لماذا مقاطعة فرنسا لا الصين؟

عدد القراءات
1,186
عربي بوست
تم النشر: 2020/10/28 الساعة 11:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/10/28 الساعة 11:15 بتوقيت غرينتش
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون - رويترز

سؤال تكرر كثيراً من المدافعين عن فرنسا والمحبذين لعدم مقاطعة بضائعها، ولذا قررت أن أقدم إجابتي عنه هنا.

وبداية يمكن تقسيم الاعتداءات على المسلمين ورموزهم الدينية إلى ثلاثة أنواع:

(1) هناك اعتداءات بحرق المصاحف، وهذا يحدث بشكل مستمر خاصة في دول مثل السويد والدنمارك. ولكن الأمر لا يجذب الزخم المرجو من قبل الحارقين.

(2) وتوجد اعتداءات على المسلمين ومؤسساتهم، وهذا أمر منتشر جداً، وآخر أبرز حوادثه ما حدث في بورما وما حدث في نيوزيلندا، وما حدث ويحدث في الصين والهند ودول أخرى كثيرة. وهذه الاعتداءات ولا ريب أفظع كثيراً مما يحدث لمسلمي أوربا. ومع ذلك لم تثر هذه الاعتداءات الزخم نفسه الموجود ضد فرنسا حالياً، ربما بسبب التعتيم الصيني الشامل الذي صعب اختراقه حتى على المؤسسات الإعلامية الكبرى، وربما لأن دولاً عربية وإسلامية شاركت بشكل أو بآخر فيما يحدث هناك.

وأخيراً (3) اعتداءات الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم). وهذه كما نعرف ظهرت بداية في الدنمارك ثم تبنتها فرنسا، وعضت عليها بالنواجذ، وكأنما وجدت فيها ضالتها المنشودة. وهذا أمر غريب بالفعل خاصة أن صاحب الرسوم اعتذر عنها وكذلك فعلت دولته. وهذه الجزئية مهمة في فهم ما يلي.

وهنا توجد أسئلة كثيرة دون إجابة! لاحظ مثلاً أن هناك كما سبق اعتداءات على المسلمين في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية، ولكن المسلمين لم يردوا بالعنف إلا في حالة هذه الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة فلماذا؟ ولماذا رغم ذلك يتمسك الفرنسيون بهذه الرسوم بهذا الشكل الغريب رغم الضربات التي تلقوها نتيجة لذلك؟ ورغم أنها كما سبق ليست البلد الذي أنتجها؟ وأن الدنمارك التي أنتجتها اعتذرت عنها ومنعت نشرها بعد أن رد عليها المسلمون بعنف أيضاً. فلماذا لا تقتدي فرنسا بالبلد الأصلي للرسوم المسيئة؟ ولماذا قام مدرس التاريخ المغدور بعرض تلك الرسوم على تلاميذه الصغار؟

واضح من أحداث المأساة التي تعرض لها المدرس الفرنسي أنه فعل هذا في كل الفصول التي يدرس بها، وأن دأبه كان طلب خروج التلاميذ المسلمين حتى لا يصدموا بالرسوم التي سيعرضها، وهذا تمييز ولا ريب! وفقط في الفصل الأخير رفضت إحدى التلميذات المسلمات الخروج ورأت ما يعرضه الأستاذ من رسوم تهين نبيها. وكانت النتيجة أن شكت البنت لأبيها ما حدث؛ فنشر الأب فيلماً قصيراً على وسائل التواصل انتقد فيه المدرس وسبه. ثم كانت المأساة التي نعرفها الآن.

وكان يمكن الزعم بأن الأستاذ المغدور فعل هذا من تلقاء نفسه، ولكن أظهرت الحوادث التالية خلاف ذلك. لدرجة أن الرئيس الفرنسي قال في مراسم تأبين المدرس المغدور: إن فرنسا لن تتخلى عن الرسوم الكاريكاتيرية! مما يعني أن هذه الرسوم أصبحت الآن ضمن سياسة الدولة الفرنسية. أو ربما كانت ضمنها قبل ذلك بكثير!

وهنا لابد أن نتذكر أن ماكرون في خطابه الشهير عن الحرب ضد الانفصالية الإسلاموية صرح بأنهم طبقوا أجزاءً من خطته للجالية المسلمة على بعض الأحياء التي تسكنها تلك الجالية، وأنهم نجحوا في ذلك بشكل كبير. وكان جزء من الخطة المطبقة يتعلق بالمناهج الدراسية التي طبقت في مدارس هذه الأحياء.

والسؤال الآن لماذا لا يكون عرض الأستاذ للرسوم المسيئة جزءاً من خطة ماكرون السرية التي لا نعرفها؟ خاصة أن ماكرون جعل المدرسة في خطبته تلك الركن الثالث في خطته الاستراتيجية للمواجهة، وقال عنها حرفياً إن "المدرسة هي قلب الجمهورية ومهدها، وقلب فضاء اللائكية. هي المكان الذي نصقل فيه وعي أطفالنا ولذا فهي كنزنا الذي يمكّنا من مواصلة بناء أمتنا الفرنسية".

