عندما عشتُ في القدس، حكى لي أصدقائي اليهود عن رجل اشتكى إلى حاخامه أنّه يُواجه صعوبة في التنفس، في ظل العيش في غرفة صغيرة مع زوجته وأبنائه الـ9 وأمه. فسأله الحاخام إن كان يُربي حيوانات، فقال الرجل: "بقرة في الحظيرة". فأرشده الحاخام أن ينقل البقرة إلى غرفتهم ويعود لرؤيته بعد أربعة أسابيع. وعندما عاد له الرجل، اشتكى بمرارة من الدمار الذي ألحقته البقرة، فأخبره الحاخام أن يُعيد البقرة إلى الحظيرة ويراجعه بعد أسبوع. وكان الرجل في زيارته التالية سعيداً بحاله الجديد.
هذا هو حالنا اليوم، بعد أربع سنوات من رئاسة ترامب.
أتيتُ إلى الولايات المتحدة في خريف 2016. كان وقتها النظام العسكري في مصر قد دمر كل منجزات وطاقات ثورة 25 يناير الإيجابية. ولم يقتصر الأمر على قسوة القمع، الذي شمل قتل المئات واعتقال عشرات الآلاف. بل إن النظام تمادى ليغمر الساحة العامة بنظريات المؤامرة والأخبار الكاذبة والشك واليأس والكراهية، التي خلقت حالة عامة من الهستيريا. وبعد أن شوّه سمعة الجميع، صار النظام هو مصدر "الحقيقة" الوحيد في البلاد. وفي ظل هذا المناخ السام الذي اجتاح البلاد، لم يعُد هناك مغزى من الكتابة أو التحدث علانية، ولذا حين دعتني كلية دارتموث للتدريس فيها لم أتردد.
بين الواقع والأمنيات
لطالما كانت مشاعري تجاه الولايات المتحدة مختلطة، إذ إن لدي تخوفات عميقة وخطيرة حيال سياساتها. وبصفتي دبلوماسياً سابقاً، كنت ملماً تماماً بموقف وتوجهات أمريكا الإمبريالية، وتاريخها في الشرق الأوسط الملوث بالدم والاستغلال والفساد. ولأنني ليبرالي، كنتُ مدركاً للآفات الاجتماعية في الولايات المتحدة، التي تجلت في كتب مثل Beloved وThe Grapes of Wrath وAmerican Pastoral وThe New Jim Crow. كما أن أوجه القصور في ديمقراطية الولايات المتحدة معروفة ومنها: زواج المال بالسياسة، والعنصرية الممنهجة، وثقافة النخبوية، وانعدام المساواة، إلى جانب الأثر المدمر لنموذجها الاقتصادي على البيئة العالمية.
ومع إدراكي لتلك النقائص، فإنني أؤمن بالمبادئ التي تدعيها أمريكا، مثل: الحرية الفردية، والمساواة، والعدل. وعلى ثقة أن تلك المبادئ ليست مجرد شعارات رنانة، بل معايير تمنحنا القدرة على تقييم الواقع، وقوة نستغلها لإرغام السلطة على الرضوخ. وهي التي تحافظ على تماسك المجتمع المعاصر وتمنعه من التدهور إلى شكل أو آخر من الفاشية. وما يجعل الولايات المتحدة فريدة ليس نفوذها السياسي أو أوجه الظلم الاجتماعي بها، بل هو اعتناقها لتلك المبادئ كبديهيات والتزامها بها، مما يفتح السبيل أمام النضال التحرري الذي كان ليستحيل لولا ذلك. ولهذا السبب كنتُ سعيداً بالمجيء إلى هنا.
