أثبتت الأحداث الأخيرة أن الأزمة الحقيقية اليوم هي أزمة المجتمع الفرنسي وفشل السياسات الحكومية في احتواء الأقليات ودمجها ضمن الإطارين القيمي والاجتماعي لفرنسا. فلا وجود لتطرفٍ من دون وجود ظروفٍ موضوعيةٍ تسوغ له، وعلى فرنسا والدول الغربية بصورة عامة البحث عن الأسباب الاقتصادية والاجتماعية لهذا التطرف، لا التركيز فقط على إنفاق مئات الملايين من اليوروهات على الجانب الأمني، فإضافة إلى الآثار النفسية السيئة التي تتركها الإجراءات الأمنية المشددة على طبيعة الإنسان وسلوكه، فإنها لن تكون وحدها أبداً قادرة على توفير الحماية لكل شارعٍ أو زقاق، وحتى وإن كانت قادرة على تأدية جزءٍ كبيرٍ من هذا فإن ذلك سيتم في الغالب على حساب التضحية بقسمٍ كبيرٍ من خصوصية المواطنين.
تعتمد العقلية الغربية اليوم بشكلٍ كبيرٍ على التفسيرات الثقافية والدينية عند تناولها لظواهر التطرف والإرهاب، وهذه التفسيرات وإن صدقت في بعض جوانبها فإنها تبقى منقوصة لإهمالها جوانب أخرى كثيرةً تتعلق بخصوصية السياق الغربي الذي تنمو فيه مثل هذه النزعات. فالتطرف وإن بدا في ظاهره ذا طبيعةٍ ونمطٍ واحدٍ، إلا أنه مختلف المصادر والأسباب. فإن كان المصدر الأول الذي يغذي التطرف في مجتمعاتنا العربية هو الاستبداد، فإن للعنصرية والإقصاء الممنهج لبعض الشرائح المجتمعية في الغرب دورٌ في تغذية هذا التطرف، وإن لم يكن هذا هو المصدر الأساس.
وما الاحتجاجات التي تطورت إلى صداماتٍ عنيفةٍ في الولايات المتحدة خلال صيف العام الحالي، إلا دليل واضح على المسار الذي يمكن للأحداث أن تنحو نحوه بفعل الإقصاء المنهجي، مع مراعاة الفرق في السياق والتجليات.
ويبدو أن الغرب، وأنا أستخدم هنا تعميماً تعسفياً، يستصعب مسألة الاعتراف الصريح بمحلية المشكلة التي يواجهها، فإلقاء اللوم على الآخر وادعاء مأزوميته دينياً وثقافياً أسهل بكثيرٍ من محاولة تبرير سياساتٍ اقتصاديةٍ مكلفةٍ تموّلها الضرائب المفروضة على المواطنين، للناخبين الذين يحملون صوراً نمطيةً ترسخت على مدى عقودٍ طويلةٍ عن الآخر الذي لا يزال يعامل معاملة الوافد الجديد، بالرغم من أنه لا يعرف وطناً آخر سوى الوطن الذي يعيش فيه. لقد رفض الغرب -وفرنسا على وجه الخصوص- الاعتراف بوجود مشكلةٍ مجتمعيةٍ داخليةٍ تغذي التطرف وتشكل الظروف الموضوعية الحاضنة له، بل اكتفى بتفسيراتٍ إسلاموثقافيةٍ منقوصةٍ عززت نزعة التطرف هذه، والتي بدورها زادت "ظاهرياً" من مصداقية هذه التفسيرات، ما أدى لاحقاً إلى تَكوّن حلقةٍ مغلقةٍ يغذي كل طرف منها الآخر ويعتاش عليه.
أما الإرث الذي خلفته هذه التفسيرات الأحادية البعد فكان عبارةً عن حزمة سياساتٍ فاشلةٍ لمكافحة التطرف، لم يكتب لها النجاح في مسعاها، نظراً لمحدودية الأساس الذي بُنيت عليه. ويمكن للعنجهية والتغطرس الثقافي، إضافة إلى الشعور بالتفوق على الآخر تقديم بعض التفسيرات التي أدت لشيوع المقاربة الثقافية للتطرف. ولعل التراجع الملحوظ لمعدل النمو الاقتصادي في الغرب وهروب الوظائف جراء العولمة نحو الشرق، هي من الأسباب التي دفعت بالصراعات الهوياتية والثقافية نحو المجال العام للمجتمعات الغربية المعاصرة.
