في الحلقة الأولى من مسلسل "المرسى والبحار" يدور نقاش حام بين ماجي والسائق الخاص بعائلتها، تحاول ابنة الكابتن إقناعه بتوصيل زميل لها يبدو من الطبقة المهمشة اجتماعياً، يوافق السائق بعد ضغط شديد، إلا أن الأُسطى ظلّ طوال الطريق يتحدث بنبرة استعلاء تُكن الكثير من الضيق والعصبية والسخرية اللاذعة للزميل. توقفت السيارة أمام المنزل أخيراً، ليقول السائق "إنت ابن مين يابني؟" وهو سؤال قريب من المجتمع المصري، قرب الوريد للإنسان.
صُدم الجميع في الأيام السابقة بسبب رؤية فيديو متداول لطفل صغير يسخر من شرطي المرور، ما كان من الطفل حين سُئل عن الرخص سوى السخرية ومحاولة صدمه متعمّداً، مشهد صاحبته ضحكات الفخر والثقة من الأطفال الآخرين في السيارة، بدا الغضب مفتعلاً، خصوصاً بعد الإفراج عن بيانات الطفل ومعرفة مهنة والده، إذ تحولت الاعتراضات لرضوخ وقبول بالأمر الواقع، وأتى قرار الإفراج عن الطفل، مُعزِّزاً لحقيقة أن من يملك سلطة يصبح فوق القانون، ولا يسري عليه ما يسري على باقي الناس.
تحوّل الطفل من مجرم مطارَد إلى سيد اكتسب ثقلاً ممتداً من سلطة والده المستشار، لم يفاجئني تقبُّل الناس؛ حيث رُسخ في الذاكرة الجمعية منذ أجيال بعيدة أن من يملك سلطة قانونية أو اجتماعية نظير وضعه في أعلى الهرم الطبقي يُعامل صراحةً كالأمير في إقطاعيته.
قانون ساكسونيا
"العدالة ليها رجلين اتنين، تنصف المظلوم وتعاقب الظالم، إنتم عايزين عدالة برجل واحدة بس، فهمي الكاشف عاوز يفرض القانون بتاعه، قانون ساكسونيا، عايز يعمل ناس من دهب وناس من طين، الأغنياء لهم قيمة والفقراء ملهمش". جاءت تلك الكلمات على لسان عادل إمام، مؤدّي دور الصحفي "علي عيسى" في فيلم "الغول"، مخاطباً المؤسسة القضائية ونظام العدل في مصر. بعد ارتكاب جريمة قتل عمد لأحد الموسيقيين، وإصابة راقصة بحادث سيارة، اتّضح أن الجاني ابن أحد رجال الأعمال الكبار، الذي سَخَّر أساليبه الملتوية لإسقاط التهمة، يصادف أن علي عيسى كان شاهداً على الواقعة، أراد أن يسير التحقيق في مجراه الطبيعي، لكن سلطة "الغول" حالت دون تحقيق العدالة؛ فبُرّئ القاتل وقُيدت القضية ضد مجهول.
"قانون ساكسونيا" المذكور في المقطع السابق وُضع في ولاية ساكسونيا الألمانية خلال القرن الخامس عشر، شرّع للتفرقة بين المجرم من عامة الشعب والمجرم من طبقة النبلاء، إذا ارتكب الاثنان جريمة قتل، يُقطع رأس المواطن العادي بينما النبيل يقف في الشمس، ويُضرب عُنق ظله. إذا سرق أحد الناس العاديين يُجلد، بينما النبيل يقف في الشمس، ويُضرب ظله على الأرض. لفت وحيد حامد، كاتب الفيلم، الانتباه لقانون ساكسونيا، قانون فهمي الكاشف، القانون الذي لم يعد قاصراً على ممارسات الحكومات، أو يختص به فئة بعينها، بل تسرّب لتعاملات عامة الشعب أنفسهم في حياتهم اليومية. فالسائق في مسلسل "المرسى والبحار" من نفس طبقة الشاب، إلا أنه تحول لذات أخرى امتدت من وضعه كسائق لعائلة كبيرة فاكتسب ثقلاً زائفاً، اغترب عن ذاته الحقيقية، ولم يعد يدري من هو في الأصل.
