على نغمات أغنية المغني حمزة نمرة الشهيرة "يا هناه يا هناه اللي يتعلم عندنا" المتداخلة مع نهيق الحَمِير المارّة بمحاذاة المنزل، كان الطفل البريء صميدة يذاكر دروسه من أجل تحقيق أحلام العائلة في مستقبل مشرّف لها. ففي قريته بأقصى نجوع الصعيد، يصبح للمتعلم هيبة وتقدير كبيران، وسط جموع معدومي الحظ في إكمال رحلتهم التعليمية في بلد العلم والعلماء، مصر.
عرف صميدة المدرسة منذ السادسة من عمره، مثل بقية أقرانه في تلك المرحلة العمرية، وهو لا يتميز بأي شيء عنهم، يرتدي الزي المدرسي ذا اللون الكئيب، وكأنه سقط لتوّه في كوب نسكافيه، يُحيِّي العَلَم معهم مردداً النشيدَ الذي لا يفهم معناه، لكنه يعي جيداً أن جسده النحيل سيتلقى ضربةً مؤلمةً من المُدرّس الواقف بجانبه إذا هو توقَّف عن التغنِّي بحب الوطن؛ لذا يقف نصفَ مستيقظٍ كلَّ صباحٍ يُردد كلمات النشيد الخالد، ثم يتجه مع الجميع إلى الفصول العامرة بكل أبناء النجع وهو يُمسك بيد زميله ويشد عليها، في حالة من الترابط الإنساني الفريد، ضارباً عُرض الحائط بكل تحذيرات منظمة الصحة العالمية.
حالة الترابط الإنساني والالتحام بين مكونات النجع لا توصف، الفصول متكدسة بالطلاب عن بكرة أبيها، لا لأننا لا نملك الإمكانات اللازمة لتوفير مدارس أكبر وفصول أكثر، ولكن لأننا نحب بعضنا البعض جداً، ولذلك لا نعبأ لمعايير ما يُسمى بـ"البلاد المتقدمة" في مجال التعليم، والتي تحاول خلخلة الترابط المصري الفريد.
كان بطل قصتنا يُزامل أغلبَ أبناءِ نجعه الصغير في فصل "تانية تالت" بالدور الأرضي، مدرسة الشهيد أحمد فلوكس الابتدائية المشتركة، قرابة الستين تلميذاً فقط، وبكثير من الزي المدرسي الكئيب، والصهد، والقليل من العلم.
كيف تطوّر التعليم في 5 أيام بدون معلم؟
الترابط الإنساني الكبير لم يترك صميدة يوماً، فهو ابن أسرة معدومة الدخل، تتكون من أب وأم و5 أبناء، تتراوح أعمارهم بين السنتين لأصغرهم والـ21 لأكبرهم. سبعة أفراد يقبعون في شقة صغيرة تتكون من غرفتين وصالة ودورة مياه. والده عامل باليومية، يخرج كل صباح يبحث عن قوت أولاده وسط المنازل والحقول، كل ما يتمناه من الله في كل مساء أن يجد "يوميته" التي توفر له قرابة الـ100 جنيه، يستر بها بيته وأولاده.
يحب الحاج عبدالنبي التعليم ويتمناه لأبنائه، لكنه يحب لهم الخبز واللبن أكثر. عاطفة الأبوة تغلب على الأماني والأحلام، تسرَّب أبناؤه الكبار من التعليم لظروف الأسرة التي يعلمها الطفل صميدة ولا يعلمها وزير التربية والتعليم، اسمه شوقي تقريباً -اعذروني لأن الوزراء هذه الأيام تشابهوا عليّ- الأسرة تدخل سباق التعليم الآن داخل القرية، بابنها الأوسط صميدة، الأمر بسيط بالنسبة له ولأبيه، بضعة كراريس وقلم ومصروفات يجمعها على كل حال في بداية العام، بينما تبدأ الأسرة يومها قبل بداية الدراسة، وتسعد بوقت أُسري خاص على وجبة الإفطار، طبق من الفول الحار، وقرطاس طعمية صنع من غلاف جريدة الأهرام، تنغمس الأسرة في تناول الطعام، ثم تلاحظ الأُم خبراً غريباً على القرطاس، وزير التعليم يصرّح: نظام الدراسة الجديد يعتمد على نظام الأون لاين.
