لم يعد خافياً الهجوم الذي تتعرض له الرموز الإسلامية في أوروبا، وتحديداً من قادة الأحزاب اليمينية، وكان آخرها تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون الذي لا يتوقف عن إلصاق المصطلحات الراديكالية بالإسلام والمسلمين، ورغم أن هذه التصريحات تعتبر موجهة وتعمل على حشد الرأي العام في الغرب ضد الإسلام، فإن كثيرين يضعونه ضمن سياق رد فعل طبيعي على الإسلاميين الذين لا يمر عام إلا وقد تخضبت أيديهم بدماء الأوروبيين.
فهل الخطاب المعادي للمسلمين وظاهرة "الإسلاموفوبيا" يعبّر عن وجه أوروبا القبيح أم أنه رد فعل طبيعي لتصرفات "المتطرفين"؟
من المهم بدايةّ معرفة أصول المصطلح، حيث ظهرت حالة الاحتقان في الأوساط الأوروبية وخطابهم ضد الإسلام في ثمانينات العقد المنصرم، تزامناً مع نشاط عدة حركات إسلامية متشددة وتبنيها نظرة معادية للغرب ومن ثم ظهور أبرز تلك التنظيمات، تنظيم القاعدة، إلا أن مصطلح "الإسلاموفوبيا" لم يظهر إلا في بداية الألفية الجديدة، حيث عبّر عنه مفكرون غربيون نتيجة عمليات استهدفت مدناً أوروبية ومواطنين في العواصم الغربية.
دليل الإسلاموفوبيا
وإذا اعتبرت وسائل الإعلام والسلطات الأوروبية عمليات العنف من الحركات الإسلامية المتشددة السبب الأول للخطاب المعادي للإسلام، فإنهم يتغافلون عن عدة عوامل أخرى ساهمت في حالة الرهاب الذي يعيشه ساسة الأحزاب اليمينية ومناصروهم من الإسلام. وأول تلك الأسباب، رفض التسليم بإنسانية الإسلام وربطه الدائم من قبل قادة اليمين الأوروبي بالراديكالية والجهل والتخلف، وهو ما انعكس على مناصري الحركات اليمينية والمجتمع الأوروبي بشكل العام الذي أصبح ينظر للإسلام كـ "بعبع" يهدد هويته.
وقد ترجمت حالة الاحتقان العامة إلى النظر للمسلمين كدخلاء، ممّا يستدعي استئصال شأفتهم؛ وبالفعل برز مفكرون تبنوا نظريات تطالب باقتلاع الأقليات وتحديداً المسلمين من أوروبا، ومن أبرزهم الكاتب الفرنسي فريدريك جوينوت صاحب كتاب "الاستبدال الكبير"، الذي عبّر عن مخاوفه صراحة بالقول: "إن وقع فعلاً استبدال شعبنا وحضارتنا، فإن التاريخ القادم لن يكون حتماً تاريخنا نحن".
إن هذا الغلو في نظرة بعض السياسيين والمفكرين الغربيين إلى الإسلام، وبروز دعاية كبرى تبنتها ماكينة إعلامية ضخمة، ولّد دافعاً عنصرياً كرس النظرة الفوقية لمن ينتمون لأيديولوجية الـ"العرق الأبيض" بالتحديد. أما النتيجة فهي ردود فعل عنيفة توّجت بالهجوم الإرهابي على المسجدين في كرايستشيرش في نيوزيلندا العام الماضي، كما أبرز الاعتداء المتواصل على الأفراد المسلمين والمساجد مدى تراكم مشاعر الكراهية تجاههم.
كذلك فقد وُلِّد خطاب معادٍ للإسلام يغذيه إما حقد شخصي كما في أحزاب اليمين المتطرف، أو بدافع المصلحة السياسية وتغطية على الإخفاقات الاقتصادية كحال الرئيس الفرنسي، والسؤال الحاضر في كل وقت أين قيم العلمانية التي بنيت عليها أوروبا وحملتها وجعلتها منارة للعلم وقبلة للتنويريين؟
لقد ظهرت العلمانية في أوروبا نتيجة تغول رجال الكنيسة الذين شاركوا الأمراء والملوك الإقطاعيين ترويض وقهر الشعوب مقابل الحصول على نصيبهم من السلطة والمال، مما أكسب الشعوب في تلك الفترة صفة البلادة وتصديق الأسطورة، وتقدمت الرموز الدينية في مكانتها حتى أضحت مقدسة، تملك العلم المطلق ويطلب منها الشفاء وهو ما ربط الدين في الأذهان ما بعد الثورة الفرنسية بالتخلف، ورغم أن تجربة أوروبا وفرنسا تحديداً لا تنطبق على الدول الأخرى فإنه جرى تعميمها.
