كيف تفشل الدول العربية في إدارة أزمة كورونا وأخواتها؟

عدد القراءات
963
تم النشر: 2020/11/07 الساعة 09:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/11/07 الساعة 09:48 بتوقيت غرينتش
رويترز

لا شك أن الأزمات ذات الطابع الكلي والشمولي تمثل اختباراً حقيقياً لمدى كفاءة الدول في إدارتها والتحكم في تداعياتها. ومن المؤكد أن فيروس كورونا دفع الدول إلى الانكفاء على نفسها، وأعاد الاعتبار لمفهوم "الدولة القومية"، من خلال ابتعاث الأدوار المحورية للدولة من جديد في رسم السياسات وممارسة الإكراه المشروع للحدِّ من الحريات العامة في التنقل والنشاط الاقتصادي. كما أبرز دورها المؤسساتي كضابط للنظام العام ومتدخل مركزي في إدارة الأزمة بكافة تعقيداتها، سواء على المستوى الصحي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو التعليمي… إلخ. وقد برز ذلك جلياً من خلال إجراءات الطوارئ المتخذة، وحجم وعدد التدخلات والتصريحات الرسمية للمسؤولين إبان الأزمة، والتحركات الميدانية للجهاز الحكومي.

ما بين التعتيم والشفافية 

جائحة كورونا، باعتبارها تهديداً صحياً اجتاح كل دول العالم، وضع صناع القرار والمؤسسات البحثية وعلب التفكير أمام مظهر جديد من توسع "مفهوم التهديد"، الذي سيفضي حتماً إلى إعادة ضبط "مفهوم الأمن" بأبعاده المختلفة والفواعل المتحكمة فيه. فلم يعد الأمن منحصراً في مظهره التقليدي القائم على مواجهة الغزو الخارجي، بل توسع عبر عقود مع اتساع مفهوم التهديد إلى ما يُعرف بالأمن الإنساني، والذي في إطاره يمكن تصنيف جائحة كورونا باعتبارها تهديداً للأمن الصحي العالمي، تداعت أمامه مختلف أبعاد الأمن الإنساني. وقد أظهر هذا التهديد النوعي من حيث: طبيعته وسرعته وآلية انتشاره وقدرته التأثيرية؛ حاجة المقاربات الأمنية إلى مزيد من الجهود التنظيرية والبحثية، لتوصيف وتحليل المهدّدات الأمنية المستجدة، ليصبح الأمن الصحي الدولي ذا أولوية متقدمة في المفهوم الواسع لمصطلح الأمننة، خاصة مع ما نشهده من انفتاح كوني بفعل عولمة العلاقات والاتصالات.

وبما أن فيروس كورونا شكَّل تهديداً مفاجئاً وجديداً في عالم الفيروسات، فإن المراقب يلاحظ تباين الدول في مقارباتها التسييرية للأزمة. اعتمدت الدول الشمولية الأوتوقراطية منطق التعتيم والتحكم في الإحصاءات ولغة التهديد والمواربة، فركزت على أسلوب الردع والوعيد تجاه كل من ينتقد السياسة الصحية أو يكتب أو ينشر صوراً أو فيديوهات تكشف مغالطات خطاب المسؤولين وفشلهم في إدارة الأزمة، ليكون مصيره السجن أو التضييق والمحاكمة، كما حدث مع الطبيب الصيني "لى وين ليانج"، الذي اكتشف فيروس كورونا لأول مرة ودفع حياته بسببه، ليتم بعدها التكتم على عدد الإصابات والوفيات حتى عمَّ الوباء وتفوق التهديد الفيروسي على القدرة السلطوية للنظام. ومثل ذلك حدث في عدة دول عربية، ذات النظم الشمولية والتسلطية، التي ركَّزت أكثر على سياسة التهديد والتلويح بالعقاب بدل الإدارة الكفؤة للأزمة. أما الدول ذات الحكم الراشد التي تحتكم للمنطق العلمي فقد راهنت على دور المؤسسات الرسمية وغير الرسمية والوعي المجتمعي في إدارة أزمة كورونا، واتَّكأت على رأي أهل الاختصاص والمعرفة من الأطباء والباحثين والمستشارين ودور المختبرات العلمية. وهو ما تجلَّى في حالة الطبيب الفرنسي "ديديه راؤول"، الذي خالف التوجه الرسمي في استخدام بروتوكول كلوروكين لعلاج مرضى كورونا، ليتم إقراره في مرحلة لاحقة على مستوى دولي، وكما كنا نشاهد أغلب رؤساء هذه الدول يحيطون أنفسهم بالعلماء والخبراء في ندواتهم الصحفية، ويَنزِلون عند رأيهم ويحفزونهم على البحث والاستكشاف، ويخصصون الميزانية الضخمة للمشاريع والمختبرات العلمية المتخصصة في البحث عن اللقاح. فهذه الدول امتازت إدارتها -نسبياً- بشفافية أكثر رغم كثرة حالات الإصابة لديها.

