نشأت فرقة الأكروبات السودانية الاستعراضية كفكرة للرئيس الراحل جعفر محمد نميري، في إحدى زياراته لجمهورية الصين الشعبية، عندما شاهد عروض الأكروبات الصينية التي تعتمد على المهارة الفائقة واللياقة والخفة والحركة، مصحوبة بأنغام موسيقية ورقصات فلكلورية، بعد ذلك صمّم أن يُوطِّن هذا الفن في السودان. وفي بداية السبعينيات بدأ تفعيل البروتوكول الثقافي السوداني الصيني، وتم اختيار عدد من الأطفال من السودان في العام 1971م، كانوا هم أساس المجموعة الأولى للأكروبات التي تعتبر الأولى من نوعها في إفريقيا والشرق الأوسط.
بعد ذلك أُوفِد عدد من الخبراء الصينيين للسودان، وتمت معاينة عدد من الأطفال، ونجح خمسون طِفلاً وطفلة، حيث كانوا النواة الأولى لفرقة الأكروبات السودانية، حضر هؤلاء الأطفال لجمهورية الصين الشعبية، وفي مدينة "ووهان" خضعوا لبرامج تدريب مكثفة لمدة ثلاث سنوات متتالية، وكان أداء الفرقة عالياً جداً، لدرجة أذهلت المدربين الصينيين، بحضور جماهيري كبير، وتم تقديم عدد كبير جداً من الفقرات، من بينها الفنون التي تعتمد على مرونة الجسد وحركته.
وما زالت العروض المذهلة لهذه الفرقة التي سحرت العيون وأبهجت النفوس في فترة السبعينيات والثمانينيات تعيش في ذاكراتنا نحن السودانيين، وكانت الفرقة الأولى من نوعِها في منطقة إفريقيا والشرق الأوسط، وَصف البعضُ هؤلاء الأطفال بالسحرة، ووُصفت عروضُهم بالمدهشة وغير العادية.
في لقاءاتي الإذاعية المتعددة للإذاعة السودانية دار حديث ذو شجون مع أحد مترجمي الفرقة أثناء وقبل وبعد سهرة إذاعية مشتركة مع إذاعة الصين الدولية، قبل سنوات خلتْ، من داخل السفارة السودانية في بكين، وهوالأستاذ الإعلامي سليم ليو يوان يي، الذي أُوفِد إلى السودان في نهاية السبعينيات من القزن الماضي، والأستاذ سليم دارس للغة العربية وآدابها بكلية اللغات والآداب الشرقية في جامعة بكين، أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، كما عمل قبل عشرات السنين رئيساً للقسم العربي بإذاعة الصين الدولية، ولعله أول رئيس لهذا القسم، وهو من مواليد 1935م، أي في نفس السنة التي ولد فيها أبي، الذي كان أيضاً دارساً للغة العربية بجامعة الأزهر الشريف -عليه رحمة الله- لذا أُناديه دائماً بالعم سليم، نشأتْ بيني وبينَه صداقةٌ رغم فارق السنين، وخَصَّنِي بكثيرٍ من ذكرياتِه، وكتبَ عن تجربتي في الصين ضمن مجموعة اختارها من الخبراء الأجانب الذين يعملون في الصين في اثنين من مؤلفاته، أحدهما باللغة الصينية والآخر تحت الطبع باللغة العربية.
نعودُ لموضوع الأكروبات مع العم سليم في تلك الجلسة، حيث جالتْ بخاطره ذكرياتٌ كثيرة وبابتسامته العميقة ونظراته التي تتذكر ذلك الماضي البعيد، روى لي مستذكراً أيامه مع فرقة الأكروبات السودانية، فقال: "في افتتاحية برنامج《عالم النجوم》لتلفزيون السودان في أوائل ثمانينيات القرن العشرين ركزت العدسات على حركات تمثل عرض مرونة الأعضاء لفتاة صغيرة تدعى لُبنى بابكر محمد، في فقرة حمل الكوب على الرأس، ضمن فرقة الأكروبات السودانية. وقد أصبحت حينذاك نجمةً سودانيةً جديدةً وعضوة في عالم النجوم ضمن مشاهير المغنين والعارضين والمسرحيين وغيرهم في السودان.
