منذ صيف عام 2013 المصري الحار، وبعد نجاح عساكر مصر في عزل أول رئيس منتخب في تاريخ البلاد؛ محمد مرسي، والإطاحة بمكتسبات ثورة يناير وبجماعة الإخوان المسلمين من سدة الحكم في مصر بانقلاب دموي، وُلد تصوّر عام أنه لا رجعة للإسلاميين في عالم السياسة والإعلام. إذ توالت الضربات الأمنية داخل مصر وخارجها على رأس التنظيم. فأغلقت قنواته التلفزيونية والصحف الناطقة باسمه والموالية له داخل مصر، واعتُقل قياداته ورموزه وأعضاؤه، وتفكَّكت أغلب شبكاته تحت ضربات الأمن المتوالية، لينتهي بأعضاء جماعة الإخوان المسلمين بين معتقل في سجون لا تمت للإنسانية بصلة، أو هارب من قبضة الأمن أو منفي في الخارج.
وبعد المصالحة الخليجية في عام 2014، تم إبعاد عدد من قيادات جماعة الإخوان المسلمين عن شاشة قناة الجزيرة ومغادرتهم لدولة قطر، حرم إسلاميو مصر من أي تواجد رئيسي في وسائل الإعلام الحكومي العربي، فأنشأوا وسائلهم الخاصة التي غزوا بها الفضاء العربي بأكمله. غزا الإسلاميون وسائل التواصل الاجتماعي واليوتيوب وأخرجوا الكثير من صانعي المحتوى الذي أصبح لهم تاثير كبير بطول الوطن العربي وعرضه، وأصبحت مشاهداتهم بالملايين. كما امتلكو قنواتهم الخاصة التي تبث من تركيا، والتي تحظى بشعبية مرتفعة أيضاً في الوطن العربي كله. يضاف إلى ذلك قنوات تلفزيونية وإذاعات لا مانع لديها من تغطية أخبارهم، بل ودعمهم أحياناً، ومنحهم المجال لعرض آرائهم، مثل قناة الجزيرة وفروعها.
ولقد جاءت "معركة الرسوم المسيئة" للرسول (صلى الله عليه وسلم) لتختبر مدى التأثير والقدرة التي تحظى بها وسائل الإعلام الإسلامية تلك، حيث كان ميدان المعركة وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، بعدما أغلق المجال العام في العالم العربي بأكمله. وطبيعة المعركة نفسها كانت عاملاً مساعداً لتفوق وصعود الإسلاميين، فنحن إزاء حادثة لا خلاف عليها بين المسلمين بمختلف مذاهبهم، معركة واضحة الأطراف تماماً، بلا شوائب سياسية تعكر صفوها ونقائها… معركة تصلح لمعرفة مدى قدرة وتأثير الإسلاميين الحالي.
بدأت المعركه بإطلاع مدرس بإحدى المدارس الثانوية الفرنسية طلبته على رسوم مسيئة للنبي محمد، نشرتها سابقاً جريدة شارلي إيبدو الفرنسية، وقبلها طلب المدرس من الطلاب المسلمين المستائين من تلك الرسوم مغادرة الفصل الدراسي. تبع ذلك قتل المدرس صامويل باتي على يد أحد الطلاب. ليخرج الرئيس الفرنسي الذي كان في الأصل متحفزاً وهو على وشك أن يدخل معركة انتخابية يعلم فيها أهمية اليمين الشعبي، فتماهى الرجل مع تصورات وخطاب اليمين المتطرف وأدلى بتصريحات أقل ما يقال عنها إنها عنصرية، وقام بإغلاق مراكز إسلامية بالبلاد، مع وضع أخرى تحت المراقبة، مع التوجيه بنشر الرسوم المسيئة للنبي بشكل ممنهج ترعاه الدولة، وأعلن تمسكه ودفاعه عن الرسوم باعتبارها تعبيراً أصيلاً عن حرية التعبير في الجمهورية الفرنسية.
معركة يحبها الإسلاميون
هنا بدأت المعركة التي تمرَّس فيها الإسلاميون لعقود، فالتقطوا الخيط وبدأوا بإطلاق حملة واسعة النطاق لمقاطعة المنتجات الفرنسية. بدأ الأمر من صفحاتهم وحساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تحظى بمتابعة الملايين، وتم إطلاق هاشتاغ "مقاطعة المنتجات الفرنسية"، وبعدها بدأ تداول القضية عبر قنواتهم، ومن ثم انتشرت الحملة كالنار في الهشيم.
