أقزام ومعاقون للضحك عليهم وأطفال في ملابس مثيرة.. كيف ندمر المجتمع بالسخرية؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/10/27 الساعة 15:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/10/27 الساعة 15:10 بتوقيت غرينتش

"السخرية والحرية فوق الجميع، ولكن!"

حرية الرأي والتعبير مكفولة للجميع، دون أي قيود، لكن بشروط. أولاً يجب ألا يكون في ذلك الرأي حجر على حرية الرأي والتعبير، وألا يكون التعبير عنصرياً تجاه أي فئة أخری. وتستلزم حرية الرأي والتعبير أن يتمتع المجال العام بحرية حقيقية تسمح بتبادل الآراء والتعبير دون تحريض أو استقطابات مجتمعية حادة.
ويعد العامل الأخير إحدى أكبر مشاكل عصرنا الحالي، لعدم وجود أسس أو قواعد محددة تضمن عدم تضرر الأقلية سواء السياسية أو الدينية أو العرقية من هيمنة الغالبية، وعدم تضرر المحكومين من الحكام.

في العالم الثالث الذي نعيش فيه لا يوجد أي مظهر من مظاهر الحرية الحقيقية التي تضمن لكل فرد حرية الفعل والقول طالما لا يضر أي شخص. فحرية التعبير عندنا هي حرية الأغلبية في قمع الأقلية، وحرية الحكام في قهر المحكومين، والديمقراطية عندنا لا تعني إلا حكم الأقلية على جهلها وضيق مصالحها للأغلبية.

في بلاد العالم الأول، سواء الجمهورية أو الملكية يكون الحكام ممثلين للأغلبية ويحافظون على مصالح المجتمع ككل. ففي بلاد العالم الأول تكون النتائج الانتخابية متقاربة. أما في بلادنا، فلا اهتمام يذكر سواء وصل الرئيس للقصر بطريقة مشروعة أو غير مشروعة. وما إن يصعد رئيس إلى سدة الحكم حتى يروج لنفسه باعتباره "رئيس الأغلبية" ومن ثم يسارع بمنع التعبير وقمع حرية الرأي، مما يؤدي إلى تحولات مجتمعية كبيرة تصل لانتشار حالة من التطرف العام سواء لأقصى اليمين أو أقصی اليسار. وعلی مر عصور بلادنا، يسارع الحكام بمنع وحجب أتفه الأمور وأعظمها إن استشعر بخطر قريب أو بعيد يهز كراسي السلطة.
وفي بلادنا، يمتلك الناس قدرة جبارة على تحويل مصائبهم لنكات واستخراج الضحكة من قلب المأساة بالسخرية، وبتصوير النظم الحاكمة على أنهم عرائس ماريونيت في يد القوی العالمية أو بالسخرية من قرارات الحكومات من خلال "الميمز" و"الكوميكس" التي تهزأ من عبثية الوضع السياسي والاقتصادي. 

وفي سبيل السخرية قد يفعل البعض أي شيء للحصول على "الضحك" كهدف، وكما يقول الناس حينما تأتي السخرية على جراح الآخرين "عذراً، ولكن البقاء للإفيه" التي يقابلها عالمياً مقولة "السخرية فوق الجميع!". وتُعد مثل تلك المبادئ ذريعة إطلاق النكات والسخرية من كل شيء، وعالمياً قد تطول السخرية مقدسات أو مسلمات، أدياناً وأصولاً اجتماعية ورؤساء وشعوباً، ولا يجد الساخر أي مشكلة في تحويل أي أمر لنُكتة مضحكة، أو أي شخص لصورة هزلية للسخرية.

في الفنون المرئية كالمسرح والسينما والأعمال الدرامية كانت هناك الكثير من القوالب التي يتم الاعتماد عليها لإثارة الضحك، كالسخرية من الأقزام أو إظهار كبار السن والمعاقين جسدياً في صورة مختلين أو عالة على المجتمع. فيظهر الجد مثلاً في صورة نمطية كشخص عاجز وهزيل ينتظر الجميع موته، بينما يعاني كل من حوله من مرضه وعصبيته، يسخر منه الأطفال مع بعضهم البعض كما يفعل الكبار أيضاً منتظرين موت الجد لتقسيم التركة. يتم ذلك في صورة هزلية تم تقديمها مئات المرات دون النظر إلى أثرها على المجتمع فيما بعد، أو تأثيرها في الوعي الجمعي للمشاهدين والمتلقين لتلك الأعمال، وقد بدأ النقد بالفعل يطول تلك القوالب التي كانت في السابق لا تُعد إلا مادة هزلية هدفها الضحك فقط دون النظر إلی تأثيرها.