الحراك الاجتماعي
يتصل طموح الإنسان برغبته في الترقّي والانتقال من وضع ما إلى أفضل، الثبات يعني الموت في عالم يتصف بالديناميكية والحركة المستمرة. بالنسبة للطبقة الوسطى فإنها تتسم بوضع غريب بالنسبة للفقراء والأغنياء على حد سواء، إذ إنها مطالبة دائماً بالبحث عن سبل لتحسين مصادر دخلها، ومن يفشل معرض إما للسقوط أو الثبات المؤقت الكفيل بإسقاطه تحت عجلات الزمن.
بداخل الطبقة الوسطى مجموعات متنوعة، يربط بين كل منها عوامل اقتصادية وفكرية واجتماعية مشتركة، نختص بالحديث من يطلق عليهم علماء الاقتصاد "البرجوازية الصغيرة". وهي المرتبة غير المستقرة المذكورة في الفقرة السابقة، تقف على مقربة من الطبقة الأدنى، وتسعى لاكتساب صفات وعادات وأفكار الأعلى. تجذبها نزعات متناقضة، لما تمتلكه من امتيازات بوجود رأس مال صغير، مشروع نامٍ، قطعة أرض؛ حيث تستطيع العيش من مصدر دخل لا يقتصر على بيع قوة عملها، إلا أنها تتصل مع الطبقة العاملة في كونها تمارس أنشطة ذاتية، تعتمد على الفرد، مفتتة، وغير مستقرة، تخضع دائماً لقوة البرجوازية الوسطى والكبرى، التي لا تملك يداً في درء التبعية لهم، وتملك نفس مضاميرها الرأسمالية، وهي بدورها تُمارس الاستغلال على الطبقات الأدنى.
خلال أحداث فيلم "إسكندرية ليه؟" للمخرج يوسف شاهين، يحلم يحيى، هاوي التمثيل، بالسفر للدراسة في الخارج، ليستطع يوماً ما التمثيل في هوليوود، لكن أحلامه لا تجري في الفراغ، بل تتصل بالواقع والظروف المحيطة بالبلاد إبان الحرب العالمية الثانية، ووضع عائلته المادي. كذلك صديقه محسن ابن شاكر باشا غني الحرب المتزوج من أخت الأرستقراطي عادل بك، يتشارك الاثنان حلم السفر، كما تربط صداقة بين والديهما. يُظهر والد محسن احتقاره لوالد يحيى، قلل من شأنه خلال الحوار الدارمي، الذي عرفنا منه أن والد شاكر أحد المستفيدين من الحرب والاستعمار قطع علاقته بوالد يحيى؛ لأن الأخير رفض التخلي عن مبادئه. ندرك طبيعة عائلة يحيى الحساسة، والده محام يأخذ صف المظلومين، ويرفض أن يخسر أحد مقابل المال، بسبب ذلك كاد أن يحطم حلم يحيى، لكنه استطاع بدعم المقربين من الأسرة تحقيق حلمه.
استشرى نموذج شاكر باشا في جسد المجتمع المصري منذ السبعينيات على وجه التحديد، فُتحت قنوات جديدة للثراء لم تكن موجودة في السابق، منها الهجرة لدول النفط، التي أتاحت للمصريين توليد دخل جديد من الخارج والاحتكاك بأنماط استهلاكية مختلفة، كما ساهم التضخم وسياسة الانفتاح في حدوث تقلب عنيف في المركز النسبي للطبقات، صعدت شرائح اجتماعية ظلت طوال النصف الأول من القرن تنسب للدرجات الدنيا، وهو ما ولّد طبقة الأثرياء الجدد، التي حاولت محاكاة أبناء الشريحة الاجتماعية الجديدة التي أصبحوا منها، غالباً ما يُطلق على أمثالهم "محدثي النعمة" لِمَا يظهرونه من تباهٍ واستعلاء بعيد تماماً عما كانوا عليه، حيث سعت تأكيد صعودها وإبعاد أي شبهة قد تربطها بماضيها.