ومن المعلوم أن لفرنسا حلفاء في الشرق الإسلامي، وبدأت القضية لأولئك الحلفاء مربكة للغاية، فلو وقف القوم مع الفرنسيين لقيل عنهم إنهم أعداء رسول الله، وهم في الأصل ينفون ليل نهار أنهم ضد الإسلام، وإنما ضد الإسلاميين الذين يستغلون الدين لتحقيق مكاسب سياسية. ولو وقفوا خلف حملة المقاطعة لفقدوا مصداقيتهم عند جمهورهم الذي يسمعهم ليل نهار يخوّنون ويصفون الإسلاميين بأقذع الألفاظ، في نهاية المطاف اختار القوم أن يقفوا في المنتصف، ضد إهانة الرسول (عليه الصلاة والسلام)، وضد حملة المقاطعة التي روّجوا بكل طاقتهم ألا تأثير لها ولا جدوى منها، حيث تمت تجربتها من قبل ولم تنجح.
بالنسبة لحلفاء فرنسا في الشرق الإسلامي، كانت الضربة قاسية بعض الشيء، إذ أطاحت الحملة الرافضة للسياسات الفرنسية العنجهية والعنصرية بالحملة التي دشنوها لمقاطعة المنتجات التركية، والتي كانوا يريدون لها أن تستمر وتتعاظم حتى تظهر وكأنها رغبة شعبية صافية لا تقف وراءها أي دولة أو حكومة. لكن جاءت حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية فذهبت حملتهم أدراج الرياح.
هذا الفشل الواضح للعيان، برهن على ضعف وهزل شديدين، يعتريان إعلام الثورة المضادة، والحلف المعادي للإسلام السياسي. وأثبت نجاح حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية على محدودية تأثير الإعلام الإماراتي والسعودي، وفقدانه القدرة على التأثير الواسع، وضعف كوادره الذين تحولوا إلى مواد خام تستخدمها صفحات الكوميكس والميمز لنشر الضحك.
انتصار الإسلاميين
طرف آخر في المعادلة، هم علمانيو الوطن العربي، أولئك الذين رأوا في الحملة انتصاراً لقيم الظلام والرجعية التي يمثلها الطرف القائد لحملة المقاطعة، على قيم التنوير والتقدمية التي تمثلها لهم فرنسا بكل تجلياتها. فخاضوا المعركة الفكرية والثقافية التي تدعو إلى إعادة النظر في مبادئ الإسلام الخاصة بحرية التعبير والإبداع، ومحاولة توفيق أوضاع المسلمين في الغرب حتى يستطيعوا إتمام الاندماج الكامل في مجتمعاتهم الجديدة. وهذا ليس موقفاً عربياً أصيلاً، أو محاولة جادة لإيجاد حلول للمسلمين في الغرب، وإنما كان تبنياً كاملاً لوجهة نظر ماكرون.
استمرت المعركة الافتراضية لثلاثة أيام، ثم حدثت المفاجأة التي لم يتوقعها كثيرون، خرجت وزارة الخارجية الفرنسية ببيان تدعو فيه العرب والمسلمين لإنهاء حملة المقاطعة فوراً، وقالت إن من يقوم بها هم قلة راديكالية متطرفة، في غرور وتكبر وتصورات منحرفة عن الواقع، تكشف عن تبنّي الجمهورية الفرنسية الكامل لوجهة نظر حلفائها الديكتاتوريين في المنطقة العربية.
لكن كان هذا البيان بمثابة إعلان انتصار كبير لحملة المقاطعة، فشعر المشاركون بأن الأمر قد نجح، وأن ما فعلوه من احتجاج ومقاطعة أوجع من استهدفهم. وأيقنوا أن المنشور أو التغريدة أو الفيديو تخلق أثراً كبيراً بالفعل، أثراً يجعل العضو الدائم بمجلس الأمن يتألم.
بعد تصريحات وزير الخارجية الفرنسي بيوم، أعلن بعدها عن لقاء تلفزيوني لإيمانويل ماكرون على قناة الجزيرة، ولا يخفى عليكم دلالات اختيار الرئيس الفرنسي لقناة الجزيرة تحديداً دون غيرها، على نوعية الجمهور"الفاعل" الذي يرغب الرجل في الحديث معهم.
لقد كان لقاء ماكرون على قناة الجزيرة وقبلها بيانات وزارة خارجيته بمثابة إعلان نجاح حملة المقاطعة لمنتجات فرنسا. وإعلان آخر بأن إعلام الإسلاميين الذي تصدر تلك الحملة قد نجح وبقوة في هزيمة إعلام الأنظمة العربية المتحالفة مع فرنسا، فنجح إعلام الإسلاميين في حشد الملايين بطول العالم الإسلامي وعرضه، وقاد ببراعة حملة أظن أن لها ما بعدها.
نجح الإسلاميون في إثبات وجودهم القوي في ساحات الإعلام والبرهنة على قوة تأثيرهم في جموع مسلمي العالم العربي، للقدر الذي استطاعوا من خلاله إجبار مستعمر قديم على تغيير لهجته والرضوخ للأمر الواقع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.