صدر يوم 1 سبتمبر/أيلول 2020: "الرئيس التونسي يستقبل حكومته بالصراخ" .
فالسيد قيس سعيد لم يستطع إخفاء غضبه وعدم رضاه عن حكومة اختار رئيسها من خارج المنظومة الحزبية برمّتها، ظنّاً منه أنه سيكون وزيراً أوّلاً يأتمر بأوامره وينفّذ كل تفاصيل أجندته وخياراته.
والسؤال المطروح إذاً: لماذا "انقلب" المشيشي على سعيد؟
من المعروف عن السيد هشام المشيشي أنّه صاحب تكوين أكاديمي قانوني لا تاريخ حزبياً له، غير أن علاقته الشخصية بالسيدة نادية عكاشة، مديرة الديوان الرئاسي، وزمالة سابقة لرئيس الجمهورية (في كلية الحقوق) شفعا له بضمان موطئ قدم في المشهد السياسي الجديد، في إطار توجّه السيد رئيس الجمهورية إلى القطع مع المنظومة الحزبية الكلاسيكية، في إطار سياسة جديدة تكون أساس مشروع سياسي يسعى رئيس الجمهورية إلى تركيز "مداميكه" كشكل بديل عن المنظومة الحالية، عبر ما يُعرف بنظام الديمقراطية المباشرة، أو الديمقراطية المجالسية اللوكسمبورغية*
فالحملة الانتخابية التي خاضها قيس سعيد سنة 2019 قامت على التبشير بنهاية الديمقراطية التمثيلية والأحزاب والجمعيات، عبر فكر راديكالي قائم على الهدم وإعادة البناء.
مسيرة المشيشي السياسية انطلقت مع حكومة إلياس الفخفاخ، وزيراً للداخلية، ليختاره رئيس الجمهورية مباشرة بعد تقديم الفخفاخ استقالته، مكلّفا بتشكيل الحكومة، ليتسلّم التكليف يوم 25 يوليو/تموز، ثم يعلن عن اعتزامه تشكيل حكومة كفاءات من خارج الأحزاب، بناء على رغبة رئيس الجمهورية، وهو ما تمّ فعلاً، غير أن العلاقة توتّرت بين المشيشي وقيس سعيد في الأمتار الأخيرة لتشكيل الحكومة، برفض رئيس الجمهورية لعديد من الأسماء المقترحة، علاوة على تدخّل مدير الديوان وحاشية الرئيس في التركيبة الحكومية، الأمر الذي أثار حفيظة المشيشي، ودفعه إلى "التمرّد" والبحث عن دعم برلماني لحكومته، انتهى بالتنسيق مع حركة النهضة (54 مقعداً)، وحزب قلب تونس (32 مقعداً)، وائتلاف الكرامة (20 مقعداً)، ومجموعة من النوّاب المستقلين، وهو ما ضمن للمشيشي مرور حكومته برلمانياً بأكثر من 120 صوتاً (تحتاج فقط إلى 109 أصوات لتمرّ).
رئيس الجمهورية اعتبر تصرف المشيشي ضرباً من "الخيانة"، وهو ما تحدّث عنه دون مواربة في الكلمة التي ألقاها خلال جلسة أداء الحكومة للقسم في قصر قرطاج، بقوله "سيأتي يوم أتحدث فيه عن الخيانات والاندساسات"، منتقداً ما سمّاها "الصفقات التي دُبّرت بليل في الغرف المظلمة"، مؤكداً معرفته بكل ما يدور "في المجالس والمآدب المشبوهة".
كما أسلفنا بالذكر، فإن جلسة أداء القسم للحكومة بداية شهر سبتمبر/أيلول، كانت بمثابة الإعلان الرسمي لبداية الصراع بين قرطاج والقصبة، ويمكن أن نلخِّص هذا الصراع في مجموعة من المحطات المهمّة خلال الأسابيع الماضية:
- رئيس الجمهورية يستدعي رئيس الحكومة لقصر قرطاج، وفي فيديو نشرته الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية، يظهر قيس سعيد على شاكلة "الموبّخ الملقّن" لرئيس الحكومة، معترضاً على توجّه المشّيشي نحو تعيين مستشارين اقتصاديين، سبق أن شاركوا في حكومات نظام بن علي، وهو ما فُهم على أنه تدخّل في صلاحيات رئيس الحكومة، وتجاوز للصلاحيات التي حدّدها الدستور التونسي لرئيس الجمهورية.
- ساعات قليلة بعد واقعة قرطاج، تنقل إذاعة موزاييك إف إم المحلية عن مصادر في رئاسة الحكومة تنديدها بطريقة الإخراج، التي تمّت للقاء قيس سعيد والمشيشي، وما مثّلته من إساءة لصورة الدولة، وعليه فإنّ رئيس الحكومة سيرفض مستقبلاً تصوير أيّ لقاء يجمعه برئيس الجمهورية، يتم إظهاره بطريقة مسيئة للدولة ومؤسسات الحكم، بحسب ذات المصادر.
