بين الظهور والخصوصية
يقول زيجمونت باومن -عالم الاجتماع البولندي وصاحب سلسلة الحداثة السائلة- إن لدى معظم الناس خوفاً من أن يكونوا مهملين وحيدين متروكين أو غير مرئيين. على هذا الشعور بنى مارك زوكربيرغ إمبراطوريته وجمع ملياراته، حيث أعطى فيسبوك -وأخوته من برامج التواصل على كل حال- فرصة للناس كلهم للانتقال مما يرونه موقعاً هامشياً أو غير مرئيّ إلى واجهة الأخبار كما لو كانوا نجوماً أو قادة سياسيّين.
ففطورك الذي تناولته اليوم وبنطالك الذي اشتريته بالأمس لم يعودا أمرين شخصيّين، بل صار كل واحد منهما خبراً يُدَبّج بعبارات فلسفية مؤلّفة أو منقولة ويتصدّر صفحات الإنترنت. وأكلك الخيار -الذي يظهر مبتسماً في صورة فطورك- أكلك إيّاه بقشرته أو مقشراً أو مخطّطاً لم يعد أمراً هامشيّاً بل قضيّة للنّقاش قد يحمى حولها الوطيس.. هذا كلّه يُشعِر الإنسان بأهمية شخصه وما يقوم به لا باعتباره مثمراً أو مفيداً بالضرورة بل باعتباره مادة للكلام.. مجرد الكلام.
ولأن هذه البرامج تستند إلى خوارزميات مصممة خصيصاً لتحويل سلوكك تدريجياً فإن الإنسان لا يتوقف -في كثير من الأحيان- عند نشر صورة بين الحين والآخر وإنما يصبح النشر والتصوير والمشاركة والكلام ديدناً يومياً بل ساعيّاً أو لحظيّاً في بعض الحالات.
أسرارٌ للبيع
وشيئاً فشيئاً تصبح أحداث ومشاهد حياتنا الشخصيّة مادة يُرجَى منها الرّبح سواء كان ربحاً معنوياً بتضخيم الشعور بالأهميّة والظّهور أو ربحاً ماديّاً أو الاثنين معاً إذا ما كشفنا من أسرارنا وخصوصيّاتنا ما يكفي لنصبح "مؤثرين".. هذه الأسرار -يخبرنا باومن- هي البضاعة الوحيدة التي يمكن أن نبيعها في سوق الشهرة. ولعل باومن أخطأ التعبير هنا فليست الأسرار هي البضاعة الوحيدة بل إن سوق الشهرة زاخرٌ بكل أنواع البضائع مع تحرير كامل للسوق حتى من التخصص، بإمكانك مثلاً أن تشاهد مختصة تربوية تعلن لصالون حلاقة أو منتج تجميلي، وليس مستغرباً أن ترى طاهياً ينصح بنوع معين من أدوات تنظيف السيارات.
ولعل باومن قصد أن الأسرار هي البضاعة التي لا تباع إلا في سوق الشهرة، أو أن سوق الشهرة حوّل كل شيء إلى بضاعة بما فيه الأسرار. فأصبحنا كما يقول: "نضع مكبرات للصوت في حوارات خاصة جداً -ربما لم يكن ليسمعها أحد إلا الله قبل عصر التواصل هذا- والآن صرنا نريد أن يسمعها أكبر عدد ممكن من الناس". وكلامه هذا يعني أن كثيرين على الأقل في عصرنا هذا أكثر حرصاً على جذب الاهتمام من حرصهم على الحفاظ على الخصوصية. وهذا أمر بالغ الأهمية لأن الخصوصية ذات أثر في الحفاظ على العلاقات وفي تعميق الصلات البشرية. فكأن ترجمة هذا هي أن صورة العلاقة تصبح شيئاً فشيئاً أهم من العلاقة نفسها.
لذّة التلصّص
هذا الكشف المستمر للخصوصيات يتغذى على حاجة الناس للظهور من جهة ورغبتهم في التلصّص من جهة أخرى. ولست أدري أيّة حال هي أغرب: حال أولئك الذين يدخلوننا إلى غرف نومهم وحمّامات بيوتهم أم حال الذين يتلقّون هذه الأخبار والصّور بكثير من الحماس والاهتمام.
فالله سبحانه وتعالى يقول معلّماً نبيّه الكريم (عليه أفضل الصلاة والسلام) وإيّانا من بعده "ولا تمدّن عينيك إلى ما متّعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى". وينهانا بذلك عن تكلّف مراقبة الناس والانشغال بما في أيديهم من خير أو رزق أو نِعَم ويذكّرنا بأن هذا كلّه في النّهاية بلاءٌ دنيويّ والعاقبة لمن اتّقى.
