وتحوّل الحلم لحقيقة..
ولم نعد نستطيع أن نُغطي وجوهنا أكثر، أو أن نتظاهر بأنّنا لا نهتم، بأنّ بقعة الخيال المفضلة لدينا في الدنيا، ورحلة الحلم الجميل، التي أخذتنا أبعد من أي مكانٍ وصلنا إليه قبلاً، صارّ لها أخيراً وبعد 27 عاماً، حيّزاً مُجسّداً، له صورة وصوت على الأرض، واصلٌ صداها العذب، ليس لنا نحن فقط، وإنما للعالم أجمع..
من نحن؟
نحن أبناء وتلامذة وأحباء د. أحمد خالد توفيق، رحمه الله، كاتب الرعب الأشهر في الوطن العربي، وصاحب سلسلة الروايات الشبابية، ما وراء الطبيعة.
بماذا حلمنا؟
حلمنا كما حلم د. أحمد خالد بأن ترى هذه السلسلة النور من خلال الشاشة، وذلك إيماناً منه بأنّ الصورة بألف كلمة.
وممّا خفنا؟
خفنا من أن يموت الحلم الأقرب للكمال، على يد الواقع القبيح، كما يحدث دائماً. خفنا من أن نرى بأعيننا، الشيء الذي نُحبّه وقد تشوّه أو اغتيل، بيد الجهل أو الغباء، أو الطمع.
ثم ماذا؟
ثم استجمعنا شجاعتنا، وقرّرنا أن نواجه الواقع..
سنشاهده..
سنشاهده موقنين أنّه مهما كان، فليكن ما يكون، لأنّه عاجز عن أن يمس نسخته الأصلية المغروسة غرساً، في قلوبنا.
سأشاهد إذاً.. ما وراء الطبيعة..
أقولها.. ويرتجف قلبي..
قبل أن نرى ما وراء الطبيعة.. أمنيات ومخاوف
وتحوّل الحلم لحقيقة، حينما بدأ منذ أيام، وتحديداً في يوم 5 نوفمبر/تشرين الثاني، عرض المسلسل القصير، ما وراء الطبيعة أو Paranormal، كإنتاجٍ أصليّ مصريّ أول، لشبكة نتفلكس.
الأمر يصعب وصفه حقاً، فمن لم يقرأ سلسلة ما وراء الطبيعة، لن يفهم ما هي مشاعر أولئك الذين تشاركوا في حب الأمر ذاته، لسنواتٍ طويلة. أن تتعلق بـ 80 كُتيباً صغيراً، أتت كلها من قلب الواقع الكئيب بكل تفاصيله التي ندركها نحن الآن، بينما صار بعضنا على مشارف الأربعين، بأكثر ما كنا ندركها قديماً حتى.
وفي نفس الوقت، يتلامس الواقع مع ذلك العالم السحري المجهول، الذي يختفي وراء عالمنا الماديّ، عالم ما وراء الطبيعة،
إنّه الـ Mix الذي لم يصنعه أحد كما صنعه د. أحمد خالد توفيق، بين الواقع والخيال..
ثم لا تنس أنّه هناك "رفعت إسماعيل".. ذلك الشخص التي تقوم سلسلة الكتب على أكتافه، ولولاه لما صار لها هذه الأهمية والعُمق، ولكانت كأي سلسلة رعب خفيفة للشباب، بلا أي دراما حقيقية. ذلك الشخص الذي أصبح أسطورة في حد ذاته، بلا زيفٍ أو ادّعاءٍ للكمال، شخص يحمل من العيوب، بأكثر مما يحمل الشخص العادي، صار أسطورة ببساطة، لأنه كان حقيقياً.
حينما تم الإعلان لأول مرة عن صنع مسلسل مُقتبس من سلسلة ما وراء الطبيعة، من إنتاج نتفلكس، وإخراج المخرج الشاب عمرو سلامة، الذي كان واحداً من قرّاء ومحبّي د. أحمد خالد توفيق، انتابتني العديد من المخاوف.. كان أعظمها هو اختيار الممثل المناسب لشخصية فريدة من نوعها، مثل شخصية رفعت إسماعيل.
هل سينجح عمرو سلامة، في استحضار روح رفعت إسماعيل على الشاشة، كما تخيّله الملايين؟
بدا هذا الأمر صعباً جداً، خاصة حينما تم ذكر اسم أحمد أمين، وهو المعروف بكونه كوميديان من الدرجة الأولى، للقيام بهذا الدور الحسّاس، والذي أعرف أنّه إن لم يُوفق في تملّك الشخصية، سيسقط العمل تماماً، على رأس شخصٍ واحد فقط، عمرو سلامة.