- لقاءات دورية لرئيس الجمهورية مع وزراء دون غيرهم في الحكومة (الوزراء الذين فرضهم في مشاورات تشكيل الحكومة)، وخاصة وزراء العدل والداخلية وأملاك الدولة.
- رئيس الحكومة يردُّ الفعل، ويعلم كافة الطاقم الحكومي في مجلس وزاري نشرته الصفحة الرسمية للحكومة، بأن مخاطبة رئاسة الجمهورية عبر المُكاتبات والمراسلات تتمّ حصرياً عبر رئاسة الحكومة.
مؤشّرات ثقيلة أكّدت القطيعة بين القصبة وقرطاج، وهو أمر لا يحتاج إلى بحث "أركيولوجي" دقيق، للتأكّد منه أمام قيس سعيد، بمزاجه الحاد وعدم قدرته على التعاطي الهادئ مع التطوّرات، وفق ما تقتضيه نواميس السياسة من تدرج ومرونة ودبلوماسية، وهو ما سيجعل هذا الصراع مفتوحاً على كل الاحتمالات، قد يصل إلى حرب تكسير عظام، ستنعكس حتماً على الوضع السياسي الهشّ الذي تعيشه تونس.
ولِسائل أن يسأل: ما غاية كلّ من رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية من هذا الصراع المعلن؟
بالنسبة للسيد هشام المشيشي فغايته واضحة، وهي المواصلة في منصبه رئيساً للحكومة، والخروج من عباءة رئيس الجمهورية وحاشيته، وهذا ما يفسّر بحثه عن الدعم البرلماني، بانتهاج سياسة "الصفر أعداء"، ومحاولة استرضاء جميع الأطراف السياسية البرلمانية، سواء الوازنة منها أو حتى النوّاب المستقلّون، والأحزاب ذات التمثيل الضعيف، مع الحرص على التواصل الإيجابي مع الشركاء الاجتماعيين (الاتحاد التونسي للشغل، اتحاد الفلاحين، اتحاد الأعراف)، أمّا على المستوى الشعبي فقد نجح المشيشي مؤخراً في التوصّل لاتّفاق مع معتصمي منطقة الكامور (منطقة في أقصى الجنوب التونسي، تضم منشآت لاستخراج البترول والغاز أغلقها المحتجّون منذ أشهر)، وهو ما عجز عنه أسلافه من رؤساء الحكومات السابقة.
وفي سياق متّصل تنقّل رئيس الحكومة نهاية الأسبوع الماضي، إلى منطقة "راس جدير" الحدودية مع ليبيا، للإشراف على إعادة فتح المعبر الحدودي (مغلق منذ أشهر) الذي يعتبر متنفّساً لمنطقة الجنوب الشرقي التونسي، وشريان الحياة فيها، حيث يعيش غالبية سكّان هذه المنطقة على التجارة البينية.
أمّا بالنسبة لرئيس الجمهورية قيس سعيد فإنّ غايته تتمثّل في الإطاحة بهشام المشيشي من منصبه، وهذا ليس من قبيل الضرب على الرمل، أو التخمين أو التحامل، حيث التقى سعيد ساعات قبل جلسة منح الثقة البرلمانية للحكومة في بداية شهر سبتمبر/أيلول، مع ممثّلين عن أحزاب حركة النهضة والتيار الديمقراطي وحركة الشعب، وحركة تحيا تونس، واقترح مواصلة حكومة الفخفاخ المستقيلة بنفس تركيبتها، مع تغيير رئيس الحكومة (الفخفاخ تحوم حوله شبهات فساد وتضارب مصالح)، وهو ما يعني ضمنياً الدعوة لإسقاط حكومة المشيشي المقترحة برلمانياً، غير أن مطلبه قوبل بالرفض من حركة النهضة وحركة تحيا تونس، باعتبار أنّ هذا التمشّي يمكن أن يقود البلاد إلى فراغ دستوري وقانوني، يمكن أن يستغلّه رئيس الجمهورية عبر تأويله للنصّ الدستوري، في غياب محكمة دستورية تفصل في الإشكاليات الدستورية الخلافية.
من جهة أخرى، التقى قيس سعيد الأسبوع الماضي بممثّلين عن أحزاب التيار الديمقراطي وحركة الشعب (يجمعهما تحالف برلماني في إطار كتلة مشتركة وهي الكتلة الديمقراطية بـ38 نائباً) في لقاءات غير معلنة، وبحسب مصادر مطّلعة فإن محور اللقاء كان التشاور حول التنسيق المشترك، وتبنّي الكتلة الديمقراطية لخيارات رئيس الجمهورية، وهو ما أكّده أيضاً زهير المغزاوي، أمين عام حركة الشعب القومية، في حوار مع أسبوعية الشارع المغاربي، بإشارته إلى الاقتراح على رئيس الجمهورية الدخول في جبهة وطنية تجمع الكتلة الديمقراطية في البرلمان والاتحاد التونسي للشغل، باعتباره منظمة وطنية، وهي جبهة مضادة لرئيس الحكومة وحزامه السياسي في البرلمان.
