لماذا على الإنسان أن يتخبط في التناقض؟ لماذا عليه أن يدعو للمثل الأعلى ثم يقفز في الوحل؟
منذ مدة وأنا أحاول أن أفهم تصرفات فرنسا تجاه المسلمين، وكم أبدينا أسفنا على ما يحدث في بلاد الأنوار، ولكننا لم نكن نتوقع أبداً أن نقرأ عن الأمر في غير فرنسا، أو على الأقل في غير الدول الأجنبية (هناك دول كثيرة تحترم المسلمين)، فأن تسمع بحادثة من النوع الفرنسي في بلد إسلامي لهو أمر غريب ومثير للقلق، أن تنتقل عدوى فرنسا للدول الإسلامية والعربية هذا أمر لا بد لنا من وقفة أمامه.
ماذا وجدوا لدى الفتاة سندس؟
ربما تتشابه مدينة القنيطرة هذه التي تدور أحداث المقال فيها مع مدينة القنيطرة في سوريا، ولكنها ليست هي بالتأكيد.
هناك ظاهرة منتشرة في البلاد العربية والعالم الثالث على العموم، وهي تدريس الأطفال في مدارس البعثات الأجنبية، وأعتقد أني منذ مدة قرأت مقالاً عن خطر تدريس الأطفال في مدارس البعثات الأجنبية، وكان صاحب المقال مصرياً.
يلجأ الآباء لهذه المدارس نظراً لجودة التعليم فيها، وكذلك لكونها مدارس خاصة بالطبقة الغنية لا يخالطهم فيها من هم دونهم، كذلك يمكن لمن يدرس في هذه المدارس أن يجد باب الدولة التي تمثل المؤسسة سواء ألمانيا أو فرنسا وربما إسبانيا، مفتوحاً على مصراعيه، ولهذا كله تجد مجموعة من الأسر تفضل تدريس أبنائها في هذه المدارس على المدارس العمومية أو المدارس الخاصة.
وحيث تربيت كانت توجد مؤسسة من هذا الطراز، روادها من الطبقة الغنية، كنا إذا مررنا بهم أدركنا عمق الهوة التي تفصل بيننا، وأيقنا أن مستقبل هؤلاء مرسوم مسبقاً، وكنا نحسد هؤلاء الصبية على الجو الذي يدرسون فيه، فهم على هيئة الأجانب، وبالنسبة لنا وانطلاقاً من عقدة الأجنبي/الخواجة، كنا نرى فيهم العرق السامي أو الإنسان الأعلى.
لا يهم، المهم أنه في مدينة القنيطرة المغربية لا السورية، وفي إحدى مدارس البعثية الفرنسية " دون بوسكو" (الدون تعني القسيس/الراهب) تلج الطفلة سندس، البالغة من العمر 12 سنة، كعادتها من باب مؤسستها، إلا أن هذه المرة يبدو أن الفتاة تحمل ما يمنع إدخاله للمؤسسة المذكورة، وإلا كيف نفهم عدم السماح لها بالالتحاق بزملائها وتركها حسب ما قالته أمها وحدها في المكتبة.
أول الأمر لا يمكنك سوى تأييد قرار المؤسسة، فهو ليس اعتباطياً ولا استبدادياً، إنما كما قلنا قائم على حمل الفتاة لشيء ممنوع، وقد استغرقت أول الأمر القليل من الوقت في التخمين ومحاولة استنتاج نوع الممنوعات الذي ضُبط بحوزتها، وكدت أجن، فكيف يعقل أن فتاة بهذا العمر الصغير تحمل ممنوعات كهاته، ماذا لو كانت سكيناً حاداً؟ تخيل لو أنها أحضرت مخدرات أو شيئاً من هذا القبيل، وذهب بالي بعيداً، ولكن المفاجأة كانت قوية.
لم تحمل الفتاة سندس البريئة لا مخدرات ولا أي شيء من هذا القبيل، فوجهها البريء يدل على أنها تلقت أفضل تربية، وأنها من النوع المسالم، حسبك فقط أن تتأمل قسمات وجهها، ولكن الفتاة سندس وللأسف الشديد كانت ترتدي الحجاب!!
