الحملة العدوانية على الإسلام من طرف الدولة الفرنسية مثيرة للاستغراب إن نظرنا إليها بحسابات الدول التي تحترم نفسها، الدول الحريصة على تماسك نسيجها المجتمعي وعلى تعزيز نفوذها الدولي. إن صدور تصريحات مسيئة من مسؤول بمستوى رئيس دولة لدين عالمي بحجم ومكانة الإسلام، متهمة إياه بأنه يشكل أزمة في ذاته، متطاولاً على أعظم رموزه، وذلك بإصراره على تبنّي الرسوم المسيئة، فإن ذلك يعد استفزازاً بالغاً لقطاع من أهل تلك الديانة من المنتسبين إليها من الفرنسيين، ومن خلفهم قرابة 2 مليار مسلم في مختلف أرجاء العالم، وخطوة رعناء لم يسبق لأحد من الزعماء السياسيين الغربيين على الأقل في العصر الراهن اقترافها.
حتى نابليون بونابرت، الذي يعتبره الفرنسيون أعظم قادتهم العسكريين، اضطر عندما اجتاح الشرق وهو في عز قوته وعنفوانه إلى مغازلة المسلمين، إلى أن وصل به الأمر إلى ادعاء إسلامه، كما أن القوة العالمية الأولى حالياً في مختلف غاراتها على المناطق العربية والإسلامية تتفادى الهجوم المباشر على الإسلام، حتى بعد إعلان رئيسها جورج بوش حرباً صليبية على المنطقة العربية والإسلامية مطلع الألفية الثالثة. حيث سعى إلى تقسيم التيارات السياسية والتنظيمية إلى متطرفة ومعتدلة، بين من يقاومه وبين من يهادنه، ولم يضع الكل في سلة واحدة. أما ترامب فلم يشذ عن تلك القاعدة، ولننظر كيف تغلبت البراغماتية الأمريكية على رعونته المعتادة في تصريحه الداعي إلى إعادة فتح المساجد في زمن كورونا، وجعلها في نفس الخانة مع الكنائس وباقي المعابد، متحدثاً عن أهميتها في تماسك المجتمع الأمريكي وتوحيده. والطريف أنه حتى العدو الصهيوني بدوره لا يستعدي الإسلام على المستوى الرسمي، حيث يصور الصراع على أنه يقتصر مع أطراف فلسطينية متطرفة وحاضنتها الأيديولوجية في المحيط، ولا يجد حرجاً في الدفع ببعض متحدثيه الإعلاميين لتوظيف آيات قرآنية أو أحاديث نبوية من التي يعتقدون أنها تخدم ممارسات كيانهم.
لقد أثبت الفرنسيون حالياً أنهم لا يفتقرون إلى السماحة وقبول الآخر وتفهم معتقداته فحسب، وإنما يعوزهم أيضاً الذكاء السياسي. فالجدير بالذكر أن الأطراف المذكورة سلفاً لا تريد الخير للعرب والمسلمين، وعداوتها لهم تجسدها أفعالها المدمرة لأوطانهم، إلا أنها مع ذلك أحدثت اختراقات لا تُنكر في المجتمعات العربية والإسلامية، لقناعتها أن الخشونة والعنجهية الدائمة لا تقود إلا إلى تأجيج مشاعر الحقد والكراهية، لذلك فهي تحرص على ترميم صورتها من وقت لآخر، وعلى تلافي بلوغ مرحلة العداء السافر ونقطة اللاعودة، فيما يصر الفرنسيون على منطقهم الأحادي، والنتيجة أنهم حققوا إجماعاً قياسياً ضدهم.
