نظم حزب المؤتمر السوداني بدعم من مؤسسة فريدريش أيبرت ورشة عمل مهمة عن الإصلاح المؤسسي وإصلاح الخدمة المدنية. قدم فيها الحزب ورقة تشكل رؤية عامة حول آليات التغيير والإصلاح المؤسسي في القطاع العام، تستند على خلق شراكات مع الأجسام المهنية، واستغلال الموارد الذاتية للمؤسسات المعنية، وتكوين لجان مختصة بالتغيير لقيادة الإصلاح المؤسسي، "أسوة بلجان التمكين واسترداد الأموال"، ترتبط رأسياً "بمجلس تغيير تنظيمي" برئاسة مجلس الوزراء.
تهدف المبادرة لمواءمة الاستراتيجية العامة للسلطة التنفيذية مع أهداف الوحدات الحكومية الأدنى، لزيادة كفاءة وفعالية الأداء الحكومي.
تم كذلك تقديم ورقة أخرى حول إصلاح الخدمة المدنية تناولت الترهل الإداري، ضعف الأجور، ونقص الموارد والتدريب، واختتمت بأهمية إيلاء معايير الحكم الرشيد الأولوية القصوى.
يُحمد لحزب المؤتمر السوداني اهتمامه بقضية الإصلاح المؤسسي، لأنها القضية الأكثر شمولاً وتعقيداً مقارنة بقضايا السياسات القطاعية، كالسياسات الاقتصادية، والصحية، وخلافهما. فالإصلاح المؤسسي هو أساس التغيير السياسي، وأحد المعايير المهمة لإثبات جديّة الحكومة الانتقالية، ليس فقط في إزالة رموز النظام السابق، بل التخلص من كامل منظومته الاقتصادية التي تسيطر علي مفاصل الدولة عبر شبكة مصالح متغلغلة في القطاع العام والخاص، بامتدادات عابرة للحدود. مثل هذا النهج هو ما يمكن أن يضع البلاد في أعتاب التحول الديمقراطي بحق وحقيقة.
لكن ما لم تتناوله ورشة العمل هو دور الأحزاب السياسية، ممثلة في قوى الحرية والتغيير، في تعطيل عملية الإصلاح المؤسسي، وذلك بانتهاج مبدأ المحاصصة، ليس فقط في الوظائف السياسية العليا، بل حتى جهاز الخدمة المدنية، الأمر الذي جعل الولاء السياسي مقدماً على الكفاءة في فترة لا تحتمل مثل هذا النهج. ربما من المهم الإشارة إلى أن صعوبة التغيير في القطاع العام تتعلق بالارتباط الوثيق ما بين السياسة، السياسات العامة، والإدارة، وأن التعيين السياسي في كثير من الأحوال لا يرتبط بقدرة المرشح على إدارة التغيير بقدر ارتباطه بالدوائر السياسية التي تصنع القرار، إضافة إلى الضمانات المبذولة لتحقيق مصالحها في المؤسسات المعنية. وغني عن الذكر بأن إصلاح القطاع العام، أو بصورة أدق، إدارة التغيير، في فترات الانتقال الديمقراطي تتطلب وجود قيادات بمؤهلات فنية ذات وعي وإدراك سياسي، وليس قيادات سياسية متوسطة المستوى، بمؤهلات فنية متواضعة.
لقد رفضت القوى السياسية المعارضة للنظام السابق إدراج الخبرة المهنية والحياد التنظيمي كمعايير رئيسية لاختيار القيادات السياسية في الفترة الانتقالية، واستبدلتها بلفظ فضفاض- "كفاءات وطنية"- لفتح الباب واسعاً نحو المحاصصة السياسية. والمقصود بالمؤهلين في هذا السياق ليسوا المهاجرين ذوي المناصب العليا في الدول المتقدمة، بقدر ما هو مزيج بين المواكبة التقنية والإلمام الكامل بديناميات القوى المتداخلة والمؤثرة على أداء مؤسسات الدولة. فمهمة القيادة السياسية خلال الانتقال الديمقراطي أكثر تعقيداً من الفترات الأخرى التي تتميز بالاستقرار المؤسسي، حيث يكون الخلاف حول السياسات وأدواتها هو السائد.