نعم هذا هو سبب منعها يا سادة يا كرام، الفتاة سندس قررت أن ترتدي الحجاب عن طيب خاطر دون ضغط من أحد، ولكنها لم تكن تعلم أن هذا الأمر سيُغضب مؤسستها والقائمين عليها، وأن قضيتها ستتحول لنقاش عام، ولم تفكر أبداً في أن حجابها قد يتسبب في طردها من المؤسسة، فهي تعتقد كما يعتقد كل سكان العالم (ما عدا ماكرون وفرنسا طبعاً) أن الحجاب مسألة شخصية، ولا يحق لأحد التدخل فيها، وتظن أن المسألة الدينية يجب أن تحترم كيفما كانت وأينما كانت. إلا أن ما فعلته المؤسسة ومديرتها صدمها، وفي الحقيقة صدمنا جميعاً. وربما سيصدم كل من يقرأ الخبر.
فهل بإمكانك أن تتخيل أن مؤسسة ما تمنع شخصاً ما من الاستفادة من خدماتها بسبب دينه؟ أنا أكتب هذا وأبتسم لأني مدرك معنى هذا، وأتخيله بهذا الشكل:
" قهوة من فضلك،
ما دينك؟
يهودي!
آسف، لا نقدم القهوة لليهود.
لماذا؟
هذا قانون داخلي"
ليس بإمكانك سوى الضحك على مثل هذه التصرفات؛ لا يمكن لأي عاقل أن يتصور منع طفلة في بلد مسلم من دخول مؤسسة بسبب ارتداء الحجاب، هذا غير مقبول بالمرة، بل لو أني لم أقرأه في منصات محترمة ما صدقت الأمر، ولو أني قد أصدقه ولو سمعته من شخص غير موثوق، وذاك إذا أخبرني أن المؤسسة فرنسية.
لماذا تكره فرنسا الإسلام لهذه الدرجة؟
لقد بات الإسلام منذ ظهوره أول مرة محط اهتمام أوروبي، وازداد هذا الاهتمام مع الحروب الصليبية (1098م-1492م)، فقد كانت هذه المواجهة بمثابة الصفعة في وجه العالم الأوربي، ففي الوقت الذي كان يعتقد أو يشاع عن الإسلام بأنه دين تخلف ووحشية وعن المسلمين بأنهم قطاع طرق ومتوحشون، وجد الأوروبي نفسه أمام سلالة نقية من البشر، ونوع جديد لم يألفه؛ فالصورة التي كانت في مخيلته تحطمت منذ اللقاء الأول، ولما نظر إلى نفسه ونظر إلى المسلم لم يجد متخلفاً إلا هو ولا لصاً إلا هو، بينما المسلم طاهر البدن نظيف الثياب، جميل المظهر، ورؤوف بالأسر عكس ما كان يشاع عن كونه يأكل البشر!
هنا بدأت العلاقة بين الشرق المتقدم والغرب المتخلف، فبدأت الترجمات وعلى رأسها ترجمة القرآن الكريم، يقول الأستاذ محمد صالح البنداق:
"أول ترجمة للقرآن الكريم باللغات الأوروبية كانت باللاتينية، وقد تمت بإيعاز وإشراف رئيس دير "كلوني" في جنوب فرنسا الراهب "بطرس المبجل"، وهذا اسمه، وكان ذلك سنة 1143م، وعلى يد راهب إنجليزي يدعى روبرت الرتيني وراهب ألماني يدعى هرمان".
كان البابا أوربان الثاني الفرنسي (1035-1099) أول من جمع الجموع للحروب الصليبية عبر خطبته المعروفة، ونحن نجد أن أول ترجمة للقرآن كانت بإيعاز من راهب فرنسي، وهكذا كانت العلاقة بين الأوربيين عامة والفرنسيين خاصة وبين الإسلام.
