كيف نجحت حملات المقاطعة الشعبية وغيرت قوانين على مر التاريخ؟

عدد القراءات
4,413
عربي بوست
تم النشر: 2020/10/26 الساعة 09:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/10/26 الساعة 09:44 بتوقيت غرينتش
الأمريكية روزا باركس ترفض التنازل عن مقعدها في مقدمة الحافلة لأنها "سوداء"


لن أخوض في الجدل البيزنطي الدائر منذ عدة أيام حول أسباب الأزمة والمُتسبِّب فيها، وهل يجب تقييد حرية التعبير مهما كانت مسيئة أم يجب أن يكفَّ المسلمون عن الغضب لنبيهم مهما رأوه مرسوماً؟

في هذا الحديث استُهلكت الأحبار والحناجر طوال الأيام الماضية، ولهذا آثرتُ أن أثمّن نقل مستوى الصراع إلى مستويات أبعد وأعمق، فلنحوّل التراشق السياسي عديم الجدوى إلى فِعل اقتصادي مُوجِع ومؤثر.

وإن كانت حرية التعبير في فرنسا تتيح لهم تجسيد نبينا، فلتكن حرية السوق في بلادنا تتيح لنا ألا نشتري شيئاً من منتجاتها.

وحتى لو كانت فرنسا أغنى دولة في الكون وفي غنى عن أموالنا، فإننا سنثبت لها وللعالم بأسره أن العرب لا يزال فيهم رمق الحياة والغيرة في الذود عن نبيهم مهما شتتتهم الخلافات.

وللذين يسألون عن مدى جدوى هذه الإجراءات، يمكنني أن أردّ عليهم بأن التاريخ يخبرنا أنها السلاح الأكثر نجاحاً على مدار الزمن، وخاصة في أيدي الضعفاء ضد من سبقوهم في ركاب الحضارة والعلم، فلم يعد أمامنا وسيلة لمواجهتهم بها إلا أمر بسيط؛ احرمهم من مالك.

أول مقاطعة شعبية مسجلة بالتاريخ

الجنرال البريطاني تشارلز كننغاهم

وتُعدُّ أول مقاطعة شعبية مُسجلة في التاريخ ما قام به المستأجرون الأيرلنديون عام 1880م ضد سياسات الجنرال البريطاني ووكيل الأراضي "تشارلز كننغاهم"، وأتت هذه الخطوة بالرغم من أن مصطلح المقاطعة ذاته لم يكن قد جرى صكه بعد.

فعندما تقاعد الكابتن "بويكوت" Boycott من الجيش البريطاني، عمل وكيلاً لملاك الأراضي في أيرلندا، وفي هذه الأثناء رفع الملاك قيمة الإيجار؛ فغضب المستأجرون، ورفضوا الدفع، فأصدر الرجل أوامره بطرد كل مَن لا يدفع.

اضطرت الحكومة إلى إرسال جماعات عمّالية من خارج المناطق وقوة أمنية من ألف رجل لحمايتهم وفي النهاية تكلّفت قرابة 10 آلاف جنيه إسترليني لحصد محاصيل قيمتها 500 جنيه فقط!

أما تشارلز فقد نُبذ تماماً وأصبح شخصاً مكروهاً بين الناس، وواجه حملة مقاطعة اقتصادية واجتماعية صعبة؛ إذ رفض "المستأجرون العمل بالأراضي، والشركات المحلية التعامل معه"، حتى أن ساعي البريد لم يكن يتسلم بريده.

حاول الجنرال الإنجليزي مواجهة الحملة، من خلال استيراد عدد محدود من العمالة، أو الاعتماد على القليل من المحليين، إلا أن الأمر كان مكلفاً للغاية، وفي ظل ذلك أصبح "بويكوت" بلا مستأجرين ولا مزارعين، فاضطر إلى مغادرة البلاد.