الآن نرى.. ما وراء الطبيعة
الآن أرى بقلبٍ مرتجف الحلقة الأولى من ما وراء الطبيعة، الآن أنا لست مشاهدة عادية، أنا كالعاشقة، التى ترى رسماً شديد الدقة وغزيراً بالتفاصيل لمحبوبها، فتتأمل فيه، عاجزة في البداية عن التقاط أية عيوب ظاهرة، في الواقع.. أنا لا أريد أن أرى العيوب أصلاً، لا الظاهر منها ولا ما هو مخفي عن العيون، أريد أن أتأمل ذلك العالم عن قربٍ فقط..
أرى رفعت.. فيدق قلبي.. صورته قريبة جداً للخيال الذي صنعه أحمد خالد توفيق بريشة الراحل إسماعيل دياب، السجائر التي ما أن تنتهي واحدة منها، حتى تلحقها الأخرى، هذه اللامبالاة البادية، هذا الصوت اليائس بغير حزنٍ، وهذه الأفكار المريرة بسخرية، ثم هذا التحوّل الكلي، حينما يرى ماجي..حبّه الأبدي، والذي يجعله مشدوهاً، فيبدو كالمراهق الكتوم، والعاجز عن إبعاد عينيه عن النظر إلى حبيبته,,
هذا هو رفعت إسماعيل حقاً..
تجري الأحداث.. حلقة تلو حلقة..
أعرف بعضها جُملة وتفصيلاً عن ظهر قلب، بينما وجدت الكثير منها، وقد تغيّر تغييراً كبيراً.
لماذا التغيير يا عمرو سلامة؟
لماذا تُصر على تجديد تمثال أثري ثمين بطريقة خاطئة، فتمحو أكثر ما يُميزه؟ الأصالة.
أعلم أنّ التغيير جاء من رغبة عمرو سلامة بأن يضع رابطاً واحداً مباشراً بين القصص الست وبعضها، كي يبدو العمل متكاملاً، جميعنا نفهم ذلك.. ولكن ما حدث هو أنّ فريق الكتابة لم يجعل الأمر مُمنطقاً كما ينبغي، فبدا ساذجاً في مناطق، وبدا غير معقول في أماكن أخرى، حتى أنّ رفعت إسماعيل ذاته، تغيّر هو الآخر بمرور الحلقات، فشرد بعيداً عن رفعت الذي أعرفه.
في الواقع أنا لا أرى أية مشكلة في تغيير بعض الأشياء، حينما يتم تحويل العمل الأدبي إلى عملٍ فنّي، طالما أنّ ذلك التغيير سيكون للأفضل، ولن يسرق شيئاً من روح العمل الأصلي.
لم يكن التغيير الذي أحدثه عمرو سلامة للأفضل في رأيي، ولكنّي على ثقة بأنّ هذا لن يُضيّع ذاك أبداً، ليس ثقةً في عمرو سلامة..
ولكن إيماناً بأنّ إرث أحمد خالد توفيق الثمين، الذي تركه لنا، لا يُنسى، ولا يُستبدل، ولا يُمكن تشويهه أيضاً.
ما بعد.. ما وراء الطبيعة .. مكاسب وخسارات
راحت السكرة.. وجاءت الفكرة..
ها أنا الآن أستجمع قواي، لأنظر نظرة متفحصة على المسلسل، محاولة أن أتخلى قليلاً عن نظرة المحبّة التي لا ترى إلا الكمال في شخص محبوبها، وفي نفس الوقت سأحاول تجاوز ما شعرت به من خذلانٍ حينما سُلب مني الأمل، الذي بدا عظيماً في الحلقة الأولى.
كسبنا كثيراً وخسرنا كثيراً، نحن قُرّاء السلسلة ومن شاهدنا المسلسل..
كسبنا وخسرنا بنفس العدد والقيمة.
المكسب الأول:
اسم ما وراء الطبيعة يتردد الآن على ملايين الألسنة، فعلها عمرو سلامة، مُدركاً أنّ جودة العمل أو سوءه، لن تؤثر سلباً أبداً على شهرة وعدد مشاهدات المسلسل. اجتهد عمرو سلامة، وسواء نجح أو فشل، فسيُنسب له الفضل دائماً في أنّه فتح ذلك الباب الذي أكله الصدأ، بفعل الزمن، وكثرة المحاولات الفاشلة، لينظر الناس إلى ما يختبئ وراءه من كنوز، تحمل اسم أحمد خالد توفيق.
