المدرسة هي كيان نظامي يدخل ضمن نطاق التعليم، ويسير على منهاج ترسمه الدولة التي تمولها، وتُعتبر المدرسة بمفهومها الحديث مؤسسة تعليمية-تعلمية، والفرق بين التعليم والتعلم هو أن الأول يعتمد على الأستاذ لبناء الكفايات، أما الثانية فيعتمد فيها التلميذ على نفسه لفعل ذلك.
على أي حال، نحن هنا لا نُحاول تقديم تعريف دقيق للمدرسة أو التعليم، وإنما هدفنا هو توضيح الدور الذي تلعبه المدرسة للحفاظ على سيطرة الطاغوت.
انتقادات
وُجهت للمدرسة مجموعة من الانتقادات، لكونها تحاول الحفاظ على الوضع القائم كما هو، بل إنها تقوم بإعادة إنتاجه من جديد.
ومن هذه الانتقادات انتقادات عديد من علماء الاجتماع الذين اعتبروا المدرسة مجالاً للصراع بين الطبقات الاجتماعية، وعلى أن الطبقة المسيطرة تفرض ثقافتها وتُقدمها للطبقات المغلوبة على أنها ثقافة عالمية مشروعة، كما أنه يعتقد أن اختيار الأفراد لا يكون بفضل مهاراتهم وقدراتهم، وإنما بحسب انتمائهم أو ولائهم للطبقة المسيطرة.
وهناك أيضاً انتقادات بازل برنشتاين، الذي تحدث عن أن الطبقة الفقيرة تمتلك شفرة ضيقة لا تستطيع من خلالها أن تنسجم مع لغة المدرسة، بعكس الطبقة المسيطرة التي تمتلك شفرة مبنية تستطيع أن تفهم بها لغة المدرسة. ومن هذا المنطلق يعتقد مصطفى حجازي أن الشفرة الضيقة تتعارض مع لغة المدرسة، ما يجعل التلميذ الفقير يعيش غربة حقيقية داخلها.
كما وجه عالما الاجتماع الفرنسيان بيير بورديو وكلود باسرون انتقادات أخرى، حيث اعتبرا أن المدرسة تقوم بإعادة إنتاج النظام القائم والمحافظة عليه. كما أنها تمرر لغة وثقافة الطبقة البورجوازية، ما يجعل الطبقات الأخرى تتخلى عن ثقافتها الأصلية وتتشبع بثقافة الطبقة المسيطرة، من خلال ما يسميه فيليب بيرنو بالانحلال من الثقافة أولاً، ثم القيام بالثقافة ثانياً.
هذه بعض الانتقادات التي قدمها بعض المفكرين الغربيين، المتشبعين بالنظريات التي تنتقد الوضعية في المجتمع الغربي، خاصة النظرية الماركسية. وهذا لا يتمظهر في مجتمعنا العربي الذي لا يزال يُعتبر مجتمعاً هجيناً، لا ينهج نهج الليبرالية بشكل خالص، لهذا تُعتبر هذه الانتقادات نوعاً ما لا تشمل مجتمعنا، لهذا سأحاول هنا أن أقدم المدرسة كمجال في يد الديكتاتور، وليس كمجال بيد الطبقة البورجوازية أو الإقطاعية.
كيف تُسهم المدرسة في صناعة الطاعة؟
يتميز مجتمعنا العربي بسيطرة الطاغوت، الذي يستخدم مختلف المؤسسات في دولته للاستمرار في السيطرة، ومن هذه المؤسسات مؤسسة المدرسة، التي تلعب دوراً مهما في صناعة الطاعة، فكيف تقوم بذلك؟
تلجأ المدرسة لمجموعة من الإجراءات لاستمرار سيطرة الطاغوت، ومن هذه الإجراءات ما يلي:
– المحافظة على النظام: تحاول المدرسة بما لديها من مناهج أن تسير على نفس النسق الذي سارت عليه من قبل، من أجل المحافظة على الوضع كما هو، دون إعطاء أية فرصة لنقاش مدى مصداقية أو مشروعية أو معقولية هذا الوضع؛ ما يجعل التلميذ أمام بعد واحد لا يستطيع أن يتجاوزه؛ لأنه يُربى على أن هذا البعد هو الوحيد القابل للتطبيق، وهو الوحيد الذي يجب أن يوجد. وهنا يضطر التلميذ لتقبل الوضع الحالي، بل يعتبره وضعاً معقولياً لا بديل له، يجب الحفاظ عليه. ولتحقيق ذلك لا بد من طاعة مسيريه، أو قائده.
