الانتخابات الأمريكية التي جرت الأسبوع الماضي، والتي نتج عنها فوز المرشح الديمقراطي جوزيف بايدن، أعادت للواجهة موضوعاً قديماً متجدداً يتعلق بعلاقة الإعلام مع السياسة عموماً والانتخابات والثورات على وجه الخصوص. حيث تُتهم وسائل الإعلام بانحيازها لمرشح أو لحزب في حالة الانتخابات، أو بدعمها لثورة في دولة معينة (أو تغاضيها عن أخبار الثورة في حالات أخرى) في حالة الثورات السياسية، بل وصل الأمر لاتهام وسائل إعلام بأنها كانت إحدى الأدوات الأساسية في إسقاط أنظمة حكم في العقدين الماضيين، أو التأثير على قرار الناخب بسبب سطوة وسائل الإعلام وسيطرتها على عقول الجمهور الذي ترغب غالبيته في الحصول على معلومة جاهزة.
فقد أثارت تقارير صدرت عن قناة "فوكس نيوز" المحسوبة على الحزب الجمهوري عشية فرز الانتخابات، في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني، بفوز الرئيس ترامب في ولاية ميشيغان، الشكوك في مصداقية وسائل الإعلام الأمريكية واحترافيتها في اللحظات الحرجة، مثل توقيت فرز الأصوات. واختياري لكلمتي "مصداقية" و"احترافية" بدلاً من كلمة "حيادية" مقصود، حيث إن المصداقية والاحترافية من الضروريات في العمل الإعلامي، بينما الحيادية شيء نسبي في الإعلام، ومن الصعب تحقيقه لأسباب كثيرة، منها أن غالبية وسائل الإعلام تمثل أجندة الجهات التي تموّلها، والتي هي في غالبيتها حكومات أو جهات حزبية أو رجال أعمال يميلون إلى أيديولوجية معينة أو حزب سياسي. والتأثير السياسي للإعلام على السياسة الخارجية في الغرب وصل إلى درجة أُطلق عليها مصطلح (CNN Effect).
وكما أن التغطية الإعلامية الموجّهة والزائدة عن الحد يمكن أن تُفسر على أنها مخلّة وتشكّك في مصداقية واحترافية الوسيلة الإعلامية، فإن تجاهل وسائل إعلام عربية للانتخابات الأمريكية يمكن أن يفسّر على أنه يعكس وسائل الدول والجهات المموّلة لها، التي لا ترغب في أن يرى مشاهدوها هزيمة المرشح المفضّل لهذه الجهات أو الدول. والأمر كله يصبّ في خانة انعدام المصداقية والاحترافية، اللتين ابتليت بهما كثير من وسائل الإعلام المحسوبة على جهة معينة، كما ابتلي بهما إعلاميون وصلوا إلى مرحلة تصنيفهم كأبواق لحزب معين أو لدولة معينة. ومثل هؤلاء الإعلاميين محظوظون إذا كانوا في دولة ديمقراطية تمارس فيها التعددية، لكن مصيرهم سيكون المنافي إذا كانوا من إعلاميي دول العالم الثالث، التي يحكم فيها الرئيس إلى أن يشاء الله، والأمثلة كثيرة في منطقتنا.
تقول ورقة علمية نُشرت بمركز الجزيرة للدراسات، إن "كل الانتخابات غدت تُحرّكها وسائل الإعلام؛ إذ إن الجزء الأساسي من أية حملة سياسية/انتخابية يحدث في وسائل الإعلام، فقد انتقلت هذه الأخيرة تدريجيّاً من القيام بدور الإبلاغ عن السياسة وما يدور في مجالها إلى لعب دور المشارك النشط في العملية السياسية والانتخابية". وليس هناك مثال على دور الإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي في الترويج للانتخابات أفضل من مثال الرئيس ترامب واستخدامه لمنصة "تويتر" بكثافة للترويج لنفسه في انتخابات 2016، وفي الانتخابات الحالية.
كما أن منصات أخرى للتواصل الاجتماعي تم استخدامها بقوة لدعمه في الانتخابات السابقة قبل 4 سنوات، ما دعاه للتفاخر بأنه قام بتوفير ملياري دولار كان من المقرر أن يتم صرفها في الحملة الإعلامية عن طريق استخدامه لـ"تويتر"، ومنصات التواصل الاجتماعي الأخرى. وأحد أسباب إسراف ترامب في استخدام "تويتر" وتجاهله لوسائل الإعلام التقليدية نظرته العدائية للإعلام ومؤسساته التقليدية، ومجتمع الصحافة في العاصمة واشنطن، الذي لا يُعتبر ترامب جزءاً منه باعتبار أنه قادم من خارج المؤسسة السياسية التقليدية التي توجد فيها روابط بين مجتمع السياسيين وبين الإعلاميين، والتي يعرف أربابها أهمية السلطة الرابعة في القرار السياسي.