مدرسة المشاغبين.. من المسرح إلى الواقع 

أذكر في الماضي تأثري أنا وزملائي بمسرحية "مدرسة المشاغبين" التي كانت منهجنا في السخرية من الأساتذة ومُعلمينا، وسبيلنا في الحصول على شعبية جارفة بين أقراننا في الصف والمدرسة ككل. كنا نسخر من المدير، المعلمة، أستاذ التربية الدينية الذي يردد كلامه الذي نعجز عن فهمه في كل محاضرة، نسخر من المعلمات، أو نتغزل فيهن علی حسب درجة الجمال الخارجي الظاهر لنا. كنا نسخر من عامل النظافة وحارس البوابة الكبيرة التي نعجز عن الفرار منها، كلها أشياء ترسخت في وعينا الجمعي كأطفال ضحكوا على أفعال عادل إمام وسعيد صالح ورفاقهما في مدرسة المشاغبين. شاهدنا أيضًا السخرية من الضعفاء والعجائز، وشاهدنا السخرية من النساء على التلفاز في مئات الأعمال باعتبارهن "ناقصات" أو "نصف رجل". كل تلك العوامل نحاول تغييرها الآن بعدما كبرنا من خلال تحصيل الثقافة والبُعد عن الآراء السائدة لأكتشف أن السخرية قد تقتل أيضاً، وأنها بدون إدراك تتحول لأزمة نفسية تصنع متنمرين هدفهم الضحك فقط، ساخرين من الشكل والتوجه والأفكار والأعراق والأديان بطرق غير موضوعية، معلبة جاهزة لصنع ضحكة ونشوة عابرة، بينما تغرز أنيابها في قلوب الضحايا.

يحكي الممثل "بيتر دينكلاج" الذي عرفه الجميع بشخصية "تيرون لانستر" عن مسيرة حياته العاثرة والمليئة بالصعاب لكونه "قزماً". فالتنمر والسخرية من شكله الذي لا يد له فيه كانا رفاق دربه، يحكي عن صعوبات واجهته بسبب الأدوار الفنية الهزلية التي عُرضت عليه منذ اللحظة الأولى التي قرر فيها أن يكون ممثلاً، فعاش في فقر واضطراب مادي ونفسي بسبب رفضه المستمر أن ينضم للعديد من الأعمال الفنية التي تستغل شكله للضحك والسخرية سواء في السينما أو السيرك.

يتشكل وعي الناس من تكرار المشاهدة أو القراءة أو السماع المتكرر، مما يجعلهم يوقنون بأن ما يستمعون إليه أمر من المسلمات التي لا جدال فيها. وأنه يمكن البناء على تلك المسلمات، مما يراكم أفكاراً سامة على أساس هش لدى الأغلبية.

نشاهد علی منصات التواصل الاجتماعي والمنصات المرئية مثل يوتيوب وتيك توك الكثير من السخرية المصحوبة بنسب مشاهدات عالية ورموز تعبيرية مضحكة في ظاهرة ليست بالجديدة، بل إنها امتداد للجيل الذي كان يری في "مدرسة المشاغبين" الجانب المضحك فقط الذي يجعل المرء يحظی بالشعبية بين زملائه، دون رؤية ما يتشكل في وعي المشاهدين من عنف تجاه الضعيف أو سخرية وتقليل تجاه الضعيف.

Cuties واستغلال الأطفال 

عيب آخر قد يكون غير مرئي وهو استغلال الأطفال في المحتويات المرئية على تلك المنصات أو في الأعمال الفنية لكسب التعاطف أو لإثارة الرأي العام الذي يساهم بعدد مشاهداته فيتحول ذلك العمل إلى عمل رائج وناجح من الناحية المادية. وفي مصر أثيرت من فترة قضية كان المتهمون فيها زوجين من صناع المحتوی، والتهمة كانت استغلال ابنتهما التي لا تتخطی عامين في صنع محتوی مرئي علی موقع اليوتيوب لجلب وحلب المشاهدات إلى النهاية.

وفي المجال العالمي، لاحظت ردود الأفعال والضجة العالمية التي صاحبت فيلم "Cuties" الذي أنتجته منصة نتفلكس العالمية التي لا يخفى على أي من متابعيها محاولاتها الدؤوبة في فرض توجهات ثقافية ودينية بعينها لتغيير ثوابت مجتمعية راسخة. لست من أنصار مقولة "دس السم في العسل" لأنها جملة معلبة يستخدمها البعض للتشكيك في كل شيء يهدد رأيهم، ولكن "أداء الأطفال" في فيلم Cuties، لأدوار تتمحور حول التحرش والاغتصاب منذ الصغر أمر شائك جداً ومعقد، ورؤية طفل يتم التحرش به علی الشاشة أو يتم استغلاله جنسياً حتی لو في عمل فني أمر معقد جداً وقد ينتهي الأمر بالتطبيع مع تلك المشاهد!

ويتحدث الفيلم عن صراع بطلته الطفلة "إيمي" التي تعاني من صراع داخلي ما بين الحفاظ على توجهات عائلتها المسلمة السنغالية في المجتمع الفرنسي، وبين توجهات أصدقائها. ثم تقرر إيمي الانضمام لفرقة الرقص رفقة أصدقائها متحدية أهلها.

صاحب الفيلم العديد من الآراء السلبية العالمية، التي كلفت شبكة الإنتاج ما يزيد عن 11 مليار دولار كخسائر بعد حجب الفيلم وتفاعل الناس مع أكثر من تغريدة تدعم إلغاء الشبكة وحجب الفيلم، مثل تغريدة نائب ولاية تكساس مات شايفر التي قال فيها:

"لقد طلبت من المدعي العام في تكساس باكستون التحقيق في فيلم Cuties لانتهاكات محتملة لقوانين استغلال الأطفال والمواد الإباحية للأطفال". 

كما كتب السيناتور جوش هاولي إلی الرئيس التنفيذي للشبكة بحذف الفيلم فوراً من المنصة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سيد عبدالحميد
كاتب مقالات وقصص قصيرة
كاتب مقالات وقصص قصيرة
تحميل المزيد