أثار عرض فيلم "لطيفات" على منصة نتفليكس موجة من الغضب في أوساط عريضة من المتابعين بعد اتهامه بخرق منظومة حقوق الطفل، إذ تمّ استغلال الأطفال في مشاهد جنسية صادمة، وذلك بعد أن أقدمت بطلة الفيلم (11 سنة) على تصوير نفسها في أوضاع جنسية وصفها البعض بالمخلة ونشرها على شبكات التواصل الاجتماعي وتقليدها لراقصات التعرّي، كما انتقدت عدّة منظمات عالمية وبعض أعضاء الكونغرس الأمريكي منصة نتفليكس ودعوا إلى مقاطعتها.
هذه ليست الحادثة الأولى التي تستغل فيها براءة الطفولة لغايات تجارية والكسب السريع، فالمتأمل في المحتوى الرقمي لعدّة شركات أو شخصيات معروفة في عالم التسويق سيجد أنّ الأطفال ضحايا الرأسمال الذي نفى عنهم براءتهم وتقديمهم كمضمون جنسي يشجع بشكل غير مباشر على البيدوفيليا.
قبل قرون شكلت أجساد المراهقين والمراهقات مادّة خصبة في أعمال الكاتب الفرنسي ماركيز دي ساد والمتهمّ بالخلاعة والمجون لا سيّما في روايته " 120 عاماً في سدوم" والتي كتبها أثناء سجنه ثمّ حوّلها المخرج الإيطالي بيار باولو بازوليني إلى فيلم سينمائي سنة 1975 وتدور أحداث الرواية حول أربعة أشخاص: دوق وأسقف وقاض وبرجوازي والذين يمثلون النظام السياسي والأخلاقي والاقتصادي في فرنسا في تلك الفترة، وقد سجن هؤلاء أنفسهم في قلعة كبيرة في سان مارتن دي بيفيل مع 46 ضحية معظمهم من المراهقات والمراهقين مع ممارسة كل أشكال العنف الجنسي ضدّهم والذي أنهى حياة البعض منهم.
ربّما انغماس النظام الفرنسي آنذاك في إلحاق كلّ أشكال الأذى بالمواطنين حسب قراءة العديد من النقادّ في رواية ماركيز دي ساد، فقلعة ساد المخيفة شبيهة بمعسكرات الاعتقال حسب قول ألبير كامو، وهذا شبيه بما يحدث اليوم في عالمنا الرأسمالي المتوحش، فالرغبة في جمع المال أطاحت بكلّ المنظومة الأخلاقية لدى الشركات والناشطين في شبكات التسويق والذين جعلوا من جسد الطفل مادّة استهلاكية تخضع لقانون العرض والطلب وطبقاً جنسياً شهيّاً يغذي الهوامات الجنسية للمصابين بمرض عشق الأطفال والبيدوفيلين.
يعود استغلال الأطفال جنسياً إلى المجتمعات القديمة التي كانت تقدّم فتيات قاصرات هدايا إلى كهنة المعبد، وفي كتابها "الجرائم المستحدثة: دراسة معمقة ومقارنة في عدّة جرائم"، ذكرت الكاتبة سحر فؤاد مجيد أصول هذه الظاهرة: "تمتد جذور جريمة التحرّش الجنسي بالأطفال إلى الحقبة التي كانت الفتيات الصغيرات في مختلف المجتمعات حيث يتمّ إهداؤهن إلى المعابد كآلهة جنسية، وعلى الرغم من قدم هذه الظاهرة فإنه لم يسنّ أيّ تشريع خاص بهذا الشأن حتى القرن السابع عشر، إذ أقرّ المشرّع الإنجليزي قانون حماية الذكور من جريمة اللواط بالإكراه وحماية الإناث دون سنّ العاشرة من الاغتصاب القسري". وتشير عدّة مصادر إلى جرائم استغلال الأطفال جنسياً في أوروبا في القرون الماضية من طرف النبلاء أو رجال الدين.
كشفت السلطات الأمنية في أمريكا سنة 1990 عن أخطر شبكة إباحية أطفال والتي كانت مادّة مذكرات المواطن الأمريكي "بين آشلاند" أحد ضحايا هذه الشبكة والذي كان يبلغ الثامنة من عمره إثر خطفه من أحد أفراد العصابة واستخدامه بعد ذلك كطعم في جذب أطفال إلى الشبكة.
وقد روى تفاصيل صادمة كسجنه مع عشرات الأطفال في قبو وتصويره رفقة رفاقه في أوضاع مخلّة لتوفير مادّة جنسية إباحية أبطالها قاصرون.
لطالما كان الأطفال ضحايا الهوايات الجنسية للمرضى عشّاق الأطفال سواء في المحتوى الرقمي أو حتى من قساوسة الكنيسة في أوروبا، وقد شكلت جرائمهم في حقّ الأطفال مادّة خصبة للصحافة منذ 2002 وذلك بعد انتشار رائحة الفضيحة المعروفة باسم "سبوت لايت" في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية.
