البداية من موقع فيسبوك، أتصفح بملل، أبحث عن حساب الكاتبة نورا ناجي علَّها نشرت مقالاً جديداً، وأبتهج حينما يصيب ظني. الكاتبة نشرت المقال الخامس لها في سلسلة "الكاتبات والوحدة" بعنوان "في أثر إيمان مرسال وعنايات الزيات الجزء الأول".
أقرر القراءة، وأنا لا أعرف عنايات، ولكني أعرف أن الكاتبة نورا ناجي اختارت من تكتب عنهن بعناية ودقة، لذلك أبدأ في القراءة، وأنا واثق أن وقتي لن يضيع هباءً. المقال مُقسم لجزأين، الجزء الأول تتحدث فيه الكاتبة عن وجه الشبه بينها وبين عنايات الزيات.
الشعور بالوحدة، الضياع، بالتضاؤل وسط هذا العالم الشاسع في اتساعه، الضيق كثقب إبرة حينما يكون شعور الوحدة مُسيطراً علی نفوسنا، تتحدث عن الأمومة، وعن الرعب الذي قد يتملك الأم حينما تشعر بخطر فقدان أطفالها، وعن الخوف حينما قد يُصاب الأطفال بأذی، وعن عقدة الذنب تجاه أنفسهن حينما قد تكون الأم مؤذية لأولئك الأطفال لأي سبب خارجي مثل البحث عن الذات والحرب مع الحياة، أو داخلي كالاكتئاب والشعور بالوحشة.
تحدث المقال عن كتاب إيمان مرسال الذي قرئت منه 50 صفحة علی مقهی بمجرد الحصول عليه، نفس ما حدث معي حينما استعرت الكتاب من صديقي بولا صاحب المكتبة، التي تُعير وتبيع الكُتب لأي أحد يود الخروج من شعور الوحدة بالقراءة، أو الدخول داخل عوالم الحياة العديدة.
وفي يوم عادي بعد قراءتي لمقالَي للكاتبة نورا ناجي وبعدما وضعت في خطتي أن أقرأ في أثر عنايات الزيات للكاتبة إيمان مرسال، وأن أكتب عن عنايات، وعن روايتها "الحب والصمت"، وجدت صديقي بولا ناجي يعلن عن طرح الكتاب للاستعارة، حدثته، وطلبت منه إحضار الكتاب في الغد، وبعدها وجدت رغبة جامحة في القراءة. لا، لن أتمكن من انتظار الغد، طلبت بولا صاحب المكتبة، وطلبت منه إحضار الكتاب في الليل، وافق، والتقينا، وتحدثنا قليلاً، وعيني لم تسقط عن الكتاب، ودعت بولا في عجل، ولم أتمكن من انتظار الذهاب للمنزل أنا أيضاً مثل ما حدث مع الكاتبة نورا ناجي فقررت الجلوس علی المقهی، طلبت الشاي والنارجيلة، ولم أنتبه لسكب الشاي علی الأرض، ولا لصخب الناس أمام شاشات التلفاز لمشاهدتهم مباراة كرة قدم؛ لأنني بالفعل كنت بدأت في القراءة، وعلی ما يبدو أنني بدأت في أولى الخطوات الواسعة في عالم عنايات الزيات.
في أثر عنايات الزيات
هذا هو عنوان الكتاب الذي وضعته الكاتبة إيمان مرسال بعد رحلة بحث دامت لأربع سنوات، رحلة البحث عن أثر كاتبة ماتت منذ 57 عاماً.
الكتاب الذي حاولت فيه الكاتبة إيمان مرسال تتبع أثر عنايات في كل مكان كانت حاضرة فيه، والحديث مع أي شخص قد رآها وسمعها وعاصرها، وصولاً لقبرها الذي شعرت بلحظة كتابة الكاتبة إيمان مرسال عنه وكأني أنا من وصل، وكأنني التقيت بعنايات الزيات بعد قراءة صفحات كثيرة جداً مكتوبة بطريقة في غاية الجمال، ولكنها تصف لنا أسباب موت عنايات ومأساتها في الحياة، وهذا شيء في غاية الحزن.
عنايات كتبت رواية واحدة مازال أثرها موجوداً، وما زالت الرواية تُقرأ، وما زال هناك من هم مثلي يبحثون في الأسباب الكثيرة التي دفعت عنايات الزيات لإنهاء حياتها.