لقد ساهم حزب المؤتمر السوداني، أسوة ببقية القوى السياسية، في تعطيل التغيير بترشيح عدد مقدر من القيادات التي لا تملك رؤى واضحة لإدارة التغيير. فبنظرة عابرة في مجمل تصور حكام الولايات لأولوياتهم المرحلية، نجد أنها في الحقيقة لا تتسق مع شح الموارد التي تعاني منها مؤسساتهم المعنية. ولهذا نجد هوّة كبيرة بين الأهداف التي وضعها الولاة "طواعية" وواقع الأداء اليومي لمؤسسات الحكم. بالرغم من بعض الإشراقات المتفرقة، إلا أن مجمل الأداء الحكومي مازال على حاله، كأنما يجلس على سدّته، ويشرف على إدارته، عناصر النظام السابق. لقد وضع العديد من حكام الولايات أهدافاً عامة صعبة القياس وغير مقيدة بفترة زمنية محددة، وهذا الأمر انعكس على البرامج المنفذة، والتي لم تحقق أي تقدم ملموس في الخدمات العامة، ودونكم مشروع الصحة والبيئة العامة الذي ابتدره حاكم الخرطوم، والذي اشتمل على حملة نظافة شاملة في الولاية، لكنها لم تكلل بالنجاح. نفس الأمر ينطبق علي حاكم ولاية شمال دارفور، السيد محمد حسن عربي، والذي احتوى برنامجه السياسي على كل المشاكل والأزمات التي تواجه السودان وليس الولاية المعنية فحسب.
ما يحدث على مستوى الحكم المحلي ما هو سوى انعكاس للضعف المؤسسي على صعيد الحكومة المركزية. فمؤسسات الدولة تعمل وفقاً لنموذج صندوق القمامة Garbage Can Model وهو نموذج يعني بالتخبط في اتخاذ القرارات نسبة لعدم وضوح العمليات التنظيمية، حيث تعمل المؤسسات كجزر معزولة عن بعضها البعض. ويظل الخلاف الذي نشب بين وزارتي الطاقة والمالية، والذي كلف خزانة الدول ٧ ملايين دولار قيمة غرامة طالبت بها شركة نقل أوروبية بعد أن رفضت وزارة المالية تسديد المبلغ المتفق عليه بتوصية من كبير مستشاري رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، حسب ما ذكر السيد وزير الطاقة المستقيل.
أحد العيوب البنيوية في العملية السياسية التي تدير مشروع الانتقال الديمقراطي هي غياب، أو عدم قدرة المستشارين المتخصصين في التأثير على القرارات السياسية، وذلك بالمساهمة في رفد الفضاء السياسي بمبادرات وسياسات محكمة. فالناظر لكل القيادات السياسية في المحيط الإقليمي والدولي، والتي ساهمت في تطور بلدانها، يجد أنها لم تكن لتصل إلى ما حققته من نجاحات دون الاستعانة بجيوش من المستشارين لتنقيح الرؤى السياسية وبلورتها في سياسات عامة، واستراتيجيات، ومشاريع ذات تأثير ملموس في حياة المواطنين. قيادات كمهاتير محمد في ماليزيا، لي كوان في سنغافورة، وبول كاجامي في رواندا، استطاعت أن تقدم أمثلة لقدرة القيادة السياسية الجادة، والمنفتحة على العالم، على إدارة التغيير لتحقيق نتائج ملموسة في المديين القصير والمتوسط.
لا يمكن الحديث عن الإصلاح المؤسسي في السودان بدون الخوض بإسهاب في الفساد المستشري في مؤسسات الدولة. لقد وضعت كل المؤشرات الدولية السودان في أدنى المراتب من حيث نزاهة القطاع العام. لذلك، فإدارة التغيير خلال الفترة الانتقالية لن تتحقق إلا عبر إرادة سياسية جادة، وغير مهادنة لمواجهة ظاهرة الفساد في القطاع الحكومي. هذه الإرادة يجب أن تترجم إلى سياسات تعزز من الشفافية، وتطور المحاسبية، وتنتهج أفضل السبل لتعزيز النزاهة في مؤسسات الدولة كافة. للرئيس السنغافوري لي كوان مقولة مفادها أن "تنظيف الفساد مثل تنظيف الدرج يبدأ من الأعلى نزولاً". عليه، فالإصلاح المؤسسي في أمس الحاجة لقيادات سياسية بإمكانيات عالية، قادرة على استقطاب الكفاءات الوطنية، واستغلال الموارد المتاحة، لإدارة التغيير بصورة منهجية، وهو أمر يشكك الكثيرون في توفره في أغلب التعيينات السياسية التي تدير الفترة الانتقالية الحالية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.