كانت لُبنى قُبلتْ عام 1978، عندما كانت في الثامنة من عمرها، كطالبة في الدفعة الثانية المكونة من إحدى وعشرين طالبة وطالباً في فرقة الأكروبات السودانية. ومدة دراسة الدفعة ثلاث سنوات، وكانوا في السنة الأولى يتدربون على التمارين الأساسية في السودان، وفي السنة الثانية تعلموا الحركات الأكروباتية في مدينة "ووهان" بوسط الصين. وفي السنه الثالثة والأخيرة رسخوا ما تعلموه في الصين، وطوروا مستواهم، وقدموا عروضاً تطبيقية، ومازلتُ أتذكر الطفلة لبنى آنذاك ولا أدري أين هي الآن؟"
"وفي العام الثاني، أي في عام 1979، فارقَ هؤلاء الصغار الواحد والعشرون آباءَهم وأمهاتهم لأول مرة، وقدموا من إفريقيا البعيدة إلى الصين"، هكذا يقول العم سليم، حيث تعلموا فن الأكروبات في ووهان. وخلال سنة أجادوا أساسيات ثلاثَ عشرةَ فقرةً مثل "اللوح المتحرك" و"مهارة القدمين"، و"حمل العمود على الكتف"، و"حمل الكراسي على الكتف"، و"العجلات الجماعية" وثلاث فقرات فكاهية مثل "مهرج الكرسي".
بعيداً عن كورونا (كوفيد-19) تعتبر مدينة ووهان الجميلة (مهد الأكروبات السودانية)، عاصمة مقاطعة هوبي بوسط الصين، وهي نقطة التقاء المواصلات في الصين، ومدينة تاريخية ذات 430 موقعاً أثرياً، كما تعد مركزاً صناعياً واقتصادياً وتجارياً، بها أكبر مصانع الحديد والفولاذ، تتنوع معالمها السياحية ومناظرها الطبيعية الجميلة والأخاذة، بها أكبر عدد من الطلاب القادمين من مختلف دول العالم، وثاني أكبر مدينة تضم الجامعات الصينية.
ويواصل سليم فيقول: "جوّ الخرطوم في يناير/كانون الثاني، مثل جو ووهان في مارس/آذار، فالمُناخ مُعتدل ربيعي متنامٍ، ويعتبر أفضلَ موسم من السنة. وفي هذه الأيام اللطيفة عاد هؤلاء الطلبة الصغار مع مدربيهم الصينيين إلى السودان بقلوب ملؤها السرور، حاملين معهم ثمار الدراسة الوفيرة للسنة التدريبية في الصين.
وعندما هبطت الطائرة ببطء في المطار نظرنا من النوافذ، ووجدنا أن ساحة المطار مليئة بطوابير طويلة من المُرحِّبين، في مقدمتها فرقة عسكرية يلبس أعضاؤها الأزياء العسكرية الحمراء، وكذلك فرقة موسيقى شعبية يرتدى أعضاؤها الملابس الشعبية.
وخلف الفرقتين مئات من الجماهير، وكان المشهد حاشداً ومهيباً لا يُنسى، فأصبح المطار مغموراً في بحر من الفرح والصداقة". ثم أضاف: "كنا نظن أن الجماهير جاءت إلى المطار للترحيب برئيس دولة أجنبية زائر للسودان، وبعد أن وقفت الطائرة بسلاسة في المدرج اندفع المرحبون في سيرهم كموجات المد والجزر إلى سلم الطائرة، وكان الطلبة الصغار السودانيون وأعضاء بعثة الأكروبات الصينية محاطين بحشد من المُرحبين. واتّجه القادة السياسيون السودانيون إلى المدربين الصينيين وصافحوهم بحرارة. وقال أحد المرحبين رافعاً إبهامه: "الصين قوية!" وهتف كثير من المُرحِّبين عالياً: "عاشتِ الصداقة السودانية الصينية!" وبعد ذلك رافق المدير العام للثقافة بوزارة الثقافة السودانية، ورئيس الفرقة الأكروباتية السودانية المدربين الصينيين إلى قاعة كبار الزوار في المطار".
