خرج التطبيع العربي-الإسرائيلي، وتحديداً الخليجي برعاية الإمارات العربية المتحدة والبحرين، للعلن أخيراً بعد سنوات من الاختباء في ظلام دهاليز وأروقة القصور الملكية والرئاسية وأجهزة المخابرات. لذا ليس الغريب هو تطبيع بعض الدول الخليجية المتهافت على إسرائيل، فالقوم بينهم وبين المحتل الصهيوني علاقات راسخة وكان يوم المُنى هو يوم الإفصاح عنها صراحة. لكن العجيب هو "السربعة" في التطبيع، والسربعة لفظة مصرية تعني الحركة السريعة والاستعجال وعدم التركيز في إتمام الأمر. والعجيب أيضاً هو تصدير الحكومات، وتحديداً حكومة الإمارات المتحدة لحالة من "التهافت الشعبي" والرغبة الجامحة على التطبيع مع إسرائيل.. حتى باتت الصدمة واقعاً في الشارع العربي الذي يتساءل: لماذا؟
الصفقة الجديدة
لطالما اهتمت إسرائيل بحدودها شرقاً مع مصر، وشمالاً مع سوريا، وجنوباً مع لبنان والأردن. كان الشغل الشاغل لإسرائيل هو تأمين حدودها مع جيرانها، سلماً أو حرباً. ولقد خاضت إسرائيل عدة حروب لتأمين تلك الحدود منذ نشأتها في أربعينيات القرن الماضي وحتى الحرب الأخيرة مع لبنان في بداية الألفية الحالية.
أدركت بعد ذلك إسرائيل أن عليها وضع حد لتلك الصراعات القابلة للانفجار في أي لحظة وبدأت محاولات التطبيع والاحتواء مع "دول الطوق"، أي تلك الدول التي لها حدود مباشرة معها. وبدأت في إرساء معاهدات سلام معلنة أو تطبيع غير معلن عنه. وظل هذا مسلك إسرائيل طوال السنوات السابقة. وأعطى ذلك المسار وتلك الاستراتيجية الإسرائيلية لمصر وضعاً استثنائياً وسط الأشقاء العرب، لكونها الدولة العربية التي حاربت إسرائيل وانتصرت عليها واستردت منها أراضيها المغتصبة. وهي أيضاً الدولة التي تملك جيشاً تقليدياً يمكن استدعاؤه في حالات الحروب التقليدية ضد أي خصوم إقليميين كإيران أو غيرها من دول إقليمية ممن لهم أطماع توسعية. تلك الوضعية وضعت مصر موضع الند من إسرائيل وموضع الشقيقة الكبرى لأغلبية الدول العربية.
لكن وقع التغيير الكبير في ذلك الوضع وانقلبت المعادلة الإقليمية رأساً على عقب باندلاع ثورات الربيع العربي التي أمل شبابها أن تكون بمثابة طوق نجاة لهم من استبداد النخب الحاكمة وقطيعة مع عسكرة الدولة العربية في عالم ما بعد الاستقلال الوطني. على الناحية الأخرى، رأتها إسرائيل فرصة لإعادة تشكيل المنطقة كلها من جديد عبر تخويف وإرهاب ممالك وإمارات الخليج من تصدير الثورة لهم وما تحمله من تهديد لعروشهم، وهو التهديد الذي رضخت له تلك الإمارات والممالك والجمهوريات. وتم العمل على إعادة تموضع تلك الأنظمة إقليمياً ودولياً وإعادة تعريف انحيازاتها ورؤاها الاستراتيجية وفقاً للرؤية الإسرائيلية.
سارت الأمور بنجاح وبامتياز للتحالف الإسرائيلي-الخليجي في مصر، فاستُدعي الجيش المصري من ثكناته مرة أخرى لتنفيذ الانقلاب العسكري على أول تجربة ديمقراطية في البلاد. وتم تنصيب نظام موالٍ وتابع تماماً للحلف الإسرائيلي-الخليجي الذي ضمن عدم ظهور اعتراضات واحتجاجات دولية واسعة عن طريق تقديم دعم مالي ودبلوماسي غير مسبوق للنظام المصري، ضمن به الأخير الاندماج في المجتمع الدولي دون عقوبات كبيرة أو النبذ.
باستقرار النظام المصري، حدث التحول الكبير… إسرائيل الآن على حدودها الغربية نظام يدين لها بفضل كبير في بقائه. والدول الأخرى، كسوريا ولبنان، تعانيان من ضعف شديد واضطرابات داخلية وانقسامات مجتمعية تعصف بالدولة ككل. لذا لا خطر حقيقياً يهدد إسرائيل، بل استقرار لم تحظَ به منذ زرعها في خاصرة العالم العربي.
بالتوازي مع تثبيت أركان النظام المصري، شنت إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والسعودية ومن خلفها البحرين ومصر حرب استئصال مروعة لمن اعتبرتهم عدوها الأول، الإسلام السياسي. حرباً شاملة، من المحيط إلى الخليج بطول الوطن العربي وعرضه واستطاعت الأموال الخليجية والقمع المصري أن تقضي بالفعل على الرأس في مصر وأن تحاصر وتضعف الأطراف والفروع في باقي الدول. وهي إن لم تستأصل الإسلام السياسي تماماً لكنها وجهت ضربات قاصمة له.
من الشقيقة الكبرى إلى مجرد تابع
لكن تلك الضربات لم تضعف الإسلام السياسي فقط، بل أضعفت مصر أيضاً؛ لأن مصر تحولت إلى تابع في المعادلة الجديدة والحلف القائم على محاربة الإسلام السياسي. تحولت إلى مجرد أداة في يد المال الخليجي والقوة والفاعلية الإسرائيلية في المجتمع الدولي، التي وجدت ضالتها في محمد بن زايد الذي رافقها في حروبها ضد الثورات العربية ومساعيها لسحق الإسلام السياسي كوريث محتمل للعروش الساقطة نتيجة لتلك الثورات. وبدا أن محمد بن زايد راغب وساعٍ في أن يكون اللاعب الرئيسي والوحيد في الساحة العربية بجوار مندوب الغرب في الشرق الأوسط، إسرائيل، ما يعني أخذه للمكان التاريخي الذي كانت تشغله "الشقيقة الكبرى" والتي بدا أنها ليست معترضة على وضعها الجديد، بل وتبارك التغيير طالما أن مصالح عساكرها الجدد أمان.
لكن يبقى السؤال: هل ستبقى الشعوب العربية مستسلمة لما يحدث تماماً؟
هل ستنتفض تلك الشعوب قريباً أم أننا ننتظر حقبة مظلمة جديدة في عالمنا العربي يتعايش فيها الضباع والأسود في عالم تحكمه الضباع؟
ظني أن الإجابة لن تتأخر كثيراً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.