ومن هذا اليوم عرف العالم سلاحاً جديداً فعّالاً لا بارود فيه، وهو المقاطعة التي حملت اسم أول أرضٍ اندلعت منها وهو "Boycott".

مقاطعة مزارع العنب

الفلاح الأمريكي سيزار تشافيز

وهو ما ألهم فلاحاً أمريكياً يُدعى سيزار تشافيز ليتحدّى أكبر مزارع العنب في بلاده في ولاية مينيسوتا عام 1962م.

فبعد 3 أعوامٍ من المفاوضات مع شركات العنب لزيادة مرتبات العمال فشلت جميعها بسبب تعنّت أصحاب هذه المؤسسات.

فنظّم سيزار مسيرة سلمية طولها 340 ميلاً من العمال المضارين سلّطت الأنظار على حقيقة أوضاعهم السيئة وأكسبتهم تعاطف المواطنين، فنظموا حملات مقاطعة شاملة لعدم شراء منتجات هذه الشركات.

ونجح سيزار بالنهاية في مسعاه، وأجبر مزارع العنب على رفع مرتبات عمّالها.

وبعد هذه الواقعة بأعوام ثلاثة ستكون أمريكا على موعدٍ مع مقاطعة شعبية جديدة قُدِّر لها أن تُغيِّر وجه التاريخ.

مقاطعة الحافلات الأمريكية

المواطنة الأمريكية روزا باركس

ففي العام 1965م، رفضت المواطنة الأمريكية السوداء روزا باركس ترك مقعدها من الحافلة التي كانت تستقلها في الحافلة داخل مدينة مونتغمري بولاية ألاباما.

لتُخالف بذلك القانون الأمريكي الذي كان يسمح لأصحاب البشرة البيضاء بالجلوس في الجزء الأمامي للحافلة، أما السود فعليهم أن يجلسوا في الجزء الخلفي، ويحقُّ للراكب الأبيض أن يجبر الأسود على ترك مقعده بالحافلة من أجله.

أثار خبر القبض على روزا ردود أفعالٍ احتجاجية كبيرة، كان أبرزها قرار المقاطعة الشامل الذي نظّمه السود بحقِّ الحافلات، بسبب عنصرية مؤسسات النقل.

وشكّل السود جمعية Montgomery Improvement Association، بزعامة القائد الحقوقي مارتن لوثر كينغ الابن، من أجل تنظيم المقاطعة، لحين إجهاض القوانين العنصرية المعتمدة بحافلات المدينة، والذي عُوقب على ذلك بتعرض منزله للقصف بقنابل حارقة.

ونتج عن عملية المقاطعة الشعبية السوداء، خسارة شركة الحافلات بالمدينة عائدات مالية كبيرة؛ إذ مثل السود نسبة 70% من زبائنها، وبعد أقل من عام، وتحديداً في نوفمبر/تشرين الثاني من العام التالي، أعلنت المحكمة العليا الأمريكية عدم قانونية سياسة التمييز العنصري داخل الحافلات، ومخالفتها للدستور، وصدر قرار رسمي بعد ذلك بإجهاض القوانين العنصرية المعتمدة ضد السود داخل الحافلات بولاية ألاباما، لتنتهي بذلك مقاطعة الحافلات في 21 ديسمبر/كانون الأول عام 1956.  

وفي الثالث من ديسمبر/كانون الأول عام 2017، قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إن "خياطة شجاعة في مونتغمري بألاباما نطقت بكلمة واحدة غيرت التاريخ قبل 62 عاماً"، معتبراً أن روزا باركس بقيت قوية ولم تغادر مقعدها؛ للدفاع عن الحقيقة المحفورة في إعلان الاستقلال: "أن كل واحد منا بغض النظر عن لون بشرتنا، خلقنا الله متساوين".