المكسب الثاني:
أحمد أمين، فعلها أحمد أمين أيضاً، وحلّت روح رفعت إسماعيل فيه، خاصة في البداية، وهذا الشيء هو حجر الأساس الذكي، والمتين، الذي ارتكز المسلسل عليه بالكامل.
المكسب الثالث:
سمعنا أفكار رفعت وحواراته الداخلية الممتعة، هذا كلام رفعت فعلاً، يقوله ممتعضاً، ساخراً، واثقاً..
وسمعناه باللغة العربية الفصحى كما قرأناه قديماً، فجدّد لنا الذكرى..وأشعرنا بالحنين الجارف لتلك الأيام..
كانت هناك مكاسب عامة أخرى، فمثلاً الموسيقى كانت بديعة ومؤثرة منذ اللحظة الأولى، وتعلق في الذهن سريعاً..
الديكور والإضاءة كانا ملائمين في أغلب الأوقات..
أما عن الخسارات:
فالخسارة الأولى:
لن يتم صنع ما هو أفضل مما ظهر على شاشة نتفلكس للأسف، فأنا لا أعتقد أنه سوف يقوم أحدهم بنسخة أخرى من ما وراء الطبيعة، آتياً برفعت إسماعيل آخر، وذلك لأنّ الفرصة الوحيدة، استغلها عمرو سلامة بالفعل، ولم يعد بإمكان أي أحدٍ أن يفعل ذلك من جديد، متداركاً كل الأخطاء التي حدثت.
الخسارة الثانية:
خسرنا شخصيات هامة، لم تظهر بالشكل الذي يليق بها، أو لم تظهر من الأساس، أبرزها ماجي مثلاً، الرقيقة التي تمشي على العشب فلا تثني له عوداً، صحيح أنّها اقتربت من الوصف الأصلي للشخصية في الروايات، إلا أنّها، وبخلاف كارثية باروكة الشعر، كانت بالفعل مجرد صورة جميلة -البعض يراها ركيكة – جوار رفعت، بدون تأثيرٍ يُذكر.
ثمّ أين عزت؟ الجار غريب الأطوار، الذي ظنّه رفعت يأكل لحوم البشر في البداية، والذي كان له مع رفعت مواقف طريفة لا تُنسى، ويشهد الشاي بالصراصير على ذلك.
وأيضاً كاميليا أستاذة الفلسفة، كان بإمكانها تصدير صورة رائعة للفيمنست بشكلها الحالي.
الخسارة الثالثة: خسرنا المنطق
خسرنا المنطق الذي كان يربط كل الأشياء ببعضها لتصبح مفهومة أكثر، صرنا فقط نحن- قرّاء السلسلة- من نفهم الطريقة الصحيحة لسير الأحداث.وذلك نتيجة للتغيير الحادث بين الروايات والمسلسل، الذي لا أعرف إلى الآن لم حدث، والذي بدأ طفيفًا مع الحلقة الأولى، وبدأ يبتعد شيئاً فشيئاً، عمّا نعرفه، حتى وصل في النهاية لشيءٍ مختلف تماماً،
ولا أفهم ما الذي يستدعي ذلك التغيير الكبير جداً، سوى لأنّ عمرو سلامة أراد أن يضع بصمته الخاصة، على مسلسل بهذا الحجم والقوة. ولكنه خسر في المقابل أشياء لا تعوّض، حينما لم يُحكم رؤيته الخاصة، ويضبط منطق، وصحة تسلسل الأحداث كما يجب.
طبعاً لن أتحدث عن الخسارات فيما يخص موضوع الجرافيكس الساذج، وخاصة في حلقتي العسّاس والجاثوم، والذي أشعرني بأنّى أُشاهد مُسلسلاً قديماً للأطفال.
المكياج أيضاً.. فيما يخص الشعر من ناحية، والأقنعة الساذجة ومكياج الوحوش التي لا تخدع طفلاً، لم تكن أبداً على المستوى المتوقع من إنتاجٍ أصلي لشبكة نتفلكس.
في النهاية.. هي تجربة مختلفة، ومن الصعب أن يكتب عنها واحد من عاشقي السلسلة مثلي، فنحن نتحدث في النهاية عن أحد أطفالنا، الذي لا نقبل له الإهانة، ولا نكست بغير أن نُهينه نحن بأنفسنا، مؤنبين إياه، فيهدأ غيظنا قليلاً.
ما وراء الطبيعة.. من المتوقع أن يُحدث ثورة جديدة في طريقة صنع المسلسلات فيما بعد، وهو بالفعل حقّق حلماً كان خيالاً..
فهوى؟
لا أبداً..كان خيالًا.. وسيظل أمنية في قلوبنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.