لقد استطاعت المؤلفة سمر دهمش. هذا اسمها قبل الزواج، أو سمر جراح وهذا اسمها بعد الزواج، أن تنتج كتاباً فريداً عنونته بـ"بين الشرق والغرب: عالم آخر، مشاهدات امرأة عربية أمريكية"، وبعد قراءة الكتاب سيتضح لك كيف أن العنوان صادق وكثيف التعبير عن المحتوى وقد ظهرت طبعة الكتاب الأولى عام ٢٠١٢.
يتم التعريف بالكاتبة على أنها عربية أمريكية، وُلدت في الكويت وعاشت في الكويت ولبنان والسعودية، ثم في مصر حيث درست العلوم السياسية في جامعتها الأمريكية، انتقلت بعدها إلى الأردن لتعمل في التلفزيون الأردني. في نهاية عام ١٩٨٩ ثم انتقلت إلى أمريكا، أشارت الكاتبة عدة مرات إلى جذورها الفلسطينية، لكنها ربما تعمدت ألا تكتب أين من فلسطين، ولكنها ذكرت أن زوجها ولد في عكا.
يستحق الكتاب الكثير من الوقفات فهو من الكتب التي تحيرك سطورها فلا تعرف ما تأخذ وما تدع ولا يغنيك سطر عن آخر، ولا مشهد عن آخر، أسلوب الكاتبة يبدو سهلاً لكنه شديد التكثيف، بداية أشعر بضرورة تأمل تصميم الغلاف، فهو يركب صورة بدت فيها وعلى نفس المستوى أهرامات الجيزة ومسجد محمد علي الكائن في قلعة صلاح الدين بالقاهرة وتمثال الحرية في أمريكا وعلى مستوى آخر من الغلاف تبدو مشاهد مما تبقى من قصر الحمراء وبيازين غرناطة كما يغلب على ظني، أما المقدمة فصورة لمسجد الصخرة. الصورة كثيفة التعبير وتستحق وقفات وتأملات.
في الساعات الأخيرة من عام ١٩٨٩، اصطحبت المؤلفة زوجها إلى حفلة، حيث قدم زوجته للمرة الأولى لمجتمعه، قال لها موصياً إن المجتمع الأمريكي لا يحب الحديث في السياسة ولا في الدين، وأصبحت عبارته هذه النكتة المفضلة لتبدأ بها أياً من محاضراتها، لأنه ومن يومها لم تعد تتحدث إلا في هذين الموضوعين.
اصطحبتها صديقة لها إلى المركز الثقافي لتقابل مديره حيث سيتم الاتفاق على تقديمها دروساً في اللغة العربية، فاجأها المدير إذ لم يبتدر إلى أسئلة تبين له جدارتها بتدريس اللغة العربية، لكنه قال إنه لن يسمح لها بتدريس العربية ما لم تقم بتدريس صفّ عن الشرق الأوسط، وأضاف أن وجود مواطنة عربية يعتبر فرصة ذهبية للسكان الأمريكيين لسماع وجهة النظر العربية.
تقول: ساعتها لم أقدر كيف سيحدد ذاك الكلام مستقبل وجودي في أمريكا، الحصول على منبر يمكنني من خلاله التعبير عن العرب والمسلمين دونما حاجة إلى البحث عن واسطة، فمن كثرة عدد المسجلين احتجنا إلى استلاف مقاعد من الفصل المجاور، وخلال ستة أسابيع تيقنت بأنني لو قلت إن شمس بلادي العربية تشرق من الغرب لصدقني معظم التلاميذ، فمعلوماتهم عنا ضحلة جداً، سألني أحد طلابي يوماً: كيف تقولين إن الإسلام دين توحيدي رغم أن المسلمين يعبدون القمر؟ كان في منتهى الجدية، فسألته إن كان يقصد قمر الليل؟ أجاب بالإيجاب وأوضح أننا نعتمد الشهور القمرية وأن مآذننا عليها هلال دائماً! أدركت كم أن الهُوة التي تفصلنا سحيقة، تمكنت من إقناعه بسهولة بخطأ ذلك وساعدته في الحصول على نسخة من القرآن الكريم، وتعقب هذا مثال على حب الأمريكان المعرفة وكيف أنهم يراجعون أنفسهم بسهولة. وكم نقصر نحن العرب في استثمار ذلك.