ومن أبرز من تبنى تلك التصورات كان تياراً شرقياً يؤمن بمبادئ العلمانية الأوروبية متناسياً ومتعالياً على القيم الشرقية، فأصبح هناك حركات تدعو لطرد الدين من الحياة السياسية العربية، وقد ترافق ذلك مع سطوة الحاكم المستبد للشرق الذي يعادي قيم الإسلام في التداول السلمي للسلطة القائم على الكفاءة والقدرة على إقامة العدل، وهو ما أدى إلى احتضان التيار العلماني المنادي بتغريب المجتمع من جهة.
أما من جهة أخرى، فقد حاول الحاكم المستبد أن يبقي على الرابط الذي لا يمكنه أن يقطعه كون الغالبية العظمى من الشعوب تدين بالإسلام وتلتزم بمبادئه ولو بحدها الأدنى. فشهدنا احتضان تيار ديني يؤمن بسلطة الحاكم المطلقة وينبذ الخوض في أهليته ويكيل بمكيال الصبر والرضوخ معه، ومكيال النقد الحاد وتبرير العنف في كثير من الأحيان مع الشعب، وهو ما خلق نظاماً يشبه السائد في أوروبا إبان الحقبة الوسطى.
لقد عمل الحاكم المستبد على تسويق الجانب الروحاني وعداوة الجانب المادي والقيمي للإسلام، وقد التقت مصلحته مع الأنظمة في أوروبا، فأصبح سبباً آخر لتنامي خطاب الإسلاموفوبيا؛ حيث لم نجد أياً من الأنظمة الرسمية تبدي رد فعل حقيقي على كل أشكال الكراهية تجاه الإسلام والمسلمين، بل نجد تنامياً لخطاب معاداة الإسلام من حكام الشرق أنفسهم؛ فعلى سبيل المثال حذر عبدالفتاح السيسي في "مؤتمر ميونيخ" الأوروبيين من المساجد ومن قبله فعل محمد بن زايد.
كما استندت الأنظمة في الشرق على تلفيق مدعاة النظام الديني القائم على الاستبداد أي نظام ثيوقراطي قائم على حكم رجال الدين. والحقيقة هي أن الأنظمة القائمة هي من تستغل الجماعات الإسلامية لتبرر قمعها ومعاداتها للشعوب.
الإسلام ليس المسيحية
لقد أثبت التاريخ أن التهم التي رماها منظرو اليمين المتطرف على الإسلام هي محض افتراءات؛ فقد أنارت أوروبا ظلمتها بنور الأندلس التي قامت من خلال تطبيق أحكام الدين المدنية والتزام قيمه الروحانية. وبالتالي فإن إقصاء الإسلام من الحياة السياسية لن يجلب التقدم المادي كما جلبه إقصاء الكنيسة من أوروبا؛ لأن القارة العجوز أقصت نظاماً ثيوقراطياً فاسداً، بينما تعيش معظم الدول الإسلامية في ظل أنظمة سياسية فاسدة، فالحل إقصاء الطغمة الفاسدة وليس الدين.
إن الواقع المؤلم الذي يعيشه المسلمون في الغرب يدل على عنصرية خطيرة بدأت تفتك بالمجتمع الأوروبي، وهو ما ينذر بازدياد انعزال ليس المسلمين وحدهم ولكن الأعراق والثقافات والأقليات الأخرى التي أصبحت جزءاً من المجتمع الأوروبي. وإن أي خطوات تصعيدية من شأنها أن تعبث بالأمن القومي الأوروبي، وإن الخطاب غير العقلاني القائم على الاتهام ومعاداة الأفراد لانتمائهم يدفعنا للقول بأن ما يصدر ليس رد فعل طبيعي بل عنصرية تعبر عن وجه أوروبا القبيح.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.