– ربط حب الوطن بحب الزعيم: تقوم المدرسة بوضع الطاغوت مرادفاً للوطن، حيث إنه لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، لهذا عندما يُذكر الوطن، يجب أن يذكر اسم الطاغوت أو لقبه، وعندما يتم استظهار النشيد الوطني يجب تذكر أو ذكر الطاغوت باسمه السامي. وبهذا يصبح انتقاد الطاغوت بمثابة انتقاد للوطن، لهذا إن رغب التلميذ أن يُصبح وطنياً فلا بد له أن يحب الوطن والطاغوت معاً.
– تكديس الواجبات حتى لا يجد التلميذ وقتاً ليُفكر بحرية، خارج النطاق المدرسي، حتى إن وقت الفراغ الذي يحصل عليه يكون إما وقتاً لإنجاز التمارين والفروض المنزلية أو متنفساً للراحة أو وقتاً للاستمتاع من تعب المدرسة، ولهذا يُصبح التعليم ووقت الفراغ لإنجاز التمارين أو للراحة أو الاستمتاع، المجالين الزمانيين الوحيدين اللذين يملآن معظم وقت التلميذ، وبهذا ينتهي التلميذ من الدخول في وقت آخر، خاص بالتفكير الحر أو خاص بالإبداع، وبهذا يُصبح هذا التلميذ متشبعاً بالرؤية المدرسية فقط.
– التربية على الحفظ ونقض الإبداع: تحاول المدرسة أن تمرر أفكارها على أنها الوحيدة المقبولة والتي يجب أن يكتسبها التلميذ ويحفظها، حتى يستطيع أن ينال اعتراف المدرسة والمجتمع والدولة به على أنه تلميذ متفوق، وأي إبداع خارج هذا النطاق يكون بمثابة عبث لا فائدة منه، لن ينال به اعتراف هؤلاء؛ لهذا يجد التلميذ نفسه مضطراً لاكتساب ما يُعطى له، دون التجرؤ على الخروج من القوقعة، والتفكير خارج الصندوق، وبهذا يُصنع التلميذ النموذجي بالنسبة للثلاثي المذكور.
– تدريس التاريخ بلغة السلطة لا الشعب. يُقدم التاريخ في المدرسة، متمحوراً حول التاريخ الوطني، الذي يكون فيه الطاغوت أو سلالته هم المحور الرئيسي الذي تحيط به الأحداث، بل يُقَدَّمُون على أنهم صناع التاريخ. وحتى وإن كان هذا الطاغوت جديداً في الحكم، ونال هذا الحكم بالانقلاب أو بثورة مزيفة، فإنه يُقدم نفسه في التاريخ على أنه الزعيم الذي أنقذ الشعب والأرض من ويلات النظام البائد.
– استبعاد الآراء المخالفة: لا تُقدم المدرسة على ذكر الآراء المخالفة للطاغوت، وإنما تُحاول إبعادها، بل جعلها مجرد ضرب من الجنون أو الخيال، فالمخالفون هم مجرد أشباح، يبحثون عن جسد ليستحوذوا عليه، لهذا يجب عدم الاهتمام بهم، أو البحث عن أفكارهم، أو تصديق كلامهم.
– التلميذ سينجح للخدمة: فالمدرسة تُقدم للتلميذ المعلومات والقدرات والمهارات الكافية (التي تُسمى الكفايات) ليكتسبها من أجل النجاح، الذي يعني أنه مستعد ليدخل في خدمة المجتمع الذي يُسيطر عليه الطاغوت، وبهذا يعتقد التلميذ أنه سينجح لخدمة الطاغوت. إذن لا قيمة لنجاحه إن كان سيُستثمر ضد الطاغوت.
– احترام سلسلة الطاعة: إن خروج الفرد من الأسرة متجهاً نحو المدرسة يعني خروجه من طاعة أبيه إلى طاعة الأستاذ، الذي يطيع بدوره الإدارة، والتي تطيع بدورها الأكاديمية، وهذه الأخيرة تطيع الوزارة الوصية على التعليم، وهذه الوزيرة وجدت بأمر من الطاغوت، إذن فواجب الطاعة الذي على التلميذ أنْ يتبناه أمام أستاذه يدل على أنه يتبنى واجب طاعة الطاغوت، إذن سلسلة الطاعة لا بد من احترامها، ليسمى التلميذ تلميذاً محترماً.
خلاصة
إن المدرسة ليست مجرد مؤسسة ملقاة في المجتمع، بل إنها تُحدد مصير هذا المجتمع، لأنه مصنع بشري، تُصنع فيه القيم والثقافة والكفاءة. لهذا تُعتبر المدرسة مجالاً استراتيجياً في المجتمع، لا يمكن الاستغناء عنه، لكن المؤسف هنا، هو أن هذه المؤسسة تُستغل لصناعة الطاعة أيضاً، والحفاظ على الوضع، كما لو أنه نهاية التاريخ، رغم أنه وضع عبثي لا معقولية فيه. إذن المدرسة تحت قيادة الطاغوت ما هي إلا مصنع للطاعة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.