قتل الإسكندر الأكبر ونشر الدين المسيحي في أوروبا.. كيف عبث البعوض بتاريخ البشر؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/11/17 الساعة 11:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/12/22 الساعة 09:07 بتوقيت غرينتش


البعوضة ليست مجرد حشرة صغيرة مزعجة تفسد استمتاعنا بنزهات ليالي الصيف، ولكنها كانت العدو الأكثر فتكاً لجنسنا البشري على مدار تاريخ البشرية، ولا تزال.

عدد قتلاها مذهل، من بين 108 مليارات شخص عاشوا على الأرض في المئتي ألف سنة الماضية مات ما يُقدر بنحو 52 ملياراً منهم بسبب الأمراض التي ينقلها البعوض. وفي عام 2018 وحده أودت تلك الأمراض بحياة 830 ألف شخص، معظمهم في إفريقيا وجنوب شرق آسيا.

لكن هذه الأرقام هي مجرد لمحة في سرد ​​قصة التأثير الهائل للبعوضة على جنسنا البشري. من عصور ما قبل التاريخ إلى الوقت الحاضر، ومن الجغرافيا السياسية للحضارات العظيمة وصولاً إلى تكوين الحمض النووي للبشر، غيَّرت البعوضة مجرى تاريخ البشرية في العديد من النقاط الحرجة، وبطرق متنوعة.

قبل أن نُلقي نظرةً عميقة على أثرها في تاريخ البشرية دعونا نلتقي أولاً بخصم قصتنا: البعوضة نفسها.

ليس هناك كلمة في اللغة العربية كلمة تعني المفرد الذكر من البعوضة، لأن إناث البعوض فقط هي بطلة القصة، بينما تلهو الذكور في البراري مرتشفة رحيق الأزهار فإن الإناث تحمل خراطيم خنجرية تشق بها جلودنا لتمتص دماءنا، من أجل توفير الغذاء للبيض الذي يحوي صغارها. بعد تزويدها بالطعام الكافي تضع البيض على أي سطح مائي راكد، تلعب الرطوبة ودرجة الحرارة دوراً مهماً في ازدهار البعوض. ففي المناخات المعتدلة تظهر فقط في الربيع والصيف والخريف، بينما في المناخات الاستوائية فهي نشطة طوال العام.

البعوضة المسكينة التي تكدّ لتطعم أطفالها لا تسبب بنفسها سوى ضرر جلدي خفيف، ولكن هناك العديد من مسببات الأمراض تقطن لعاب البعوض وتستخدمه كناقل لها.
 هناك ما لا يقل عن 15 مرضاً تسببه فيروسات وديدان وطفيليات تصيب البشر عن طريق البعوض، كالديدان التي تسبب داء الفيل، وهو تورم شديد في الأطراف وأجزاء الجسم الأخرى، والفيروسات التي تسبب حمى الضنك ومرض زيكا وحمى غرب النيل والحمى الصفراء.

ولكن من وجهة نظر تاريخية فالطفيلي الذي يسبب الملاريا هو الأكثر أهمية، لأنه ينتقل عبر البعوض حصراً، وتوجد خمسة أنواع مختلفة من الملاريا تصيب البشر، وعندما ينتقل طفيلي الملاريا جيئة ذهاباً وإياباً بين البشر والبعوض يتحور عدة مرات خلال دورته التناسلية متعددة المراحل، هذا التغير المستمر في شكله يُصعّب على العلماء تحديد الطفيل وتطوير لقاح فعال ضده، لكن هذا لم يمنع البشر من التصدي لها، في حرب بدأت منذ آلاف السنين.

لقد طور البشر مجموعة متنوعة من الدفاعات الجينية ضد الملاريا، لكن هذه الدفاعات كانت نعمة ونقمة في الوقت ذاته، كانت نعمة للحفاظ على السلالات البشرية، ولكنها لعنة على حاملها، أحد أكثر الأمثلة شهرة هي سمة الخلية المنجلية، المعروفة أيضاً باسم فقر الدم المنجلي.