وبحسب "ترامب"، فإن روزا باركس ألهمت مارتن لوثر كينغ جونيور، وآلافاً آخرين، مقاطعة الحافلات في المدينة، ما أدى إلى تغيير المرسوم بعد 381 يوماً، وسرعان ما انضم الملايين في البلاد إلى الحركة، وساعدوا على تأمين الحرية والمساواة، التي تعد حقاً لكل أمريكي، مؤكداً أن البلاد أفضل اليوم وأكثر عدلاً، والشعب أكثر اتحاداًَ بسبب شجاعة هذه السيدة وبسبب إصرار أنصارها على تمسكهم بالمقاطعة الشعبية لحين تغيير القوانين العنصرية.

مقاطعة المسلمين للمنتجات الدنماركية

مقاطعة المنتجات الدنماركية

وربما تكون أشهر مقاطعة شعبية يتذكرها أبناء جيلنا هي الحملات الإسلامية التي توجّهت إلى الدنمارك عام 2005 بسبب أزمة الرسوم المسيئة للنبي، والتي نشرتها صحيفة "يولاندس بوستن" المحلية.

ومع مطلع العام التالي، أعادت الصحيفة النرويجية Magazinet، والألمانية دي فيلت، والفرنسية France Soir، وأخرى في أوروبا، نشر تلك الصور الكاريكاتيرية، ما أشعل موجة غضب في الشارع الإسلامي، فأُحرقت سفارتا الدنمارك والنرويج في العاصمة السورية دمشق، في 4 فبراير/شباط عام 2006، والقنصلية الدنماركية بيروت، في اليوم التالي مباشرة، وبدأت الدعوات لمقاطعة المنتجات الدنماركية.

وبالفعل أتت مقاطعة المنتجات الدنماركية، التي نفذتها بعض الدول العربية ثمارها؛ إذ تكبدت كوبنهاغن خسائر بلغت 134 مليون يورو (ما يعادل 170 مليون دولار).

ووفقاً للتقارير الإحصائية الدولية فلقد تراجعت صادرات الدنمارك بنسبة 15.5% بين فبراير/شباط "أي مع بدء المقاطعة"، ويونيو/حزيران من عام 2006 بشكلٍ عام في كافة دول العالم، وهبطت نسبة الصادرات إلى الشرق الأوسط تحديداً إلى النصف.

فتراجعت صادرات الدولة آنذاك، إلى المملكة العربية السعودية، التي تعد المستورد الأول لمنتجاتها في العالم الإسلامي بنسبة 40%، فيما انخفضت إلى إيران المستورد الثالث بحوالي 47%، و88% في ليبيا، وسوريا 41%، والسودان 55%، واليمن 62%.

مقاطعة جنوب إفريقيا

كما تُعدُّ المقاطعة التي واجهها نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا واحداً من أقسى أشكال المتابعة التي تعرضت لها دولة من الدول، بعدما امتزج فيها القرار الحكومي بالفِعل الشعبي.

ففي الوقت الذي كانت فيه دول العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تسنُّ قوانين حظر التعامل مع جنوب إفريقيا، كانت الشركات تسحب استثماراتها من البلاد ويرفض السياح السفر إليها، كما استُبعدت جنوب إفريقيا من الاشتراك في الألعاب الأولمبية لعقودٍ طويلة.

وهو ما كان له أكبر الأثر في فرض ضغوط اقتصادية هائلة على فريديرك ديكلريك آخر رئيس أبيض لجنوب إفريقيا، فأفرج عن نيلسون مانديلا من سجنه وتعهّد بإجراء عملية ديمقراطية شاملة سمحت لمانديلا بالفوز في الانتخابات، وتفكيك نظام الفصل العنصري البغيض.

مقاطعة المنتجات الإسرائيلية 

ووفقاً لبحثه "المقاطعة الشعبية" يقول الدكتور كريم العاني، إنه ومنذ الخمسينيات نظمت الشعوب العربية حملات مقاطعة اقتصادية لإسرائيل خسر بموجبها الكيان الصهيوني 70 مليار دولار، كما انخفض الطلب على المطاعم الأمريكية بنسبة 40%.