في تلك المرحلة، شاع نمط استثمار شحيح الإنتاجية، قد يكون معدوماً. كالمضاربة في الأراضي والمساكن الجديدة الفارهة، والخدمات لما تتسم به من قلة المخاطرة، تلائم الأفراد المتعطشين للثروة السريعة، كما أنها لا تتطلب مستوى جيد من التعليم أو الخبرة، بل ارتبطت أكثر بمصطلح "الشطارة أو الفهلوة".
يصف المؤلف الإنجليزي أوسكار وايلد هؤلاء "بالرجال الذين يعرفون سعر كل شيء ولا يدركون قيمة شيء". ومن السهل إدراك الأثرياء الجدد أو المستفيدين من تبعية الأغنياء كما ذكرنا في مطلع المقال، بتتبع حديثهم؛ فغالباً ما يلجأ هؤلاء إلى إخبار الجميع عن المبالغ التي أنفقوها من أجل شراء سلعة، قد يقتنيها فقط بغرض جذب الانتباه؛ ليشعر بالانتماء لشريحة اجتماعية أعلى، قد يصلح الأمر للإنفاق بشكل يعارض قدرته المادية إلا أنه دائم الاستعراض لتعويض إحساسه بالنقص والدونية.
"إنها لوظيفة استثنائية فائقة أن تكون إنساناً على الأرض".
- ماكسيم غوركي
لن يفهم المجتمع المصري بشكل دقيق خارج إطار رأسمالية الكازينو تشكل الآن أركان الحيز المظلم من العالم الذي نسكنه، إذ ترى الحياة عبارة عن صراع اجتماعي، الأقوى والأكثر نفوذاً وخداعاً من يفتقد بوصلة أخلاقية توجهه إلى الصواب وتنأى به عن الشر، من يجيد الصعود على أكتاف الغير هو من ينتصر في النهاية. يؤمن البعض في مجتمعنا بشكل غير واعٍ بالداروينية الاجتماعية، التي تنظر للآخر كزائد عن الحد، يمكن التخلص منه، يجيز البعض لأنفسهم الوحشية؛ حيث يضيق المكان على الفرائس السهلة التي تفتقر الصفات التي يتمتع بها هؤلاء الزومبي. الموتى الأحياء في عصرنا لا يخرجون من القبور، يرتدون ملابس ثمينة، ويتنقلون بسيارات لم يحلموا يوماً بالوقوف جوارها، هؤلاء هم طفيلو الرأسمالية الريعية.
هناك مَثَل إفريقي يقول "الضرس المتعفن يؤذي الفك كله". ومما سبق يبدو أن الفم نفسه هاجمته القروح، كلما تقدم الزمن يغيم علينا الضباب أكثر، حتى سيأتي يوم لا نرى سوى جرائم فيرمونت جديدة، اعتداءات من فئة أقوى على أخرى مستضعفة، ما دمنا استمررنا في تكرار سؤال "إنت ابن مين في مصر". ما دام ازداد الأغنياء ثروة، وظهرت خلفهم طفيليات تحاكيهم، تعتنق أساليبهم، ونظرتهم للحياة. بذلك تضع حداً يفصلها عن عامة الشعب، فالأقل يجب إخفاؤه، وعزله بعيداً؛ إذ لا توجد مصلحة بالتواجد في دائرة اجتماعية واحدة معه. في سعي البرجوازية الصغيرة للقفز فوق ما تمتلكه، تسعى لاستغلال الأرضية المشتركة مع الطبقة الأعلى، ويظهر من اللغة المستخدمة ونمط الحياة تشبثهم بادعاء مكانة تخلصهم من الارتباط بعامة الناس.
"إنهم لا يدافعون عن حياتهم عندما يقتلون الناس ويشوهون أرواحهم، ليس في سبيل ذواتهم، بل في سبيل ممتلكاتهم يفعلون ذلك، إنهم لا يدافعون عما في داخلهم، بل عما في الخارج منهم".
- ماكسيم غوركي
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.