بدأت قصة هذه السمة منذ 8000 عام، عندما بدأ مزارعو قبائل البانتو في غرب وسط إفريقيا في الاستقرار على طول دلتا نهر النيجر، كانت المنطقة رائعة لزراعة البطاطا والموز. لسوء الحظ كانت أيضاً موطناً لأسراب البعوض الناقل للملاريا، لقد قضى المرض على معظم السكان الذين كانوا عزّلاً ضده.

ولكن الأجيال اللاحقة طوّرت طفرة جينية غيرت قواعد اللعبة، تسببت الطفرة في تغير شكل الهيموجلوبين في الدم من الشكل البيضاوي إلى الشكل المنجلي، لا يمكن لطفيلي الملاريا أن يعيش في هذا الشكل الجديد من الهيموجلوبين، ما يوقف دورة تكاثره، والنتيجة هي أن الأشخاص ذوي الخلايا المنجلية طوّروا مناعة ضد الملاريا.

لسوء الحظ، أثرت هذه الصفة على مناحٍ أخرى في صحتهم، ما جعل متوسط ​​أعمارهم يبلغ 23 عاماً فقط، لكن هذا كان عمراً كافياً لهم للتكاثر ونقل سمة الخلية المنجلية لأطفالهم، ما جعل أطفالهم أكثر قابلية للبقاء على قيد الحياة في وجه البعوض.

عندما بدأت قبائل البانتو بالانتشار جنوباً وشرقاً عبر إفريقيا بين 5000 و1000 سنة قبل الميلاد، أعطتهم مناعتهم ميزة كبيرة في حروبهم ضد مجموعات الصيادين الموبوءة بالملاريا، التي واجهوها على طول الطريق، ما سمح لهم بالهيمنة على القارة لفترات طويلة.

لنغادر جنوب إفريقيا وننتقل الآن إلى فجر الحضارة الغربية، كانت اليونان في حالة خراب بعد سلسلة الحروب البيلوبونيسية بين إسبرطة وأثينا، تفاقم الدمار الذي خلّفته الحرب بسبب الملاريا المستوطنة، حينها تمكنت مملكة مقدونيا المعزولة نسبياً من الظهور لتملأ فراغ السلطة، وقادها رجل أصبح يُعرف في النهاية باسم الإسكندر الأكبر.

بحلول عام 326 قبل الميلاد، من خلال مزيج من الحرب والدبلوماسية، وحّد الإسكندر معظم اليونان، ثم توجه بقواته شرقاً، وغزا الإمبراطورية الفارسية وأجزاء كبيرة من آسيا الوسطى، شملت الأراضي الناتجة عن هذه الإمبراطورية أجزاءً من مصر وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين وتركمانستان وأوزبكستان وطاجيكستان وأفغانستان.

طمح الإسكندر إلى ضم الهند وباكستان إلى مملكته، ولكن عند دخوله المناطق المحيطة الرطبة والدافئة لوادي نهر السند، واجه جيش الإسكندر أقوى منافسيه؛ البعوضة.
 لم يتمكن جيش الإسكندر، الذي أنهكته سنوات القتال وأصبح يعتمد بشكل متزايد على الجنود المرتزقة، من الصمود أمام تفشي الملاريا الذي مزق صفوفه أثناء مروره عبر المستنقعات والأنهار المليئة بالبعوض في الوادي، وانتهى بهم الأمر إلى العودة إلى أراضي إمبراطوريتهم.

أثناء الانسحاب، قرّر الإسكندر التوقف في بابل، حيث أراد التخطيط لغزواته القادمة، ولكنه توفي فجأة عندما تكالبت عليه حمى التيفويد والملاريا، عن عمر يناهز 32 عاماً هُزم أحد أعظم الغزاة في تاريخ العالم مرة أخرى، على يد حشرة لها نفس حجم ووزن بذرة العنب.