وفي سياق متّصل، التقى رئيس الجمهورية في الذكرى الأولى لتنصيبه (23 أكتوبر/تشرين الأول) برضا شهاب المكي، المعروف بأنه مهندس حملته الانتخابية ومنظِّرها، وما للتاريخ من رمزية، حيث تشير المعلومات المتوفّرة أن اللقاءات المتواترة بين قيس سعيد والمكي كانت بغاية الشروع في حملات تفسيرية تجوب البلاد، عبر تنسيقيات شبابية، في كلّ الجهات، تعرّف بالمشروع السياسي لرئيس الجمهورية، في إطار البحث عن حزام شعبي داعم، يكون غطاء لاقتراح سعيد على البرلمان مشروع استفتاء شعبي لتغيير النظام السياسي من البرلماني إلى الرئاسي، وهذا الأمر ليس من السهل على أرض الواقع (نظراً للتوازنات السياسية)، إلا إذا تم فرضه من منطلقات ثورية، ستؤدي إلى صراع حقيقي وليس مضمون النتائج من داخل المجتمع، في إطار ما يسميه أنصار قيس سعيد "الانفجار الثوري".
وكان موقع ميدل إيست آي البريطاني، قد سلّط الضوء في تقرير حول هذا الموضوع، معتبراً أن قيس سعيد في طريق بلورة مشروعه السياسي أمام مفترق طرقات، فإمّا أن ينتهج الدرب القانوني الدستوري، وهذا يمكن أن لا يؤتي أُكله نظراً لتعقيداته، أو انتهاج درب "البونابارتية " (نسبة لنابليون بونابرت)، عبر الاستقواء بالشرعية الشعبية، وبالشارع، وهي مغامرة غير محمودة العواقب.
واستناداً لما سلف، فإن غاية رئيس الجمهورية الأساسية هي إسقاط حكومة المشيشي، لكن بالشكل الذي يريده، وهو الإطاحة بالحكومة عبر استقالة رئيسها، ما يعني دستورياً عودة المبادرة لقيس سعيد، لتكليف الشخصية الأقدر لتشكيل الحكومة، والأخطر من كل هذا هو أن لرئيس الجمهورية الحقّ في تلك الحالة، حلّ البرلمان، والدعوة لانتخابات تشريعية سابقة لأوانها، في ظرف اجتماعي واقتصادي وصحي صعب، علاوة على صعود أسهم الشعبويين والراديكاليين والفوضويين في استطلاعات الرأي، على غرار الحزب الدستوري الحر، المحسوب على الجناح المتطرّف للنظام القديم، والذي ينادي بإقصاء كل من أتت بهم منظومة ثورة 14 يناير.
كما أشرنا في بداية هذا المقال، فإننا لا نبالغ عند القول إن المسار الديمقراطي في تونس مهدّد بشكل جدّي، سواء من الفوضويين في الداخل من المراهنين على التحرّكات الشعبية نتيجة تردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، أو من قوى إقليمية تحاول منذ عقد من الزمن تعطيل المسار الديمقراطي في مهد الثورات العربية، سواء عبر اختراق الساحة السياسبة بالدعم المالي المشبوه لشخصيات وأحزاب تكفر بالثورة، أو عبر إغراق الإعلام المحلّي بالمال الفاسد، لصناعة رأي عام ناقم على البرلمان والطبقة السياسية.
سقوط قانون المالية لسنة 2021 (مشروع قانون خلافي رفضته عديد من الأطراف السياسية والمنظمات الوطنية وحتى البنك المركزي) يعني سقوط حكومة المشيشي أخلاقياً، وهو ما يمكن أن يفتح الأبواب على الكثير من السيناريوهات التي لا يمكن التنبؤ بمدى خطورتها في ظرف دقيق تعرفه تونس.
*اللوكسمبورغية: هي نظرية ثورية اشتراكية تحررية ضمن الماركسية، ترتكز على مؤلفات روزا لوكسمبورغ، التي انتقدت سياسات لينين وتروتسكي خلال الثورة الروسية، وكذلك المركزية الديمقراطية التي لم تر أنها ديمقراطية، كما أنها استلهمت نموذج كومونة باريس سنة 1871، التي تقوم على الانتخاب المباشر من قبل المنتجين لممثليهم في الحكم، مع احتفاظهم بكامل حقوقهم في مساءلتهم ومحاسبتهم، واستبدالهم إذا لزم الأمر، دون التقيّد بمهل زمنية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.