أمّا اليوم فلم يعد الأمر يحتاج "مدّاً" للبصر ولا تكلّفاً في مراقبة الناس فهاهم يطرقون أبواب هواتفنا كلّ يوم ويوصلون إلى صدر بيوتنا أخبارهم وصورهم ويقدّمون لنا على كفّ من ذهب أسرارهم وخصوصيّاتهم. فما العمل؟
في هذه الحال يقدم لنا القرآن درساً أعمق وأبلغ، ألم يقل الله جل وعلا في وصف المؤمنين "والذين هم عن اللغو معرضون" ألم يقل في وصف عباد الرّحمن: "وإذا مرّوا باللّغو مرّوا كراماً"، بل زاد على ذلك بقوله: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً"، هكذا يُعرِض الإنسان عن الجهل والتفاهة حين تزكو نفسه حتى وإن وجّه أصحاب اللغو خطابهم له شخصيّاً، ويقول ما علّمه الله: "لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلامٌ عليكم لا نبتغي الجاهلين". فإذا لم يرتدع هؤلاء بالحياء أو بالفهم أو بالمنطق عن مشاركة تفاصيل حياتهم فلماذا لا نُعرِض نحن عن متابعة هذه التفاصيل؟
ولا يُفهم من كلامي هذا أن كلَّ الذين يكتبون أو ينشرون في تلك الوسائل هم من الجاهلين الفارغين، ولكن كما لا يخفى على أي متابع أصبح المحتوى المفيد غارقاً في بحر من اللامحتوى -لأستخدم أكثر التعبيرات لباقة- ويصعب العثور عليه إلا لمن قصد إليه سبيلاً.
الفضاء العام
وبالحديث عن المحتوى المفيد أو غير المفيد نكون قد انتقلنا إلى الكلام عن الفضاء العام الذي من المفترض أن تعطي وسائل التواصل لكل الناس صوتاً وفرصة للمشاركة فيه. يقول باومن: "إن وسائل التواصل وبالذات تويتر تعطيك فرصة لدخول الفضاء العام بمجرد تحريك أصابعك وأنت تجلس على كرسيك". هذا لا يتطلب بالضرورة أن تخرج وتنخرط في نشاط ما على أرض الواقع. وهذا يعني أيضاً أنك قد تحدث فرقاً وقد لا تحدث أيّ فرق ولكنك في الحالتين تسكّن ضميرك تجاه هذه القضيّة أو تلك وتصطنع شعوراً بأنك ذو قيمة وأنك صاحب "أثر" على مجريات الأحداث.
لنفكّر في هذا آخذين بعين الاعتبار ما تنبّه إليه الدكتورة هبة رؤوف عزت -المفكرة المصرية ودكتورة العلوم السياسية- من شعور بعض الشباب بأن الأمّة تستيقظ كل يوم صباحاً بانتظار أن تسمع منه بياناً حول ما جرى ويجري. هذا الشعور المزيّف بأنّ ما نقول مهمّ ومهمٌّ جداً، وبأن ما نقوله يحدث فرقاً، هذا كله ينتج قدراً هائلاً من الثرثرة.
هل يعني هذا ألا نعبر عن آرائنا أو نتوقف عن دعم قضايانا؟ أبداً على الإطلاق. ولكن لربّما علينا أن نتحلّى ببعض التمهّل والتأمّل وكثير من التواضع والصّدق قبل أن نرى أنفسنا أبطالاً في الفضاء العام. لربما يجدر بنا أن نسأل أنفسنا: هل هذه القضية عادلة أم أنها اكتسبت قيمتها من عدد الذين كتبوا وتحدّثوا عنها لا أكثر ولا أقل؟ وهل عندي رأي أو فكرة يضيف للحوار الجاري شيئاً مفيداً أو مثمراً أم أنها شهوة الثرثرة لا أكثر؟ وهل شكّلتُ رأيي هذا أصلاً على علم ودراية وتروٍّ في تناول القضايا أم أنه الوحي الذي يتنزّل على صاحبه بعد قراءة خمسة منشوارت في القضيّة؟ وهل ثمة قيمة لما سأقول أم أنه إحراز نقاط بالمجّان؟
وقبل هذا كله: هل يوجد شيء أفعله تجاه هذا القضية أكثر نفعاً من مجرد الكلام فيها؟ فلو كنت قد هممت بأن تدبّج منشوراً عن عزوف الشباب عن القراءة فهل يمكنك بدل "النّق" المستمر أن تفعل شيئاً أكثر نفعاً كأن تنشئ حلقة -حتى لو افتراضية- لمناقشة بعض المقروءات؟ وإذا كنت ستذرف الدموع على خلو المساجد من روّادها فلربما اتفقت مع أصحابك أن تُعمِروا مسجد حيّكم فتكون قد أخذت خطوة حقيقية بدل جرعات التّسكين التي تتسلل لأجسامنا مع كل إعجاب على منشوراتنا.
أما فيما يتعلق بالقضايا الكبرى فلا يجب أن يوقفنا كلامنا عنها في منصّات التواصل عن الفعل الحقيقي المثمر. ولا يجوز أن ننسى أن هذا الذي يجري هناك هو مجرد كلام. قد يخدم في الحقيقة أعداء تلك القضايا لأنه يشكل مُتَنفَّساً للمشاعر وتصريفاً للضغوط دون أن يغير واقعاً أو يحدث أثراً.
أحياناً يكون للكلام ثمن باهظ، وكثيراً ما يكون رخيصاً يا أصحاب.. ومع وسائل التواصل يزداد رخصاً كل يوم، ولكن طوبى لمن جعل كلامه دليلاً على إيمانه "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"، والصلاة على من بُعثِ رحمة وهادياً ومؤدِّباً ودليلاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.