ولكي نكون صريحين مع أنفسنا، ولئلا نحمل الآخر وزر عِلّاتنا كلها، مع تشديدي على تحمله لجزءٍ كبير من هذه العِلاّت، فإن أشد ما يغذي الراديكالية الإسلامية اليوم هو الاستبداد والاستخفاف المتعمد للإنسان قيمياً وجسدياً في عالمنا العربي. لقد أدى الجور والاضطهاد المستمران اللذان تعرض لهما الإنسان العربي، على مدى عقودٍ طويلة (وبالذات خلال القرن المنصرم)، إلى ظهور أشكالٍ جديدةٍ من الاضطرابات السلوكية والنفسية التي كان الإرهاب الموجه نحو الذات أشد أشكالها تطرفاً ومدعاة للاشمئزاز.
وللتطرف والإرهاب صيرورة معقدة تدخل في تركيبها العديد من العوامل التي لا يسعنا تناولها هنا، ولكن من المهم أن ننوه إلى الدور الهّدام الذي لعبته الهيكلية المؤسساتية للدولة العربية الحديثة في عملية مسخ الإنسان العربي وتحفيز الغرائز الوحشية عند البعض، ما مهّد لظهور أيديولوجيات متطرفة وسهّل من استساغتها لدى عدد لا يستهان به من الناس.
لقد أتاحت الصيغة المؤسساتية للدولة الحديثة إمكانية غير مسبوقةٍ للسيطرة على حيوات الناس ومراقبتهم، عبر استخدام أدواتٍ لم تكن متاحةً عند سابقاتها من النماذج المؤسساتية للحكم. فالجيش البيروقراطي الجرار الذي أفرزته الدولة الحديثة مكّنها من التدخل في أدق التفاصيل خصوصية في حياة المواطنين.
وفي حالتنا العربية، ونظراً لانعدام المنظومة الأخلاقية المنظمة لحدود عمل الدولة وصلاحياتها، فقد أتاح جهاز الدولة الحديث ممارسة أنواع خلّاقة من الاستبداد لم يكن سكان هذه المنطقة على معرفة سابقة بها. ومع فشل مشاريع التنمية الاقتصادية للدولة العربية الحديثة، تراجعت شرعيتها وانحسرت سلطتها التي لم يعد التهديد باستخدام العنف الجسدي كافياً للمحافظة عليها، ومع تعرض الأصوات المعارضة لسياسات الدولة ومنهجياتها لشتى أنواع العنف، انتهى بنا الحال إلى دولةٍ مترهلةٍ، غير قادرةٍ على فرض سلطتها، وإلى إنسان عربي ممسوخ ومستعد لتقبل أي بديل آخر، مهما كانت طبيعة هذا البديل، مع ضرورة التشديد على توافق هذا السلوك مع عدد قليل من الناس.
لقد فقدت الدول العربية في المشرق المبرر الموضوعي لوجودها منذ نهايات القرن الماضي، وما عاد هذا الوجود يستند إلا على قاعدةٍ ضيقةٍ من شبكات المصالح والزبائنية، إضافة إلى اعتمادها على العنف الفتاك. والمؤسف في الأمر هو أن البديل الذي أنتجته هذه الدولة كان على قدر عالٍ من الوحشية، ويحمل عقيدة دينية مشوهة مثلت النتيجة شبه الحتمية للواقعين السياسي والمجتمعي اللذين أنتجهما الاضطهاد الذي أتاحته البنية المؤسساتية لهذه الدولة. لقد كان الإنسان العربي -وبالذات المسلم- في الشرق والغرب هو الضحية الوحيدة لهذه المعادلة، ففي الشرق صار هذا الإنسان تحت وطأة العنف الوحشي من قبل الأجهزة القمعية للدولة، وهي الأجهزة الوحيدة التي ظلت قائمة ومؤثرة فيها، بينما صار في الغرب ضحية الإقصاء والاضطهاد النفسي، الناتج عن الصورة النمطية المتولدة لدى هذه المجتمعات الغربية، بناءً على ما يحدث في الشرق.