جهل ترامب بقواعد اللعبة السياسية جعله يشبه حكام بعض دول العالم الثالث، الذين يرفضون نتيجة الانتخابات إن أتت بغير ما يريدون، وهو رفض أدّى في حالات إلى نشوب حروب أهلية محدودة، مثلما حدث قبل سنوات في دول مثل كينيا وساحل العاج، وإلى تدخل سياسي خارجي لحثّ الرئيس على التنحي مثلما حدث في غامبيا. وبالرغم من استبعاد حدوث مثل هذه الأمور في ديمقراطية مستقرة وعتيدة مثل الديمقراطية الأمريكية، التي استحدثت نظام المجمع الانتخابي (Electoral College)، لتمثل المواطنين في كافة ولايات البلاد، فإن الاستقطاب الأيديولوجي الذي أنتجه حكم ترامب خلال السنوات الأربع الماضية ضد القادمين من دول أمريكا اللاتينية والملوّنين والمهاجرين والمسلمين… إلخ لا يبشّر بخير، وحادثة محاولة اختطاف حاكمة ولاية أوهايو التي تنتمي للحزب الديمقراطي توضّح خطورة هذا الاستقطاب الأيديولوجي في الممارسة السياسية.
يقول الأكاديمي المكسيكي والمحاضر المهتم بالانتخابات د. فيكتور هيرنانديز، في مقال له "جرت العادة أن المُرشَّحين الخاسرين في جميع أنحاء العالم يرفضون القبول بنتائج الانتخابات. فمن أصل 178 انتخاباً حول العالم في الديمقراطيات الرئاسية بين عامي 1974 و2012، كانت هناك 38 عملية انتخاب مُتنازَع عليها من قِبَلِ مُرشَّحين أو أحزاب، أي ما يعادل 21% من إجمالي الانتخابات في الفترة المذكورة. وتسبَّبَت الانتخابات المُتنازَع عليها في اندلاع اضطراباتٍ عنيفة وأزماتٍ دستورية، وتطوّرت النزاعات أحياناً لدرجة الحروب الأهلية".
وفي الولايات المتحدة، هناك سابقة رفض المرشح آل غور لنتيجة الانتخابات في العام 2000، لكنه اعترف بهزيمته لاحقاً بعد إعادة فرز النتائج، وهو أمر يُستبعد أن يقرّ به شخص مثل ترامب يتمتع بعناد وجهل بأساليب الممارسة السياسية التقليدية.
حول دور الإعلام في العملية الانتخابية يقول الصحفي يحيى شقير، إنّ دور الإعلام في مرحلة الاستفتاء التي تسبق الاقتراع يتمثل في "ترويج التعددية وتعريف الناخبين على أفكار المعارضة تجاه الوضع القائم (Status quo)"، وعدم التمييز في التغطية على خلفية الآراء السياسية للأحزاب أو المرشحين، وتعريف الناخبين بحقوقهم ومواعيد التسجيل والطعن، وتزويدهم بمعلومات عن مسودة الدستور، بما يعطيهم أفضل فرص الاختيار، ومراقبة استقلالية الهيئة المشرفة على الاستفتاء، والتحذير من استطلاعات الرأي العام غير معروفة المصدر أو غير ذات المصداقية.
وكشف الجرائم الانتخابية مثل استخدام الرشوة لتغيير قناعات الناخب، والتأكد من حياد اللجنة القائمة على الانتخابات، وعدم التلاعب بالنتائج. مثل التصويت أكثر من مرة، ومدى تطابق شروط المشاركين في الاستفتاء مع متطلبات القانون، والموانع الانتخابية (قانون العقوبات، الأهلية، الجنسية، الجيش والشرطة). ومراقبة معايير السلوك للأحزاب والكيانات والقوى السياسية وأنصارهم.
خلاصة القول، إن دور الإعلام التقليدي والجديد في العملية السياسية يتعاظم مع التوسّع الكبير في القنوات والصحف والمواقع الإخبارية ومنصّات التواصل الاجتماعي، ومن الأهمية بمكان وضع قواعد تحكم عمل وسائل الإعلام ومنصّات التواصل الاجتماعي، والمزاعم حول التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية وانتخابات دول أوروبية، واستخدام منصّات مثل تويتر وفيسبوك كأدوات سياسية في انتخابات دول أخرى بواسطة الولايات المتحدة يوضّح أهمية هذه المنصّات في الحشد السياسي، والأمثلة كثيرة من طلب الحكومة الأمريكية من موقع تويتر تأجيل توقفه لأغراض التحديث والصيانة أثناء الانتخابات الإيرانية، وتنبيه الموقع إلى أن تغريده ترامب التي أشار إلى فيها إلى فوزه أمس هي "معلومة مضللة"، واستخدام فيسبوك بغزارة في ثورات الربيع العربي، إلى دور مواقع وقنوات إخبارية في حشد ثورات وإخماد ثورات أخرى.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.