أمريكا ترامب
لكن دونالد ترامب انتُخب رئيساً بعد شهرين من وصولي إلى الولايات المتحدة. وراقبتُه عن كثب، والتوتر يأكلني، وهو يهين المبادئ الديمقراطية الليبرالية واحدة تلو الأخرى، وينتهج -بجرأة- سياسات مبنية على حساباته ومصالحه ضيقة الأفق. وفي الشرق الأوسط، كان ذلك يعني احتشاد الولايات المتحدة خلف حلفائها المستبدين وهم يعمقون الجراح الاجتماعية والسياسية بتهور، بدلاً من كبح جماحهم. كما عنى كذلك تخليها عن دعم وحماية حقوق الإنسان في العالم، بل وتشجيع ودعم الديكتاتوريات.
أما على الصعيد المحلي، فقد حبستُ أنفاسي وأنا أرى ما كان محالاً في السابق وهو يحدث ويجري تطبيعه، مثل: تعيين ابنته وزوجها في مناصب شديدة الحساسية، والإشادة بالتهرب من الضرائب، وتقويض استقلال المؤسسات، وانتهاك القواعد التي توطد وتؤطر العملية السياسية، والتشهير بالنساء والأقليات، وتشجيع التعصب العرقي الأبيض ونظريات المؤامرة، وترهيب الصحفيين، ودعوة الحرس الوطني لإخماد الاحتجاجات، وفصل الأطفال عن عائلاتهم واحتجازهم على الحدود. خلق ترامب في أقل من أربع سنوات مناخاً ساماً وخانقاً يثير الدهشة في تشابهه مع ذلك الذي قد تركته في مصر.
وأثّر في نفسي هذا المنعطف المظلم على صعيدٍ شخصي أكثر. إذ إنّ قوانين الهجرة وعقباتها الجديدة منعتني من السفر لأكثر من ثلاثة أعوام، وفي مرحلةٍ ما، منعتني كذلك من الكتابة في صحيفة The Washington Post الأمريكية. وقد استشارت إحدى صديقاتي المحامين بعدما سمعت أن الإدارة يمكن أن تسلمها إلى مصر على الرغم من وضعها كلاجئة، وشهد صديق آخر تعطل دعواه القانونية ضد معذبيه بعد أن حصنت الإدارة المتهمين من محاكم الولايات المتحدة. بالإضافة إلى اختفاء العديد من أصدقائي الآخرين في سجون مصر بتهمٍ ملفقة، منهم فنانين وبرلمانيين سابقين وشخصيات سياسية بارزة. بينما التزمت الولايات المتحدة الصمت، حتى عندما مات مواطنون أمريكيون في السجون المصرية.
وانكشفت لي الولايات المتحدة الجديدة، غير المهتمة بمُثل الديمقراطية الليبرالية سواء في الداخل أو الخارج، وبشكلٍ درامي عندما اغتيل صحفي Washington Post المقيم في أمريكا جمال خاشقجي على يد عملاء سعوديين داخل القنصلية السعودية في إسطنبول. وعلى الرغم من إقرار ترامب بأن ولي عهد السعودية كان متورطاً، وتبجُّحه بأن النظام الملكي السعودي لن يستمر "أسبوعين" دون دعم الولايات المتحدة، لم يرى رغم ذلك ما يدعو للتدخل في جريمة القتل الوحشية تلك.
باختصار، لقد تجرّدت أمريكا ترامب من مبادئها.
ولكن الآن بعد أن انتهى هذا الكابوس، بات يمكنني أن أتنفس بشكل أفضل.
صحيح أنه لن تختفي بالطبع القوى التي تسحب الولايات المتحدة إلى مساحات القوة والتعسف. وسوف تستمر نقائص النظام السياسي الأمريكي في عرقلة قدرتها على تحقيق طموحها. وسيدفع ما يزيد عن 70 مليون أمريكي انتخبوا ترامب، عن علمٍ هذه المرة، من أجل مجيء نماذج مختلفة منه. لكن المجال صار مفتوحاً مجدداً للحرب من أجل المبادئ الديمقراطية الليبرالية.
وخرجت البقرة أخيراً، وصار في وسعنا مواصلة نضالنا من أجل المساواة والعدل والحرية، بعد أن تعلمنا أن لا نتعامل مع وجودها على أنّه أمرٌ مُسلّمٌ به.
– هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Washington Post الأمريكية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.