علاقة غريبة، في الزمان والمكان، تربط الأساطير بالعراق، تعود في قدمها إلى الألفية السادسة قبل الميلاد، حين ظهرت "سومر" أول حضارة عرفتها البشرية، وثقت في ألواحها الطينية أولى الأساطير والملاحم التي شكلت محاولات لإيجاد حلول للمشاكل التي واجهها الإنسان، وتركت تأثيرها على تفكيره. فمن ملحمة الباحث عن الخلود "جلجامش"، وأسطورة فاقد الخلود "أدبا"، مروراً بأساطير الخلق البابلية، وصولاً إلى عصر العباسيين، حيث صدَّرت بغداد أساطير "ألف ليلة وليلة" إلى العالم برحلات السندباد البحري، ومصباح علاء الدين السحري، وعلي بابا والأربعون حرامي.
ورغم عبور الألفية الثانية بعد الميلاد، ما زالت الأساطير تنتشر بين العراقيين لنفس الأسباب ربما التي اختلقها أجدادهم السومريون، إلا أن الفساد -المستشري بقوة داخل العراق– قد شوه سرد الأساطير وأحداثها، وبدل أن تَقصَّ الرعية "شهرزاد" قصصها الليلية على الحاكم لتخفف سطوته، تولى "شهريار" مهمة الرواية بدلاً عنها ليجعل الشعب مأسوراً لقبضته، ومن تلك الأساطير التي تُروى مؤخراً:
أسطورة عودة "حزب البعث" لحكم العراق!
لماذا لن يُبعثَ "البعث" في العراق مجدداً؟
منذ سقوط حكم "البعث" على يد الأمريكان وحظر نشاطه في 2003 ولغاية يومنا هذا؛ تكررت على مسامع العراقيين مئات الإشاعات عن محاولات الحزب للعودة للسلطة عبر انقلاب عسكري أو بالتسلل عبر الانتخابات البرلمانية. إشاعات لن يكون آخرها ما صدر بداية أكتوبر/تشرين الأول الماضي من تحذير وزير الداخلية الأسبق "باقر الزبيدي" من مخطط انقلابي وشيك للبعث بقيادة المتوفى نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي عزة الدوري، وليست هذه المرة الأولى التي يحذر فيها الزبيدي من عودة البعثيين للسلطة، ولا أظنها الأخيرة.
وقبل أن نحلل الأغراض التي تخدم إطلاق تلك الإشاعات؛ نستعرض أهم الأسباب السياسية والاجتماعية التي تمنع "حزب البعث" من العودة لسدة الحكم، والتي منها:
- أصبح العراق ساحة نفوذ معروفة لعدة لاعبين إقليميين ودوليين، أبرزهم أمريكا وإيران، وقد أسستا –كل على حدة، اتفاقاً أو تنازعاً– نقاط ارتكاز داخل العراق يصعب إزالتها في المرحلة الحالية لهشاشة الوضع سياسياً وعسكرياً واجتماعياً. والبعثيون ليسوا محل ثقة لدى غالبية العراقيين للقيام بمهمة الإنقاذ من السيطرة الأجنبية، ولا يملكون القوة الكافية للقيام بذلك رغم رفعهم شعارات المقاومة والتحرير منذ سنوات.
- أن الدبابة التي دخل بها "انقلابيو البعث" القصر الجمهوري عام 1968 قد مضى زمانها وزمن الجيش الذي كان يملك حق حمل السلاح لوحده. فالعراق الآن يعج بعشرات الأجهزة الأمنية المتشظية والعشائر المتصارعة والفصائل المسلحة ذات الولاءات المتعددة. عشرات ألوف المجندين بمختلف أنواع التسليح -الخفيف والمتوسط والثقيل- يخضعون لأوامر الزعماء المتنافسين. والرصاصة التي يطلقها اليوم "رجال الطريقة النقشبندية" – الجناح العسكري الحالي للبعث – تواجه بمئات المقذوفات من تلك الأطراف التي لا تسمح لهم بالسيطرة على الأرض.
- لا يملك "البعث" دعماً دولياً رسمياً يمكنه من العودة إلى الحكم. فروسيا والصين اللتان تفرجتا على سقوط حكمه عام 2003 لن تقامرا بدعم مباشر لمجموعة من البعثيين، ولن تخاطرا بمصالحهما مع حليفتهما إيران، ولا بإشعال الموقف مع الغريمة أمريكا. وتواجد بعض القيادات البعثية الهاربة في عدد من العواصم العربية والعالمية لا يؤسس لإنجاح أي انقلاب عسكري، وإنما يقتصر على بعض التحرش والتهديد كما سنوضح لاحقاً.