فالأرجح لدي أن عرض هذه الرسوم الكاريكاتيرية في المدارس كان جزءاً في خطة ماكرون السرية لصقل وعي أطفال الجمهورية، وأن المدرس المغدور راح ضحية لذلك. ومن ثم كانت جملة ماكرون الخاطئة أو الفاضحة بأن فرنسا لن تتخلى عن الرسوم الكاريكاتيرية وأنها لن تتراجع مهما حصل.

وهذه الجملة في رأيي ورأي كثيرين هي السبب الرئيسي للزخم الذي حظيت به حركة المقاطعة لفرنسا في العالم الإسلامي. وهو الأمر الذي لم يحدث – حتى الآن – في حالة الصين. فالجموع المسلمة رأت هنا أن الرئيس الفرنسي نفسه يدعم الرسوم الكاريكاتيرية التي تسيء لنبيها ويتبناها، بل ويفشي سرَّ أنها ربما تكون جزءاً سرياً من خطته للحرب ضد ما أسماه بالانفصالية الإسلاموية. وأن ما يحدث سياسة دولة، وليست عملاً فردياً لمجلة أو لمدرس مسكين. هذه سياسة رئيس لدولة كبرى أخذ عهداً على نفسه بأن يواصل الاستهزاء بنبي دين يؤمن به أكثر من خمسة ملايين من مواطنيه الذين انتخبوه وأوصلوه لكرسي الرئاسة. هذا الأمر غير الطبيعي هو الذي تسبب في تلك النقلة التي حدثت لموضوع الرسوم في فرنسا، وميزتها عن الصين، وأخرجتها من نطاق محلي لنطاق عالمي.

وهذه النقلة المقصودة هنا هي أن مسلمي العالم الذين كانوا يتابعون الموضوع شعروا أن الأمر ليس محلياً وإنما يخصهم أيضاً. وهم يعرفون أنه لو تم الاستهزاء بنبيهم في مكان سيتم الاستهزاء به وبما يمثله في كل مكان. فإهانة رمزية النبي في نفوس أتباعه من أكبر رأس في فرنسا هو الذي جعل الأمر يختلف عما يحدث في الصين من إهانات للجالية المسلمة هناك.

زد على ذلك أن هذه الإهانة المقصودة لرمز الإسلام والمسلمين حدث بدعوى حماية حرية التعبير. لكن الناس كثيراً ما تبين لهم أن موضوع حرية التعبير ليس مطلقاً، وأنه يجري الحديث عنه زيفاً فقط في قضايا دون أخرى. وهذا ما حدث في هذه القضية أيضاً. فعندما استخدم الرئيس التركي حريته في التعبير واستهزأ بالرئيس الفرنسي، ونصحه بأن يعرض نفسه على طبيب نفسي، جن جنون الرئيس الفرنسي وسحب سفيره من تركيا، وهو لا يدري أنه يثبت بهذا أن هناك حدوداً لحرية التعبير يغضب عندها أعتى من يتحدثون باسمها. زد على ذلك أن الناس عندما أحبت أن تمارس حريتها في مقاطعة البضائع الفرنسية استشاطت الحكومة الفرنسية غضباً وهددت المقاطعين حرفياً، واتهمتهم بالتطرف.

وبذلك أثبت الفرنسيون رئيساً وحكومة أن حرية التعبير ليست مطلقة، خاصة إذا استخدمت ضد فرنسا.

والسؤال الآن ماذا تفعل فرنسا؟ ما خطوتها التالية؟

فقط السياسي الفرنسي (جان لوك ميلينشون) الذي حل رابعاً في الانتخابات الفرنسية الماضية هو الذي أعلن، بعد اشتداد حركة المقاطعة، أن ماكرون فقد السيطرة على الوضع تماماً. وسبب ذلك كما مر أن خطة ماكرون لتطويع مسلمي فرنسا للجمهورية العلمانية أدت لنتائج عكسية مؤلمة قد تزداد بمرور الوقت.

ولهذا يرى كثير من العقلاء أن فرنسا تحتاج لخطة عاجلة للخروج من الورطة التي أوقعها فيها ماكرون. ولا شك أن هذه الخطة لن تنجح إلا إذا اقتدت فرنسا بالدنمارك وبدأت بالإعلان عن التخلي عن الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة. وهذا إن لم يحدث طوعاً فقد يحدث بحكم القانون.

إذا كنت وصلت إلى هنا فأرجو أن يكون قد اتضح لك الآن لماذا اختلف الوضع بين الحالتين الفرنسية والصينية؟ ويمكن إجمال ذلك مرة أخرى بأن سبب الاختلاف أن فرنسا جعلت من إهانة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) جزءاً أساسياً من خطتها السياسية لتطويع مسلميها بتحطيم قدسية النبي ورمزيته في نفوسهم، إنها استخدمت الرسوم الكاريكاتيرية أداة لذلك، وإنها بدأت بالفعل في تنفيذ خطتها في المدارس.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبد السلام حيدر
أستاذ جامعي متخصص في التاريخ
أستاذ جامعي متخصص في التاريخ
تحميل المزيد