بعد وقت قصير، بدأت تدرك أن الأسئلة تتغير حسب الأحداث السياسية، حين دخل صدام الكويت اختلط الحابل بالنابل، فقد استغرب الأمريكان -الذين فهموا أنهم يخوضون حرباً عادلة لإنقاذ الكويت- التظاهرات المؤيدة لصدام والتي ترفع راية الله أكبر كتعبير عن الإسلام، هكذا تكاثر الأمريكيون الباحثون عن الحقيقة حتى إنها أصبحت تدرس لثلاثة فصول! عادة ترسل إسرائيل متحدثين إلى بلدتها الأمريكية الصغيرة ليشرحوا لأهلها لماذا يجب على الأمريكيين أن يصوتوا لغزو العراق، وما هو تأثير ذلك على مستقبل إسرائيل، وتتساءل المؤلفة لماذا لا تفعل دولنا نفس الشيء؟ تقول بدأ الأمريكيون يسألونني عن كل شيء، بدوا لي كأنهم عطشى مسجونون في جزيرة نائية، وانتهى الأمر بأن أصبحت تدرس فصلاً عن العادات والتقاليد العربية، وثانياً عن الإسلام، وثالثاً عن الطبخ العربي، وكم صفقوا حين شاهدوا الفلسطينية وداد -صاحبة المطعم الصغير في طرف المدينة- تقلب قدر المقلوبة ليجدوا كعكة جميلة من الباذنجان واللحم والأرز!
اكتشف اليابانيون قبلنا أن المعدة ممر إلى قلب الرجل الأمريكي، وروّجوا لطعامهم المميز جداً بالسمك النيئ حتى أنسوا الأمريكان اعتداء بيرل هاربر. أما نحن فمن المحزن أن الأمريكان يبحثون عن أطباق الحمص والبابا غنوج الذي تصدره لهم شركة إسرائيلية من الشركات التي ترعى المستعمرات، كم نحن متكاسلون! مع الوقت تغير الأمريكان بدلاً عن السؤال عن عبادتنا للقمر أصبحوا يستغربون تأييد المسلمين لصدام، ثم انشغلوا بحرمان المرأة من قيادة السيارات، فسّر الإعلام لهم ذلك بأن الإسلام يضطهد المرأة.
إن أي خطوة تتبعها أي دولة لغزو دولة أخرى هي جعل شعبها يكره الشعب الذي يريدون محاربته. تقرر المؤلفة هنا أننا لو استبقنا الأحداث وعرضنا ديننا كما نريد، لما انساق الشعب الأمريكي وراء الأكاذيب.
بانتهاء حرب الخليج الأولى ضجت أمريكا بالحديث عن اضطهاد المرأة المسلمة وجرائم الشرف وختان البنات، لأننا غائبون.
عاد أفراد الجيش الأمريكي في احتفالية عظمي شملت كل الأمريكان فقد أنقذوا الكويت الدولة الصغيرة التي لا زالوا لا يعرفون موقعها على الخريطة! بالطبع لم يهتم إلا القليلون بآلاف العراقيين الذين ماتوا بعد ذلك بالحصار الأمريكي، فالإعلام الآن مهتم بمؤتمر سلام مدريد وسقوط الاتحاد السوفييتي، والمسلمون لاهون.
أما كيف أصبح الدين الإسلامي الخطر الأكبر على أمريكا ودونه خطر الصين بعد سقوط الاتحاد السوفييتي؟ البحث عن عدو هو استراتيجية مهمة لجمع الناس على رؤسائهم، وسرعان ما جاء صمويل هنتنغتون بنظريته عن صدام الحضارات، حيث الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية هي العدو، وراحت وسائل الإعلام تتحدث عن نظريات برنارد لويس العنصرية عن الإسلام، فالإسلام ذو طبيعة مختلفة عن الأديان السماوية، دين رجعي معاد للعلم والعلمانية، للأسف الشديد لاقت كتب لويس عن الإسلام رواجاً كبيراً، فالإسلام والثقافة العربية هما سر التخلف في العالم الإسلامي وليس الاستعمار ولا الحرب الباردة ولا أمريكا المتحالفة مع أنظمة غير ديمقراطية. نرى هنا كيف حل التزوير مكان الحق.
تتحدث الكاتبة عن هانز مورغنثاو، إنه الذي صاغ العقل المدبر للسياسة الخارجية في أمريكا كما درسته خلال إعدادها للماجستير في العلاقات الدولية، نظريته عن السياسة الواقعية مبنية على أن طبيعة السياسة مثل طبيعة الإنسان، فالإنسان بطبيعته ميال للشر يحب امتلاك القوة للسيطرة على الآخرين، وعليه فإن الدول تتصرف بدافع المصلحة القومية، فأمن البلد مصلحة قومية، وكذلك فإن توفير مصادر الطاقة يعتبر مصلحة قومية لدول عديدة، ولتحقيق المصلحة القومية فإن الدولة بحاجة للقوة، ومظاهر القوة متعدد فهي في الاقتصاد وفي التقدم العلمي، وكذلك في القوة العسكرية، والدولة المحنكة هي التي تستطيع تحقيق مصلحتها القومية بأقل الخسائر الممكنة. ومما يؤكد عليه مورغنثاو في نظريته أن تحقيق المصلحة القومية لا علاقة له بالأخلاقيات ولا بالقوانين.
(يتبع).
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.