عنايات الزيات التي قرأت لها في مقالاتي الكاتبة نورا ناجي مقتطفات عن الوحدة والضياع وعن الألم، والشعور بالغربة والرغبة في التلاشي.
ثم في كتاب الكاتبة إيمان مرسال مقاطع من الرواية واليوميات الخاصة، وجدت الكثير عن عنايات، وجدت في كل سطر امرأة تتحدث عن ذاتها التي لا تستطيع تحمل قسوة العالم، وتقول في مقطع خاص في يومياتها في خريف عام 1962:
أنا لا أعني شيئاً عند أحد.. إذا ضعتُ أو وُجدتُ سيان. وجودي كعدمي، أنا إن وُجدتُ أو لم أوجد فلن تهتز الدنيا، خُطاي لا تترك أثراً وكأني أمشي علی الماء، ووجودي لا يراه أحد كأنني كائن غير مرئي.
ألهذا السبب قررت إيمان مرسال تسمية الكتاب في أثر عنايات الزيات! هل رغبت بالفعل في جعل أثر لعنايات بيننا، وقول شيء لها عله يواسي روحها التي عاشت غريبة ووحيدة وماتت كذلك؟
عنايات الزيات
المرأة التي تطل من صورها بضحكة جميلة أحياناً، ودائماً بعيون تحاول النظر للعالم والكف عن النظر داخل الذات، الكاتبة تعيسة الحظ التي توالت علی قلبها وجسدها الضعيف المصائب والخسائر، التي علی ما يبدو كان آخرها الإخفاق في نشر روايتها الأولی والأخيرة، واحتمالية – شبه مؤكدة – لضياع حضانتها لابنها عباس الذي كانت تعني ضياعه منها سلبها لآخر شيء قد يربطها بالحياة، بالرغم من فقدها كيانها كأم، وهو معها بسبب رفضه قول كلمة ماما التي كان يقولها لزوجة أبيه، بسبب غربتها في العالم، وبسبب الكتابة في المحاولات الأولی التي بدأت بمحاولة قول أنا هنا، وانتهت برسالة انتحار مفادها الحياة قاسية.
والغريب أن عباس مات في نفس عمر والدته تقريباً، وبلسان خالته عظيمة الزيات أنه سقط من شرفة المنزل بعدما شاهد سيارة والده تدخل إلی الشارع، ولا أحد يعرف هل كان مجرد حادث أم انتحار! وهذا أمر لا بت فيه، ولكن الأكيد هو أن عباس ورث من أمه الاكتئاب الشديد الذي كانت تراه عليه دائماً ابنة السيدة عظيمة الزيات أخت عنايات.
في إحدى يوميات عنايات الزيات كتبت:
نحن لا نملك أحداً ولا يملكنا أحد
الحياة تتغير، والأشخاص، ولا شيء يبقی
حتی الأبناء.
حتی الذين تكوّنوا بداخلنا وتغذوا علی دمائنا
ودفعنا ثم نعم آلام المخاض المروّعة.
حتی هذا الذي ورث بعض صفاتي.
وملامحه وملامحي
حتی هذا الذي ابتسامته ابتسامتي.
وإصبع قدمه الصغيرة المعوجة.. مثلها بقدمي
حتی خذا الذي أرضعته مع اللبن. حبي
حتی هذا الذي أرقتُ. لينام
حتی هذا يتغير
حتی هذا ينساني..
أنه لم يرَ الحياة بعد.
بعد ما زال علی الشاطئ
فماذا يفعل لو خاضها إلی رُكبتيه
وهل يضيع مني إلی الأبد.
ويتتبع الكتاب الكثير من الخُطی للوصول لأي معلومة بسيطة أو دسمة عن عنايات، وكأن سوء حظها ظل ملازماً لها حتی بعد الموت وجعل من رحلة البحث عنها كمن يبحث عن إبرة في كومة قش، ولكن الكاتبة إيمان مرسال تعلمت الصبر علی يد الراحلة الرائعة عنايات الزيات؛ لأن كل خطوة كانت تحتاج لمئات الخطوات للوصول لمعلومة منشودة، حتی لو كل ما تبقی من عنايات مشذب ورائع وهادئ لا يشي إلا باكتئابها وعلاقتها بصديقتها الوحيدة نادية لطفي ومحاولات الشعور بالوجود.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.