وبحسب مجلة الإيكونومست الاقتصادية، حينها، فإن هذه المقاطعة "تسبب ذعراً للاستثمارات الأجنبية في إسرائيل أكثر مما يسببه القتال على جبهات الحدود"، وهو ما أجبر إسرائيل على إنشاء جهاز خصيصاً لمقاومة المقاطعة، ولجأت إلى الولايات المتحدة لتمارس ضغوطاً على الدول العربية لتخفف هذه المقاطعة.

المقاطعة الأشهر في التاريخ الإسلامي

صورة تعبيرية

وتبقى المقاطعة الاقتصادية الأشهر في تاريخنا الإسلامي، هي مقاطعة مشركي مكة لأهل النبي اقتصادياً واجتماعياً بعد 6 أعوام من بعثة النبي.

كان مضمون الصحيفة ألا يبايعوا أحداً من بني هاشم، ولا يناكحوهم، ولا يعاملوهم، حتّى يدفعوا إليهم محمّداً فيقتلوه، وتعاهدوا على ذلك، وختموها بثمانين ختماً، واستمر الحصار وطالت مدته، حتى أنفق أبوطالب والنبي صلى الله عليه وسلم مالهما، وكذلك أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، أموالاً طائلة، وكان ذلك بعد ست سنين من مبعث الرسول عليه الصلاة والسلام.

واشتد الخطْب على المسلمين، وعانوا من الجوع والأذى، وأكلوا نباتات الأرض، ولم يكن يَصِلُهُم من الطعام شيء، إلا ما كان يتسرّب سرّاً من بعض المتعاطفين معهم، وحينما اشتد الأذى، جاء الفرج، وأرسل الله، عز وجل، حشرة الأُرضة على صحيفة المقاطعة فأكلتْها، ما عدا ما كان فيها من اسم الله سبحانه، وهبط جبريل عليه السلام، وأخبر النبي بذلك، وكان إيذاناً بزوال هذا الكرب من على أكتاف بني هاشم.

وقد تدفعنا هذه الأمثلة الناجحة إلى تساؤلٍ أكثر اتصالاً بحاضرنا؛ هل تنجح هذه المقاطعة؟

لا شك، أن الأمة العربية تعيش واقعاً من أخطر ما مرّت به في تاريخها، بعدما انقسمت إلى معسكرات متنافرة وتداعى قادتها على قادتها، واستفحل التوغل الأجنبي في أراضينا حتى بات يحكم ويُسيطر ويتّخذ قرارات بالنيابة عن حكّامها، وتتسابق فيه بعض الحكومات على التطبيع مع إسرائيل والتفاخر بذلك.

فهل تسمح هذه الأجواء بتشكيل جبهة عربية شعبية صلبة ضد فرنسا ومنتجاتها مثلما حدث مع الدنمارك قديماً؟

لا أظن ذلك، فللأسف لن يسمح العرب للعرب في النجاح بذلك، ولربما شوّشوا على هذه الحملات بحملات مقاطعة أخرى لتشتيت الانتباه.

وإذا كانت الدول العربية نفسها تعيش حالة مقاطعة فيما بينها الآن، فلا ريب أن الاعتقاد بنجاحها في تنظيم حملة مقاطعة موحّدة سيكون أضغاث أحلام.

ولكن يكفي منظموها فخراً النتائج الأولية التي أحدثتها، وأقلقت قادة فرنسا ودفعتهم لمطالبة الدول الإسلامية بعدم الاستمرار في هذه المقاطعة.

لتكشف لنا أنه برغم ركام الإحباط الذي سيطر على حالنا مؤخراً، يبقى ورد الأمل قادراً على فلْق صخر التشاؤم.

وأن الكلمات قد تُسمع يوماً مَن به صمم.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد متاريك
باحث في التاريخ وعلوم اللغة
باحث في التاريخ وعلوم اللغة، صحفي مصري، عمل محرراً في عدد من دور النشر.
تحميل المزيد