وفي سياق آخر، مثّل دور المجتمع المدني في هذه الدول حلقة هامة في سياساتها الوقائية لمجابهة وباء كورونا، شاهدنا تكاملاً واندماجاً عضوياً ووظيفياً في الأدوار والإمكانات بين المؤسسات الرسمية للدولة وتنظيمات المجتمع المدني أين وضع كل طرف نفسه في خدمة المجتمع، من خلال المبادرات التطوعية الكثيرة التي قامت بها هيئات وجمعيات مستقلة، والمساهمة في صناعة الكمامات والمعقمات والقيام بحملات التوعية والإرشاد وتنظيم الطوابير وقوافل التبرعات للولايات المنكوبة. وكلها مؤشرات تدل على أهمية المجتمع المدني الفاعل كرافد للمشاريع التنموية للدولة، خاصة في زمن الأزمات؛ فالنظم الراشدة تسعى لتأسيس البيئة الملائمة لإنشاء وتدعيم المجتمع المدني والحفاظ على استقلاليته وذمته المالية، في ظل مناخ تنافسي عام، حتى يسهم بمؤسساته وتنظيماته في التنمية الاجتماعية، ويضطلع بالأدوار الحضارية في ترقية حسّ المواطنة وفاعلية الفرد، ولعل هذه الأزمة قد أبرزت هذا الدور المتميز، ونبهت إلى أهمية وجود مجتمع مدني نَشِطٍ ومبادر ومعطاء، وداعم لنجاح السياسة العامة وتكوين رأس المال الاجتماعي. 

إعادة اعتبار

كما أن فيروس كورونا قد أعاد الاعتبار أكثر لقيمة العلم وأنظمة الحكم الرشيد المرتكزة على المؤسسات الشرعية، التي تستلهم شرعيتها من الكفاءة المعرفية والقدرة على الإنجاز في تقلد المسؤوليات، وتهتم بتفعيل دور مراكز البحث وغرف التفكير والعقول الاستراتيجية والاستثمار في رأس المال الفكري. كما بعثت هذه الجائحة الوعي بأهمية التعليم وتنمية المورد البشري، ودوره في صناعة السلوك الاجتماعي الحضاري، وتطوير مستوى التفكير والأداء والذكاء الجماعي، وبناء ممارسات مجتمعية سليمة. فقد لاحظنا كيف تسببت الممارسات السلبية للمواطنين في تأزيم الوضع والتقليل من فاعلية الإجراءات الحكومية المتعلقة بالحجر الصحي، نظراً لعدم التزام الأفراد وغياب الانضباط العام. وهو ما يدفع مستقبلاً نحو ضرورة إعادة النظر في السياسات التعليمية وإيلاء الأهمية القصوى للقطاعات الاستراتيجية في الدولة، التي تختص بتكوين رأس مالها البشري والفكري كالتعليم والتكوين المهني ومراكز البحث العلمي والجامعات والمساجد والطب والإعلام والاتصال… إلخ. 

