الجاهل بالهندسة جاهل بالمنطق.. هل تراجع اهتمام العالم العربي بالعلوم الرياضية؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/11/11 الساعة 14:51 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/11/11 الساعة 14:51 بتوقيت غرينتش

عندما كنت صغيراً كانت المعادلات الرياضية تثير مخيلتي، فهي تبدو غامضة غير مفهومة، كلغز يُخفي وراءه أشياء هائلة كأنها المفتاح السحري لمملكة العجائب، وأن من يملك ذلك المفتاح يمكنه الدخول لتلك المملكة العجائبية، وبالفعل تعتبر الرياضيات أهم الأدوات التي مكنت التقدم العلمي المعاصر، ودفعت بالإنسان إلى مجالات لم يستطع حتى الخيال تصورها، ولكن ما هي بالضبط الرياضيات؟

يمكننا أن ننظر إلى الرياضيات على أنها بدأت كأداة استعملها الإنسان لتبادل المعلومات حول قياسات الأطوال والأوزان والوقت، وتطورت خلال الخمسة آلاف سنة الماضية لتصبح لغة تصف الظواهر في الكون، كعلاقات بين العناصر المختلفة لتلك الظواهر، وهذا التوصيف غالباً ما يأخذ شكل المعادلات.

مثلاً:

اليوم يساوي 24 ساعة

أو بشكل مختصر باستعمال الرموز:

 ي = 24 * س

وهذه المعادلة تقول إن اليوم يساوي 24 ساعة، فاليوم ظاهرة طبيعية لها طول معين وبقياس ذلك الطول بمعيار محدد -الساعة- تبين أن اليوم يحتوي على 24 من ذلك الطول المعياري المختار. هذه المعادلة بسيطة جداً ولكن هناك معادلات على درجة عالية من التعقيد وقد تجلب الدوار لمن ليست عنده الأرضية المناسبة، ولكن معظم المعادلات تحمل في طياتها جمالاً مثل اللوحة الفنية التي يرسمها فنان حاذق، حيث تثير في النفس مشاعر الجمال التي تثيرها أشكال الفن الأخرى، فهي من هذه الزاوية تعكس الجمال والاتساق في هذا الكون فيمكن اعتبارها قصائد من نوع خاص، والفرق بينها وبين الشعر هو أن الشعراء يأخذون شيئاً بسيطاً فيصفونه بشكل معقد وغامض لإنتاج الشعر، بينما العلماء ينطلقون من ظواهر معقدة وربما شديدة التعقيد ويعملون على تفكيكها وتحليلها للوصول الى أبسط صيغة ممكنة للمعادلات.

والمعادلات تطورت تدريجياً لتأخذ شكلها الحالي، ولعل من أهم الخطوات في مسيرة التطور هو مفهوم المعادلة الجبرية الذي أدخله مؤسس علم الجبر الخوارزمي في كتابه "الجبر والمقابلة" في القرن التاسع، ثم أتى من بعده في القرن السابع عشر فرانسوا فييت فاستعمل الرموز بدلاً من الكلام، ما أعطى لهذا العلم قدرة فائقة وأضحى الجبر من أهم فروع الرياضيات، خاصة بعد أن دمج ديكارت الجبر مع الهندسة بعد فييت بحوالي نصف قرن. 

 تشير الدراسات إلى أن الإنسان يولد باستعدادات تهيئ له فهم وتعلم الرياضيات مثل استيعاب الأرقام وتمييز الأنماط والانتظامات والإحساس بالموقع المكاني، حيث إنه من دون هذه الاستعدادات الفطرية لا يمكن أن يفهم الإنسان الرياضيات التي يتعلمها لاحقاً.

ويذكر القرآن أن تعلم الإنسان للحساب –الرياضيات– شيء مقصود ومطلوب للإنسان، وأن الكون ببنيته وقوانينه يهدف إلى تسهيل تلك المهمة، "هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدَّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب" (يونس: 5).

على أن التوصيف الرياضي للقوانين الطبيعية يتجاوز مجرد الوصف والمساعدة على التفكير المنظم إلى إعطاء تصورات جديدة والتنبؤ بأمور لم تكن لتخطر على البال. وفي هذا المضمار وفي عام 1960، نشر الفيزيائي يوجين ويجنر، الحائز جائزة نوبل، مقالاً مشهوراً بعنوان: "الفاعلية غير المعقولة للرياضيات في العلوم الطبيعية" حيث ذكر فيه أن معجزة الرياضيات في توصيف القوانين الفيزيائية بشكل ممتاز نعمة كبيرة حقاً لا نفهمها كما أننا لا نستحقها.

وقد أدرك الإغريق أهمية المعرفة الرياضية التي كانت ممثلة بالهندسة والأشكال الهندسية وعلاقاتها، ويُذكر أنه قد كُتب على باب أكاديمية أفلاطون أنه "لا يدخلن علينا من يجهل الهندسة"، لأن الجاهل بالهندسة سيكون أيضاً جاهلاً بالمنطق؛ ومن ثم لن يفهم الفلسفة.

وقد ورث العرب والمسلمون هذه النظرة، فقد كتب ابن خلدون في مقدمته: "واعلم أنّ الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله واستقامة في فكره، لأنّ براهينها كلّها بيّنة الانتظام جليّة التّرتيب، لا يكاد الغلط يدخل أقيستها لترتيبها وانتظامها، فيبعد الفكر بممارستها عن الخطأ وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهيع".

على أن العالم العربي والإسلامي إجمالاً تراجع اهتمامه بهذه العلوم، وأصبحت هذه العلوم ثانوية وهامشية، وأصبح التركيز على الحفظ والترديد وإعادة نسخ التراث دون أي إضافة حقيقية، ما خلق فجوة مع العلوم الحديثة تتسع مع الأيام.

ولنبين قدرة الرياضيات نورد المثال التالي: إن طول الإنسان بين المتر والمترين، ولنقل إنه متر فبإمكان المرء فهم شيء أكبر منه بألف مرة، بمقارنته بشيء مألوف مثل الجبل، ويمكن التعبير عن رقم الألف "10^3″، وذلك يعني عشرة مرفوعة للقوة ثلاثة أو بشكل آخر عندنا ثلاثة أصفار أمام الواحد. واذا انتقلنا إلى نصف قطر الأرض فهو أكبر منا بمليون مرة (تقريباً)، ونرمز للمليون "10^6″، فهنا لدينا 6 أصفار أمام الواحد. إذا انتقلنا إلى ما بعد الشمس، فهنا المسافة في مجال 10^11 (100 مليار متر)، ثم إذا انتقلنا إلى السنة الضوئية، فهي في مجال "10^16 متر". أما الكون المرئي فهو في مجال "10^26 متر"، وهي مسافة كبيرة بشكل هائل وخارج تجربتنا وتخيُّلنا، ولكن يمكن التعبير عنها بسهولة في الرياضيات، كما أن الرياضيات هي القاعدة التي تقوم عليها الهندسة التي تبني العالم.

بالطبع لا يمكننا في مقالة مختصرة، تغطية كل أوجه الموضوع، لكنني آمل أنني في هذه العجالة قد ألقيت بعض الضوء على أهمية وقدرة علم الرياضيات، وربما حفزت القارئ ليبحث أكثر.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

نبيل الطرابيشي
حاصل على دكتوراة في الهندسة الميكانيكية
حاصل على دكتوراه في الهندسة الميكانيكية، أستاذ جامعي ومهندس بحث في صناعة السيارات ولديه عدد من براءات الاختراع، عضو مؤسس لجمعية المهندسين السوريين الأمريكيين.
تحميل المزيد