الحنين للماضي
الواقع أن فرنسا منسجمة مع نفسها ومع ماضيها الكولونيالي، وكل ممارساتها تغرف من ذلك الإرث، خلافاً لدول استعمارية أخرى تمكنت من تطوير استغلالها للشعوب وتنويع أساليب الضغط عليها، بما فيها استخدام أساليب ناعمة، ومنها من اتسعت دائرة نفوذها بعد تغييرها لقواعد اللعبة السابقة. أما بالنسبة لفرنسا "القوة المتآكلة"، فإن نفوذها الخارجي لا يتجاوز مستعمراتها التي تكتم على أنفاسها، والتي تحكمها بالحديد والنار والانقلابات والتدخل العسكري الخشن، في عجز واضح عن مجاراة الوضع الدولي المعقد. وهذا ما أظهرته اللهجة الآمرة لبيان وزارة خارجيتها، الداعي لوقف حملة المقاطعة الاقتصادية بحقها، والتي لم تغادر نبرة المستعمر المتعجرفة.
كما أن مواطنيها من أبناء المهاجرين هم غالباً من أبناء مستعمراتها الإفريقية، الشيء الذي شجَّعها على التعاطي معهم كأتباع خاضعين وليسوا مواطنين، وهو ما جعلهم يتعرضون للتمييز في المدارس ووسائل الإعلام وباقي الفضاءات العامة. وكل سياسي فاشل يريد أن يسوق نفسه يبني شعبيته على معاداتهم، ويضعهم في دائرة الاتهام الدائم. فحتى لو رضخوا للنموذج اللائكي المتطرف، وسحقوا خصوصيتهم، فإن سحنتهم الإفريقية أو المغاربية تستفز الفرنسي الأبيض الذي لا يرضيه غير خلو الأرض الفرنسية منهم، رغم أن القطاع الأكبر منهم وفد إلى فرنسا بإرادة المستعمر نفسه، سواء في فترة الاحتلال المباشر أو ما بعده، في بدايات الاستقلال الشكلي، والذين تعرضوا للاستغلال البشع في تلك الفترة. ورغم أن فرنسا مدينة لأولئك الوافدين عليها ولباقي أبناء الشعوب الخاضعة لها باستقلالها من نير الاحتلال النازي، حين أذعن الشعب الفرنسي للقوى النازية التي حطمت كبرياءه دون أية مقاومة تستحق الذكر من جهته.
ثمن الصمت
ما جرّأ فرنسا على مسلميها ودَاعَتُهم وخضوعهم المبالغ فيه، حيث ظلوا غائبين عن ساحة التدافع السياسي، كما أن انخراطهم في الحركات الاحتجاجية لا يتناسب مع وزنهم الديمغرافي ومع حجم التهميش الذي يتعرضون له بفعل أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية المتردية مقارنة بباقي الفرنسيين، وهم يدفعون ثمن سذاجتهم السياسية حين انطلت عليهم خدعة ألا أحد يستهدفهم غير اليمين المتطرف بقيادة ماريان لوبان وحزبها، حيث إن الشيء الوحيد الذي كان يهمهم في الشأن السياسي هو إبعاد ذلك الحزب عن السلطة بأصواتهم الانتخابية، في الوقت الذي كانت الدولة الفرنسية ومعها جل النخب يتجهون نحو أفكار اليمين العنصري في غفلة عنهم.
ومع ذلك، هناك من يستغل حالات العنف المعزولة عن الجالية الإسلامية في فرنسا ويربطها بها وبالإسلام ككل، ولا يقتصر على تيار متطرف بعينه، حيث إن النبرة الاتهامية تشمل الجميع، هذا مع العلم أن المسلمين عاشوا في فرنسا لعقود ولم يصدر منهم ما يهدد السلم فيها. واليوم ما زالت الغالبية الساحقة منها تتبرأ من الأفعال المنسوبة إليها.
فلماذا الإصرار على التعميم وعلى تحميلهم ما لا ناقة لهم فيه ولا جمل؟
لا نهوّن من مسألة العنف الذي تمارسه بعض الجماعات المتطرفة، لكن ربطه كله بالطرف الإسلامي فيه تجنٍّ واضح، إذ لماذا يعتبر من هم على الهامش سفراء للإسلام وأهله وليس الأغلبية الإسلامية المسالمة؟ ولماذا يحاكم التراث الإسلامي وحده فيما يضج التراث الإنساني بالعناصر المؤججة للصراعات الدموية؟ وما ارتكبته مختلف القوى العالمية ذات أجندات أيديولوجية ودينية وشوفينية إلى وقت قريب من جرائم ثابت وموثق. لكن الوقاحة أن يتم القفز على كل ذلك، وأن تتقمص قوى الاستكبار العالمي ومعها الأنظمة القمعية العربية الملتصقة بها ذات التاريخ الحقوقي الكالح دور الحرص على الحريات واحترام حقوق الإنسان.