- شعار "البعث العربي والوحدة العربية" التي يرفعها الحزب شعاراً له أصبح شعاراً مستهلكاً لا يمتلك قبولاً لدى المواطن العربي قبل العراقي. وما وصلت إليه الدول العربية من تشرذم واختلاف ومنازعة تجعل من الوحدة العربية "وهماً" غير قابل للتحقيق. إضافة إلى تجربة قمع "البعث السوري" والتي لم يحفظ بها وحدة سوريا قبل غيرها.
- طوال فترة حكمه لطخ "حزب البعث" سجله بدماء ألوف الأبرياء عبر القمع السياسي والاعدامات والسجون والتعذيب. وما زالت ذاكرة معظم العراقيين شاهدة على تلك المرحلة. ولم يعتذر "حزب البعث" لغاية اليوم لذوي ضحاياه عن جرائم الإبادة السياسية، ولم يغير من خطابه الإقصائي تجاه معارضيه وتخوينهم المستمر وتهديدهم.
- لم يذق العراقيون طعم الحرية إلا بعد زوال حكم البعث، وقد أفسدت أحزاب المنطقة الخضراء حلاوة ذلك الطعم بسلوكها الفاسد، إلا أن نفسية الفرد العراقي قد تغيرت بشكل كبير خلال العقدين الماضيين، ولن يتقبل العراقيون – وهم يحلمون بالخلاص من فسدة أحزاب السلطة اليوم – أن يتم استبدال سلطة اليوم بالسلطة التي قمعتهم بالأمس.
- الصراع بين أجنحة "البعث" المنحل سبب آخر في منع الحزب من الوصول للسلطة، إضافة إلى اعتقال معظم قياداته منذ 2003 وإعدامهم، وهروب بعضهم داخل البلد وخارجه وتخليهم عن الحزب. وافتقار الحزب إلى دماء جديدة صاحبة فكر ورؤية، وغياب البرنامج السياسي والمراجعة الداخلية، إضافة إلى فقده القواعد الجماهيرية التي تؤهله للإمساك بزمام الدولة.
من يحمل "فزاعة البعث"؟
لا تعني عدم إمكانية عودة "حزب البعث" لحكم العراق نفي أي تحرك لهم لتحقيق ذلك، فنشاطهم الإعلامي والعسكري والاستخباري لم يتوقف منذ 2003 مع تباين تأثيره على الوضع السياسي في العراق، ولكن من هي الأطراف التي قد تهدد بعودتهم للحكم مجدداً؟
- الطرف الأول هم البعثيون أنفسهم أو ما تبقى منهم، فلابد لهم من تضخيم دورهم للحفاظ على زخم عناصرهم بالدرجة الأولى ومنحهم الأمل بإنهاء حالة الهروب والتخفي التي عانوا منها والعودة إلى "العزة والكرامة" التي تمتعوا بها سابقاً. وأيضاً لكسب ولاء بعض أبناء المحافظات التي تعاني من الظلم والتهميش والطائفية أملاً في خلاصهم منها.
- الطرف الثاني هم أحزاب السلطة – خاصة الشيعية منها والمدعومة إيرانياً– حيث فقدت معظم حاضنتها الشعبية بسبب الفساد المستشري بينهم والقمع ضد الشعب العراقي. فتسعى لتخويف جمهورها من عودة البعثيين لكسب دعمهم وأصواتهم وتأييدهم، ولتخوين أي جهة تحاول الاعتراض على ممارساتهم الفاسدة، وليس آخرها اتهام شباب "حراك تشرين" بأنهم جزء من المخطط البعثي للعودة للسلطة.
- الطرف الآخر الذي قد يستخدم "فزاعة" البعث هي الجهات الإقليمية والدولية لتضغط على أحزاب السلطة وداعميهم بشكل غير مباشر لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية ودفعهم إلى التفاوض من أجل إيقاف أي تحرك "بعثي" مستقبلي.
إن الصراع المتواصل على الانفراد بالسلطة في العراق لم يتوقف منذ سقوط العهد الملكي ووأد تجربته الديمقراطية. وقد دفع العراقيون ثمنها أرطالاً من القتلى وأطناناً من الثروات وكماً هائلاً من العقد النفسية والاجتماعية. وإذا لم تجلس الأطراف المتصارعة اليوم لطاولة حوار وتحتكم إلى ديمقراطية حقيقية سيدها الأول هو الشعب، فستحمل جميعها وزر جريمة إفناء أسطورة حية كان اسمها "العراق".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.