درس قاسٍ للمتسلطين 

إن فيروس كورونا أعطى درساً قاسياً للشعوب والحكومات التسلطية، خاصة في دائرتنا العربية، مفاده أن الاستثمار في العلم والعلم وحده هو الرهان الوحيد الذي يمكن من خلاله الصمود أمام التحديات الوجودية التي قد تعصف بكيان الدولة وبأغلى رأس مالها وهو الإنسان. تهميش العلماء الذي صار مسلكاً رسمياً وسِمَةً شعبية طاغية في دولنا العربية، كانت ضريبته قاسية جداً على الشعوب، تجلت آثارها في هشاشة البنى التحتية، وسوء الخدمات، وغياب أبسط المتطلبات، والإدارة المرتعشة للأزمة، والتيه وغياب السلوك المجتمعي الرشيد والواعي بالمخاطر والمآلات، واكتشفنا أن خيرة أطبائنا وعلمائنا وعباقرتنا الذين أطلوا علينا عبر القنوات الإعلامية يساهمون هناك، بالضفة الغربية للمتوسط، في تطوير اللقاحات ضد الفيروس وتنمية النظام الصحي للدول التي احتضنتهم ومكنتهم وأكرمتهم. 

فتهميش الأنظمة الشمولية والأوتوقراطية في بلادنا العربية للعلماء، وتركيزها على عسكرة النظام، والإفراط في الوظائف الرمزية للدولة على حساب الوظائف البنيوية والتنموية والتعليمية والاستراتيجية، جعلها تقف عاجزة حيال هذه الأزمة الصحية، وتديرها بأسوأ كيفية بين جميع الأمم، رغم تفوق الوباء على إمكانات الدول المتطورة أيضاً. إلا أن مقاربتها في الإدارة والتعامل مع تداعياته لم تكن سواء، فهذه الأزمة جعلت الشعوب تعي تماماً أن الأسلوب الشعبوي الذي تفضله الأنظمة الشمولية والتسلطية لاستدرار عواطف وتأييد الناس لا يمكنه أن يصمد أمام التحديات الواقعية التي لا تُدار إلا بعقل استراتيجي ومنطق علمي وكفاءة تكنوقراطية. لن تغني خطابات الوطنية والحماسة وادعاء امتلاك أفضل منظومة صحية، والتلاعب بالأرقام والإحصاءات، وتوزيع الوعود والأماني، في إنقاذ أرواح الناس أو ستر عورة الرداءة والفشل الخفّاقة فوق سماء مستشفياتنا ومدارسنا وإداراتنا.

لن يغني كل ذلك أمام تحدٍّ واقعي حقيقي يتجاوز الخطاب الكلاسيكي المستهلك لهذه الأنظمة وقادتها، فلن يغنيها عن ذلك سوى إعادة التفكير من جديد بعقلية مغايرة ومنطق أكثر عقلانية ورشداً، وأسلوب أكثر صدقاً ومصارحة، فأوّل النجاح يكمن في التخلي عن المسار الخاطئ بعد الاعتراف به. 

إن المنطق الشمولي في الحكم هو منطق عدمي قهري متبلّد وعقيم، ينتمي لأنظمة بالية ظهرت مع النزعة الفاشية والنازية واللينينية والشيوعية، كما أنه لا يملك أي شرعية أو فاعلية في إدارة مجتمعات المعرفة المعاصرة، أين نشهد ثورة عميقة في الفكر الحقوقي والسياسي، وتنامي جذوة الوعي، وتكنولوجيات الاتصال، وهي معطيات تتطلب أدوات حُكْمِيَّةٍ أكثر مرونة وكفاءة في الاستجابة للتحديات ومواكبة تطلعات الشعوب نحو مستقبل زاهر. 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد لخضر حرزالله
أستاذ جامعي جزائري في العلوم السياسية
أستاذ وباحث بقسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة محمد خيضر بسكرة في الجزائر
تحميل المزيد