وعلينا هنا ألا ننسى دور الغرب في احتلال هذه الدول بشكل مباشر في مراحل مختلفة، ومن ثم التدخل المستمر في شؤونها، إضافة إلى دوره الكبير في تشجيع الحركات الإسلامية واستخدامها كأوراق ضغطٍ ضد الأنظمة السلطوية العربية، ناهيك عن استخدامه لهذه الحركات كأدوات صراع بالوكالة إبان حقبة الحرب الباردة، ولكن الغرب لا يتحمّل كامل المسؤولية في ذلك وحدَه، ومن غير العقلاني تحميله وزرها بأكمله، وللحديث فيما يخص هذا الشأن شجون، بل يمكن القول باختصار إنه -أي الغرب- أسهم بشكل كبير في إيجاد الإطار السياسي لتشكّل هذا النوع وسواه من أنواع التطرف في الشرق، إضافة إلى عدم اعترافه بوجود ظروفٍ موضوعيةٍ لتناميه داخل مجتمعاته، واعتماده على التفسيرات الثقافية والدينية، نظراً لما تتيحه بساطة هذه التفسيرات من قدرة عالية على الإقناع، مقارنة بعملية طويلة لمراجعة الذات. لقد دعم الغرب بصورةٍ مباشرةٍ الاستبداد في مجتمعاتنا، فما بين محمد رضا بهلوي وبشار الأسد قائمة طويلة من التدخلات المباشرة وغير المباشرة.
وإن كانت المجتمعات الغربية غافلة عن سياسات دولها الخارجية فإن نظيراتها الشرقية كانت على دراية أكبر بطبيعة هذه السياسات، كيف لا وهي التي وقع عليها ذلك الاضطهاد.
وما تغريدة النائب الفرنسي اليميني في الاتحاد الأوروبي غيلبر كولارد والداعية إلى وقف بيع الأسلحة إلى الدول العربية رداً على ما وصفه "بالجهاد الاقتصادي" -ولنا في هذا وقفة لاحقة- إلا خير دليلٍ على النوع الأبرز من أنواع الدعم الغربية للأنظمة السلطوية العربية، من خلال مبيعات الأسلحة المستمرة التي توفر غطاء حماية غربية للمستبد العربي، وتخلق علاقة مصالح تجارية ضخمة بينه وبين الحكومات الغربية.
قد يصح أن تكون الأزمة التي تحدث عنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطابه الذي ألقاه في بداية شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، هي أزمة المسلمين في مجتمعاتهم لا أزمة الإسلام، وقد لا يكون وفّق في اختيار كلماته للتعبير عن هذا، إذا ما أردنا أن نحسن الظن بنواياه، مع تشكيكي الكبير بحسنها، ولكن ما لا يصح للغرب ولا لفرنسا، على وجه الخصوص، التغافل عن حقيقة مساهمتهم المباشرة في إيجاد الواقع الذي تمخضت عنه هذه الأزمة، إضافة إلى حقيقة وجود أزمة داخلية حقيقية يعيشها الغرب نفسه ويرفض الاعتراف بها، مفضلاً إلقاء اللوم على عاتق ثقافات الآخرين ومعتقداتهم الدينية، وما تراجع النمو الاقتصادي وهروب الوظائف نحو الشرق، جراء العولمة، إلا سبب من بين أسباب عدة من أسباب تفاقم الصراعات الهوياتية والثقافية في غربنا المعاصر وشيوعها.
ويبقى لنا أن ننوه على استغرابنا من حشد مئات الآلاف من الأوروبيين في مظاهرات تندد بالعنف الممارس من قِبل الشرطة الأمريكية تُجاه ذوي البشرة السمراء، وهي قضية عادلة وفق كافة المعايير والأعراف البشرية، ولكنهم في نفس الوقت يغضون بصرهم عن العنصرية البنيوية والفكرية تجاه الإسلام والمسلمين، اللذين إذا ما عبروا عن غضبهم تجاه هذه العنصرية الممارسة بحقهم اعتُبر ذلك تدخلاً صارخاً في نمط الحياة الغربي، وفي القيم الأوروبية،
التي تصبح بقدرة قادرٍ ذات طابع كوني عند محاولة تصديرها وإحلالها محل القيم المحلية للمجتمعات غير الأوروبية. وعليه فإن الغرب بحاجة إلى عملية إعادة تفكير تجاه تعامله مع مسلمي أوروبا، وتقبل حقيقة كونهم جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي لهذه المجتمعات، لا كياناً خارجياً يمكن التخلص منه وقتما تهيأت الظروف والأسباب لفعل ذلك.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.