بعد عدة قرون، وفي الوقت الذي كانت فرنسا تهدف لتحويل الشمال الإفريقي لبحيرة فرنسية، اصطدمت بقوتين "إنجلترا والإسلام"، فإنجلترا كانت تراقب التحركات الفرنسية منذ أيام نابليون، وتترصد كل خطواتها في المنطقة، واستطاعت انجلترا إجهاض الحلم الفرنسي، بأخذ مصر (1882) ودعم إيطاليا في ليبيا (1911)، وإسبانيا في المغرب (1912). وبهذا منعت فرنسا من تأسيس إمبراطوريتها الإفريقية.
أما الإسلام وثقافة الإسلام فهما العدو اللدود لفرنسا، وهذا الذي نلمسه في كل تحركاتها وسياساتها في بلدان الجزائر (1830-1862)، وتونس (1881-1956)، والمغرب (1912-1956)، فمن إلغاء دور القرآن مروراً بالتضييق على تعليم اللغة العربية وعلى العلماء والفقهاء، وانتهاءً بفرض اللغة الفرنسية والثقافة الفرانكفونية، وفي هذا الصدد يقول الباحث المتخصص في اللسانيات، ماهر الملاخ إن:
"الحديث عن الفرانكفونية لا يعني حديثاً عن اللغة الفرنسية في حد ذاتها، إنما عن منظومة ثقافية تمت صياغتها في شكل مشروع للهيمنة، مسكون بأيديولوجية شوفينية، تحتقر الشعوب التي تعتبرها بربرية، ثم توظف مؤسسات دولية وإقليمية ومحلية".
لم تكن فرنسا تحتقر الإسلام فقط، بل تحتقر كل ما يشي به، ولم يكن الإسلام مجرد دين، بل كان الإسلام الحاجز الذي منع فرنسا من الوصول لعمق الكائن المغربي والتونسي والجزائري؛ ففي الوقت الذي تفوقت لغة الغرب في الأمريكيتين وإفريقيا السوداء، وجد الأوروبي نفسه أمام ظاهرة جديدة غير معهودة، فمع كل ما قامت به فرنسا في الجزائر مثلاً إلا أن الجزائري لم ينس أصله ولم يضع سلاحه ولا قرآنه أرضاً، وهذا ما كان يغيظ فرنسا، لقد أدرك الناس قوة الدين الذي يحملونه وأدركت فرنسا قوته، وهكذا ازداد حقدها عليه أكثر فأكثر. فهو منعها الكعكة التي كانت تريدها لنفسها، ومازال صلباً عصياً على الاختراق ليومنا هذا، مع كل الحركات الإسلامية الأوربية التي ظهرت، ومع كل الشيوخ المزيفين، ومع كل المعاهد والأموال التي صرفت ما زال عصياً هذا الدين.
هذا بالإضافة إلى اللائكية التي تتبناها فرنسا والتي نذكر بها دائماً.
فلا عجب إذن من أن تتحامل فرنسا على الحجاب، ولكن العجب أن تفعل ذلك فوق أرض الإسلام، وفي بلد 99% من سكانه مسلمون. هذا هو العجيب، وهذا الجديد.
النهاية
وصلت قضية سندس للمحاكم، ومع ثقتي الكاملة بقرار القضاء المغربي الذي سينصف لا محالة الطفلة، وسيضطر المؤسسة لتغيير قوانينها للتوافق مع الدولة التي توجد بها، فلسنا في دولة الفوضى، نحن في دولة عمرها 12 قرناً، أي أنها أقدم من أقدم دولة في أوروبا، ونحن في دولة مؤسسات، وفي دولة تضمن الحق في التعليم لكل المغاربة دون تمييز بينهم من حيث الجنس أو الدين، وهذا ما يؤكد عليه الدستور المغربي في الفصل 31:
"تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين على قدم المساواة من الحق في الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة".
مع ثقتي في القضاء إلا أني أرجو ألا تتكرر القضية، وألا نسمع بها مرة أخرى، لأن الأمر فعلاً مزعج، ولا نريد أن نعود للكتابة أو الحديث عن منع طفل من ولوج المدرسة لسبب ديني أو عرقي، هذا غير أخلاقي ببينما نعيش في القرن الحادي والعشرين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.