اهتمام ورعاية رئيس مجلس الدولة بتدريب الأكروبات في ووهان
في عام 1971م، أي بعد سبع سنوات من زيارة الراحل تشو آن لآي، رئيس مجلس الدولة، كما يقول الأستاذ سليم -وهكذا يُسمى منصب رئيس الوزراء في الصين- ونائب رئيس مجلس الدولة ووزير الخارجية الصيني الراحل تشين يي للسودان، قبلت فرقة ووهان الأكروباتية بالصين المهمة المجيدة، الخاصة بتدريب أول دفعة لطلبة الأكروبات السودانيين بموجب اتفاقية التعاون الثقافي الموقعة بين الصين والسودان. واختارت وزارتا الثقافة والتعليم التابعتان للحكومة السودانية من المدارس الابتدائية والثانوية في الخرطوم خمسين طفلاً وطفلة من عمر 9 سنوات لدراسة الفنون في الصين، منهم 35 ليتعلموا فن الأكروبات، و15 آخرون لدراسة العزف على الآلات الموسيقية الشعبية الصينية.
وبعد سنتين ونصف السنة من التدريب أتقنوا أكثر من عشرين فقرة أكروباتية، مثل "قطع الطوبات الخشبية" و"مهارة القدمين" و"الوقوف على الطوبات الخشبية" و"القدرة على تحريك ما يحمله الفم والرأس بانتظام" و"المشى على السلك الفولاذي" و"الطاسات الماشية" و"العجلة العمودية". وبمناسبة تخرجهم في فرقة ووهان للأكروبات قدموا عرضاً في بكين، في 12 أبريل/نيسان 1974. واعتباراً من ذلك الوقت تأسست فرقة الأكروبات السودانية رسمياً، فأصبح هولاء الناشئون الخمسون نواةً لفن الأكروبات في السودان، وذلك بفضل الرعاية الدقيقة من رئيس مجلس الدولة الصيني الراحل شو آن لاي، والرعاية والتدريب الشامل من الفرقة الأكروباتية في ووهان بوسط الصين.
أداء التمارين حتى في شهر رمضان
وحسب متابعة الأستاذ سليم لأداء الفرقة، فإن كثيراً من الأعضاء الكبار كانوا يتمتعون بشغف كبير في تعلم فن الأكروبات، ما جعلهم يحتملون الصعاب بروحٍ غير هيّابة. ولأن أساسهم متين استوعبوا بسرعة ما يريده المدربون. وأما الأعضاء الصغار فهم مطيعون وحريصون على التعلم، ومتمسكون بالنظام والانضباط، حتى إن بعضهم كان يحضر معدات الأكروبات إلى مقر إقامتهم لمواصلة التمرين بعد الدراسة، وقد لقيت هذه الروح استحساناً وثناءً من الجميع.
ويواصل سليم سرده: "كان أعضاء فرقة الأكروبات السودانية يتمتعون بإجازة سنوية مدتُها شهر واحد حسب القوانين الحكومية. وكثيراً ما كانت ترتب الإجازة في شهر رمضان، ونظراً لأن المدربين الصينيين كانوا يؤدون مهمة التدريب في السودان ألغى الأعضاء إجازتهم السنوية لاستغلال الوقت في تعلم فن الأكروبات. وقد حلّ شهر رمضان في عام 1980 فيما بين أواسط يوليو/تموز وأواسط أغسطس/آب. وبرغم صيامهم ودرجة الحرارة العالية فإنهم أصروا على أداء التمارين مثلما كانوا في الأيام العادية. وكانت إذا انقطعت الكهرباء تتوقف أجهزة التكييف عن العمل وترتفع حرارة السقف المصنوع من ألواح الزنك وتزعجهم أثناء التمرين وتجعلهم يلهثون. والعرق يتصبب من أجسامهم وهم جلوس ساكنون، فما بالك بهم وهم يتحركون أثناء تأدية التمارين!".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.