استغلال الأطفال جريمة تستوجب العقاب في المواثيق الدولية
عرّف مجلس حقوق الإنسان في ورقته الصادرة بعد انعقاد اجتماع الدورة الثانية عشرة سنة 2009 مصطلح استغلال الأطفال في المواد الإباحية على شبكة الإنترنت كالآتي "يعتمد الاستغلال الجنسي على وسائل تقنية عديدة كثيرة ويظهر الطفل وهو يمارس أنشطة جنسية بيّنة، حقيقية أو محاكاة، أو تكشف بعض أجزاء من جسمه بشكل فاحش يثير الرغبة أو اللذة الجنسية"، وتنص قوانين بعض الدول في أوروبا والولايات المتحدّة الأمريكية على معاقبة من يثبت إغواؤهم للأطفال لأغراض جنسية بواسطة الإنترنت وتتراوح العقوبات بين دولة وأخرى بين أحكام بالسجن أو دفع غرامات مالية حسب سنّ الطفل وشكل استغلاله في المواد الإباحية.
يعود استغلال الأطفال جنسياً على وسائل التواصل الاجتماعي مع انتشار شبكة الإنترنت في العالم والتي شكلت معضلة، حقيقية إذ مكنت المجرمين العاملين في تجارة الجنس من تصيّد الأطفال واستدراجهم في شركات البغاء المنظمة، وأوردت اتفاقية أوروبا بشأن الجريمة الإلكترونية والتي دخلت حيّز التنفيذ سنة 2004 فصلاً بشأن الجريمة الإلكترونية واستغلال الأطفال في المواد الإباحية والتي عرفتها "بأنّها موّاد صورّت بطريقة مرئية قاصراً يسلك سلوكاً جنسياً فاضحاً" وعرفت القاصر بأنّه كل شخص يقلّ عمره عن الثامنة عشرة.
الإعلام وجنسنة الأطفال.. الطفولة وليمة جنسية وهامش سريع للربح
أصبحت الصورة في عصرنا اليوم أيقونة تؤسس للخيال الجماعي، فأصبح الجسد صناعة إشهارية تخضع إلى جميع الميول الجنسية، غيرية أو مثلية وبيدوفيليا أيضاً، فأصحاب الرأسمال لا يأبهون كثيراً بمنظومة الأخلاق، فغايتهم الأساسية تحقيق الربح ولو كان هذا على حساب الأطفال الذين كانوا ضحايا بعض الشركات الكبرى وذلك بعد تقديمهم لإيحاءات جنسية في صور ومعلقات ترويجية.
"كان الأطفال دائماً مستقبل الأمة" هذه مقولة شهيرة لدانيال توماس كوك، كُتبت قبل مئة عام وتحوّلت اليوم إلى جملة مفرغة من مضامينها العميقة وذلك بعد انتقالنا إلى مجتمع المستهلكين، فلم نعد نبالِ كثيراً بصور وأحياناً نتجاهل صور فتيات صغيرات مكشوفات الظهر وبمساحيق تجميل لا تتناسب مع ملامحهن الطفولية البريئة، ولكنها تتناسب مع استيهامات وفنتازمات البيدوفيل، والذي تتعامل معه الشركات كزبون وليس كمجرم خطير على الأطفال.
ما يثير الفزع فعلاً هو التطبيع المجتمعي مع جنسنة الفتيات الصغيرات، وهو الذي يرسخ البنى الأبوية التقليدية التي اضطهدت المرأة طويلاً، فقد خلقت عملية جنسنة الأطفال تصوّراً ثنائياً قائماً بين بضاعة هي الفتاة الصغيرة والمستهلك وهو الذكر الذي يرغب الاستهلاك الفرجوي في إشباع كلّ رغباته الجنسية المشروعة وغير المشروعة "البيدوفيليا" وهو ما قوّم قيمة المرأة وأفرغها من كينونتها لتصبح اليوم وسيلة ترفيهية لصالح السطوة الذكورية.
عبيد الاستهلاك.. جلّادو الأطفال
اتسمت الحياة الحديثة بالهشاشة، هشاشة القيم وهشاشة الإنسان وانجراره وراء كلّ متع الاستهلاك وذلك تحت تأثير صورة الإشهار الذي جردنا بشكل أو بآخر من عقلانيتنا ومن إنسانيتنا، فسقطنا جميعاً في دوّامة الاستهلاك.
في كتابه "الحياة السائلة" أدان زيجمونت باومان المجتمع الاستهلاكي الذي أفرغنا من كلّ القيم "يذهب جوزيف ديفيس إلى أنّ النزعة الاستهلاكية والتسليع قد زعزعا استقرار المؤسسات القديمة المسؤولة عن تكوين الهوية (الأسرة والمدرسة والكنيسة وغيرها من المؤسسات)".
للأسف ولدنا في مجتمع يدين بالربح والاستهلاك، مجتمع ذي وجهين يحمل وجه الضحيّة والجلادّ في نفس الوقت ويتعايش معهما بمرونة بالغة، لقد تنصل المجتمع من مسؤوليته تجاه جنسنة الأطفال، وفي نفس الوقت أصبح سوقاً واسعة لهذا المحتوى الجنسي، نستحضر صرخة باومان في هذا السياق: "إننا نعيش في زمن سائل، يعجز الإنسان على العيش دون صنع هواجس ودون تابوهات". لقد تحولت جميع الأشياء في عصرنا الراهن إلى أشياء قابلة للبيع والربح، بدءاً من القيم وصولاً إلى الإنسان حتى وإن كان طفلاً بريئاً، ولكن يحدث أن تباع البراءة وتحقق أرباحاً طائلة لأصحاب الرأسمال.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.