الحقيقة أن المتطرفين يعرف بعضهم بعضاً، ومستنقع الكراهية الفرنسية أضحى بيئة جاذبة لكل الذباب المتطرف، ذلك أن الفاشية اللائكية تنتعش باستدعاء فاشيات أخرى، لاسيما أن ثمة مصلحة في استثارة النعرات العنصرية في الداخل الفرنسي، في بلد تجابه طبقته السياسية والاجتماعية أزمة عميقة، بعد أن بلغ الغضب الشعبي عليها مستوى قياسياً، انعكس في تناسل الاحتجاجات الجماهيرية التي تحوّل معها الرئيس الفرنسي الحالي إلى واحد من أسوأ الرؤساء الذين مرّوا على الجمهورية الفرنسية، الشيء الذي جعل من تحوير اهتمامات الشارع الفرنسي نحو عدو خارجي فرصة لالتقاط أنفاسها، وللإبقاء على مكاسبها السياسية، ظانة أن اللعب على وتر الإسلاموفوبيا سيكون نزهة مثل المغامرات التي اعتادوا على القيام بها في أدغال إفريقيا.
الأزمة حقيقية
الأزمة مع فرنسا ليست مفتعلة كما يردد البعض ممن يهبّون للدفاع عن بلد تزكم عنصريته الأنوف، معتبرين أنه يخوض حرباً للدفاع عن الحرية، واضعين أي رد فعل رافض للمواقف الفرنسية في نفس البوتقة الإرهابية المتطرفة، حتى لو كان نقاشاً هادئاً، أو اعتمد على وسائل حضارية مثل المقاطعة الاقتصادية. فالقوم يظنون أن حرية التعبير صُممت على مقاس قناعاتهم حصراً، هم وحدَهم مَن يحِق لهم أن ينتقدوا ويهاجموا ويسخروا، ظانّين أن كلامهم لا يأتيه الباطل أبداً، وبمجرد ما يتلقون رداً بنفس أساليبهم يعتبرون ذلك استهدافاً لهم، وضيقاً بقناعاتهم، وكأنَّ حقَّ التعبير عن الرأي لا يتحققُ عندهم إلا إذا صادروا نفسَ الحقِّ عند الآخرين.
ثم إننا نفهم أن تُمَارَسَ حريةُ التعبير في دوائر خاصة، لا تلزم أفكارها إلا أصحابها، بدليل أن حركة العداء للإسلام الثقافية لم تتوقف منذ عقود، ليس في فرنسا وحدها، بل حتى داخل عدد من الدول العربية، ومع ذلك لا تُثار حولها الضجة في معظم الأحيان، أما أن تصبح موقفاً سيادياً يتبناه رأس الدولة مثلما فعل ماكرون، الذي يُفترض فيه أن يستوعب حساسيات مجتمعه واختلافاته الإثنية والثقافية، فتلك مسألة مختلفة، خصوصاً أننا أمام بلد تسكنه روح العدوانية، فحريّ بنا أن ندقَّ ناقوس الخطر حول انعكاسات مواقفها الأخيرة على دوائر نفوذها وعلى السلم العالمي عامة.
حريّ بالدولة الفرنسية أن تتخلّص من ثُقل ماضيها الذي يكبّلها، ومن مزاج سياسييها العصبي، وأن تستوعب الدروسَ من جوارِها الأوروبي، الذي عرف كيف يحتوي الأخطار الإرهابية بإطفاء مسببات اشتعالها، مثل ما حدث بعد تفجيرات لندن ومدريد، ذلك أن تصعيد الموقف سيُشكّل مقامرة بوحدة المجتمع الفرنسي، وإعاقةً للاندماج الإيجابي للأقليات فيه، فضلاً على أنه يُربك مكانة فرنسا الدولية وعلاقاتها الدبلوماسية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.