الإسكندر الأكبر/ ويكيبيديا

قبل وفاته، كان الإسكندر يفكر في غزو الشرق الأقصى، ولو نجحت خططه لكان الشرق والغرب مرتبطين بشكل مباشر لأول مرة في التاريخ، ولكن وبعد وفاته المفاجئة مباشرة بدأت إمبراطورية الإسكندر القوية في الانهيار، حيث بدأ جنرالاته في القتال ضد بعضهم البعض.

ولكن كما سنرى، لم تكن هذه المرة الأخيرة التي يلعب فيها البعوض دوراً رئيسياً في تشكيل مصير إمبراطورية. عندما نفكر في روما القديمة، غالباً ما تستحضر عقولنا صور الكولوسيوم والبانثيون والعجائب المعمارية الأخرى، ولكن غالباً ما نغفل أن تلك المدينة منذ العصور القديمة إلى منتصف القرن العشرين كانت محاطة بـمئات الأميال المربعة من المستنقعات، وهذا يعني الكثير من البعوض، والكثير من الملاريا.

 كان البعوض المحمّل بالملاريا من أعظم حلفاء روما. بين عامي 390 قبل الميلاد وحتى 429 ميلادياً ساعد البعوض في درء الغزاة الواحد تلو الآخر، كان بعض هؤلاء الغزاة قادرين على نهب روما بسهولة، لكنهم اضطروا إلى التراجع لأن قواتهم استنزفتها الملاريا قبل أن تصل إلى أسوار المدينة، وبدون هذا البعوض ربما لم تكن الإمبراطورية الرومانية قد نشأت أبداً.

لكن البعوضة أثبتت أنها حليف متقلب، في بداية القرن الأول الميلادي حاولت الإمبراطورية الرومانية التوسع في أوروبا الوسطى والشرقية، بغزو الأراضي الواقعة شرق نهر الراين. هناك قوبلت الجحافل الرومانية بمقاومة شرسة من القبائل الجرمانية، التي أجبرتها بذكاء على القتال والتخييم قرب مستنقعات المنطقة، حيث مزق البعوض صفوفهم، وساعد القبائل الجرمانية على صدهم رغم ضعف قواتهم العسكرية.

لا شك أنك سمعت المقولة القائلة إن "كل الطرق تؤدي إلى روما"، هذا لأن الإمبراطورية الرومانية ربطت الكثير من أجزاء أوروبا معاً. لقد فعلت ذلك حرفياً بإنشاء الطرق وتعبيدها، ولكن أيضاً اقتصادياً وسياسياً وثقافياً عن طريق التجارة والغزو، مهّد هذا الربط الطريق لانتقال بعض الأمراض على نطاق واسع، مثل الملاريا، إلى جانب نشر الأفكار، مثل أفكار المسيحية.

ساعد انتشار الملاريا على تسريع انتشار الدين المسيحي في أوروبا، على عكس الوثنية الرومانية التي لم تُعنَ بمساعدة المرضى، كانت المسيحية ديناً يساعد المرضى على الشفاء مادياً ومعنوياً. اعتقد المسيحيون الأوائل أن رعاية المرضى وتطبيبهم واجب ديني، لذا التزموا بتوفير الرعاية التمريضية وإنشاء المستشفيات. هذا جعل الدين جذاباً جداً للعديد من الأوروبيين خلال القرن الثالث الميلادي، في أوج انتشار الملاريا والأوبئة الأخرى عبر القارة بدأت المسيحية تكتسب شعبية واسعة، وبحلول نهاية القرن الرابع أصبحت المسيحية هي الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية. 

ولكن كما ساعدت البعوضة في ظهور المسيحية الأوروبية، أسهمت أيضاً في تحقيق واحدة من أكبر هزائمها، وهذا ما سنعرفه في الجزء الثاني من هذه المقالة.

المصدر:

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مريم منصور
كاتبة ومترجمة
طالبة في كلية الطب جامعة الاسكندرية، كاتبة ومترجمة فريلانسر، حائزة على جائزة الشارقة للإبداع العربي ٢٠١٧.
تحميل المزيد