مفيش تعليم.. بس إيه رأيك في النظام؟
مُمسكاً بقرص طعمية ساخن يتساءل صميدة: هو إيه الأونين ده يابا؟! يغرق الأب في جلبابه ولا يدري كيف يجيب، لكنه توقَّع أنه ربما علاج للكورونا أو ما شابه، لكن الأب الذي يتهجّى الكلمات بصعوبة يتوقف عند جملة نظام الدراسة الجديد، ليعلنها صريحة بينما ينظر لقرطاس الطعمية: وهو كان ماله القديم بس يا سيات الوزير؟، بالتأكيد لا يستطيع الوزير الرد في ظل حالة انعدام الرؤية لديه بسبب بقع الزيت الحار الواقعة على صورته المهترئة، يُكمل والد صميدة حديثه للوزير عن النظام القديم جداً للتعليم، يذكر له الفصول المكدسة بالتلاميذ، والمناهج القديمة، وسوء الاهتمام بالمعلم، وضعف التربية وانعدام التعليم، يخبره عن مشاكل يعاني منها صميدة وقبله إخوته الذين تسربوا من سوق العلم إلى سوق العمل، لظروفهم الاقتصادية الصعبة، ومصاريف الدراسة، ولأن العلم لا يُقدّر في بلاد الجهل، وفي المساء تخبره برامج التوك شو على تلفازه ذي الـ14 بوصة أن الدراسة من خلال نظام الأون لاين، هي عن طريق الإنترنت، وهذا الأخير يحتاج لجهاز يسمى الراوتر، ثم اشتراك في شركة الاتصالات، حتى يتسنى لصميدة مشاهدة دروسه عبر يوتيوب، وهذا موقع تواصل اجتماعي قائم على مقاطع الفيديو، لتقليل عدد أيام حضور تلاميذ كل مرحلة دراسية لمدارسهم، في ظل خطة مواجهة كورونا، باستغراب ينظر والد صميدة للتلفاز ولزوجته ثم للتلفاز مرة أخرى، ويصرخ في صميدة : قووم أعمل الواجب اللي عليك يا ولد.
اضحك.. الصورة تطلع حلوة وبسمسم
يخبرنا التاريخ عن موقف طريف في عصر الاتحاد السوفييتي، حين سأل "ستالين" على حين غرة مساعديه عن محصول البطاطس في ذلك العام، وعلى نهج بطانة الطغاة في كل عصر وزمن أجابوه بأنه أفضل محصول للبطاطس منذ زمن بعيد، وعلى عكس الطغاة أصر ستالين أن يرى ذلك على أرض الواقع، فصنعوا له "لقطة" ترضيه ويرضى بها عنهم. فطلب منهم أن يعرف ذلك من الشعب نفسه، فسأل أحد الفلاحين فأخبره أن محصول البطاطس أفضل محصول في تاريخ روسيا، إلى درجة أنه لو وضعنا ثمرة بطاطس فوق ثمرة بطاطس من المحصول لوصلنا إلى الله، فغضب ستالين قائلاً: أيها الرفيق وهل هناك إله؟ فردّ الفلاح: أيها الرفيق وهل هناك بطاطس؟
النظام الحاكم في مصر منذ 2013 يعتمد على سياسة "اللقطة"، بغضّ النظر عن حقيقة الجوهر، يبحث النظام دائماً عن مشاريع ومقترحات تبدأ بكلمة على وزن "أَفْعَل"، فنرى أطول مائدة إفطار رمضاني، وأكبر طبق كشري، وأعرض كوبري، وكل ما هو أطول وأكبر وأعرض، ربما نجد أمثلة أكثر هزلية في المستقبل. لذلك تقرر الحكومة الاعتماد على نظام الأون لاين والتعليم عبر الإنترنت، في حين أن الواقع يقول إن مصر تمتلك خدمة إنترنت سيئة، وتعليماً يحتل مركزاً متأخر جداً عالمياً، لكن للكلمة جرس موسيقي، و"لقطة" خادعة تفضلها الحكومة ويبحث عنها النظام دائماً، بينما صميدة يبحث عن الحاجات الأساسية للإنسان، يريد أن يأخذ نصيبه من الغذاء والسكن والتعليم، قبل أن تأخذ الحكومة "اللقطة" التي تبحث عنها دائماً، بغضّ النظر عمّا يبحث عنه صميدة وأسرته طيلة حياتهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.