في الصور التي يتم تداولها على المنصات للفتيات العائدات لذويهن بعدما اختفين لأيام. وفي كل صورة تعرض لفتاة بعد لمّ شملها مع أهلها، تبدو الفتاة بلا مشاعر، فقط الصدمة بادية على وجهها، لا فرحة ولا ابتسامات.
تبدأ القصة عادة بفتاة أو طفلة تتعرض للضرب والتعنيف من قِبَل الأهل، فتهرب من المنزل، تنتفض الشرطة وأجهزة الأمن، يتم العثور على فتاة في منزل إحدى صديقاتها وتتم إعادتها إلى أحضان الأسرة الملهوفة.
حقيقة، لم أختبر من قبل ما الذي قد يدفع فتاة في مقتبل الحياة إلى المغامرة بكل شيء والهروب من المنزل -هروب غير محكم التخطيط-. لا أدري ما الذي قد يسلب ينابيع الأمل وحب الحياة من فتاة تتحسس خطاها نحو العالم.
طفلة تبلغ 13 عاماً تتعرض للتعنيف والضرب بشكل مستمر لأي سبب، مرة بسبب رفضها أخذ أخيها معها وقت شراء الطلبات المنزلية، ومرة لرفضها الذهاب إلی التمرين، ومرة لأنها كسرت كأساً، تختلف الأسباب والنتائج واحدة، تترك الفتاة المنزل وتهرب. في بعض القصص يكون هناك فتى يدعي الحب والعشق، لكن ما إن تهرب الفتاة من الأهل، يهرب الفتى من الفتاة وتترك فريسة يسهل اصطيادها.
ماذا لو كنت امرأة مصرية؟
أتخيل لو أنني وُلدت امرأة في مجتمع مثل المجتمع المصري الذي أعيش، وأن يكون من قدري أن يتحكم فيّ كل من يمر علی حياتي، ليس توجيهاً أو نصحاً، بل قهراً وإخضاعاً. أن يتحكم أقاربي في شكلي وجسدي وأن يتحرش بي كل غريب جمعتنا حافلة النقل المكتظة، وأن يوبخني أبناء العمومة لأي سبب يروق لهم. وأن يقرر أهلي ما الذي سأكونه في بقية حياتي، وأن تقام محاكم التفتيش لعقلي وهاتفي المحمول.
صراحة، لو كنت امرأة في هذا المجتمع، وأنا على شخصيتي الحالية، فمن حكم المؤكد أنني سأوصم بالفجور والعهر، ولكنني أوصف -ولله الحمد- بالجرأة والجسارة.
نحن أمام واقع مؤلم يحتاج لتغيير فوري، واقع يمكن رؤيته إذا قررنا النظر بعين الحقيقة، لا بعين التزييف أو القيم الزائفة الرائجة التي تغذيها السلطة المستبدة باسم حماية الأسرة المصرية. تلك القيم ليست عقلانية أو نابعة من شعور إنساني عميق بضرورة حماية المرأة والحفاظ عليها، ولكنها قيم تتعامل مع المرأة بثقل وتراها عبئاً، يجب أن يكون تابعاً لا فاعلاً، مجرد ظل لإنسان حقيقي. وإن تم إظهارها وتصديرها للعامة يكون لما تجلبه من نفع وتحسين للصورة العامة، أي كجزء من الديكور لتحسين الصورة أمام الغرباء والأجانب.
متلازمة ستوكهولم
تتعرض البنات للتحرش والاغتصاب في العالم كله، وتتعرض المرأة لأقسی أنواع الظلم والاستغلال والانتهاك علی مدار حياتها بكل الصور الممكنة. تتعرض للاستغلال المادي والجسدي والجنسي. وتبقى المرأة كائناً ضعيفاً في مهما حققت النساء من نجاحات في سوق العمل. فأمام كل امرأة تنال التقدير الذي تستحقه علی جهودها في أي مجال هناك مئات الآلاف يتعرضن للانتهاك والاغتصاب والسرقة والاختطاف من قِبَل رجال العالم الذين يظهرون لي كرجال عصابات.
تقول الكاتبة "نورا ناجي" في كتابها "الكاتبات والوحدة"
"النساء يعتدن علی الألم والقهر، يعتقدن أن هذا هو الشيء الطبيعي والمعاملة التي يتسحققنها. ربما يكون هذا هو سبب الدهشة الكبيرة التي تصيب الجميع عندما تظهر امرأة، تقول (لا) بصوت عالٍ، ترفض القهر، وتتمرد علی القيود".
يتعرض الأطفال للتعنيف والضرب بشكل مستمر، أذكر أنني حاولت ترك المنزل وأنا عمري 15 عاماً، ولكني لم أجد من ألجأ إليه فعدت مقرراً الدفاع عن نفسي وأن أستقل مادياً بأكبر صورة ممكنة. يمكنني تذكر مرات التعنيف والإرهاب النفسي دون أي مجهود، لأنها صور حاضرة بشكل دائم في عقلي، ولأنني لا أغفر لأي شخص آذاني مهما كانت الأسباب. لقد كنت مجرد طفل عندما أخطأت، لكن لا مبرر للناضجين الذين تفننوا في الأذى والقهر سوى فرض سطوتهم وسلطتهم، دون أن يدروا أن تلك الأفعال تؤدي لأذی بالغ، قد يمضي المرء عمراً كاملاً يحاول تخطيه وقد لا يفلح.
لا أعرف كيف يقرر المجتمع أن التعنيف والضرب شيء واجب، وأنه ليس بمؤذٍ، لكنني أعرف لماذا امتلأت التعليقات علی أخبار عودة الفتيات الهاربات بالسباب والتحقير ووصم الفتاة، دون أي محاولة تذكر للإجابة عن السؤال المُلح: لماذا هربت من الأساس؟ أعرف الإجابة لأنني أعلم أن المرء يخشى أن تتهدم أصنامه أمام عيونه، يخاف أن تنهدم الأسطورة التي يظنها حق. ولأن التعاطف مع الجاني أصبح له تعريف واضح ومصطلح يوضحه، إنها "متلازمة ستوكهولم" التي تجعل الناس يتعاطفون مع الجاني ويجدون سبباً منطقياً ومبرراً لإيذائهم، بل ويتعاطفون معه، وفي ذلك الطريق يجدون ألف سبب كي يلقوا باللوم علی الضحية، لأنها أضعف من أن تؤذيهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.