ليس هناك أدنى شك في أن السيسي وأجهزته الأمنية ضالعون في قتل المعارض المصري المفكر اليساري أمين المهدي، يرحمه الله، وهذه الجريمة سبقتها جرائم أخرى مماثلة، كما حدث مع الصحفي محمد منير، يرحمه الله.
وسبق ذلك قتل المئات في السجون المصرية بالإهمال الطبي المتعمّد، منهم على سبيل المثال لا الحصر؛ الدكتور طارق الغندور (12 نوفمبر/تشرين الثاني 2014)، والبرلماني السابق فريد إسماعيل (13 مايو/أيار 2015)، والقيادي بالجماعة الإسلامية محمد عصام الدين دربالة (9 أغسطس/آب 2015)، والأستاذ محمد مهدي عاكف (22 سبتمبر/أيلول 2017)، المرشد السابق لجماعة الإخوان المسلمين، والدكتور محمد مرسي (17 يونيو/حزيران 2019)، الرئيس المدني المنتخب الوحيد في ظل حكم العسكر، والسيدة مريم سالم (22 ديسمبر/كانون الأول 2019)، والقيادي في جماعة الإخوان المسلمين الدكتور عمر عبدالغني (26 يوليو/تموز 2020)، والقيادي الآخر بجماعة الإخوان المسلمين، عصام العريان (13 أغسطس/آب 2020)، وغيرهم العشرات ممن قضوا نحبهم داخل السجون مع سبق الإهمال والتعمد، والمئات على أرض سيناء من المصريين، بحجة مواجهة الإرهاب، ولن تنتهي سلسلة وجرائم القتل المتعمّد، طالما أن هذا النظام المستبد يحكم مصر. هذا ما يخبرنا به تاريخ الاستبداد من الأرجنتين وتشيلي والآن في مصر.
من هو أمين المهدي؟
ولد المهدي في حي الدقي بالقاهرة سنة 1944 لأسرة تنتمي إلى الطبقة الوسطى، وخلال فترة طفولته وشبابه شهد التحولات التي شهدتها مصر تحت الحكم العسكري، وهو ما أثّر بعمق في تحليلاته للأوضاع السياسية والاجتماعية في مصر.
حصل على بكالوريوس كلية الفنون التطبيقية مجال الطباعة، وكان مديراً لمطابع صحيفة "أخبار اليوم" حتى الاستقالة في العام 1980، ثم أسس داراً للنشر، وهي الدار العربية للنشر عام 1985، والتي نشرتْ أول ترجمة عربية لرواية القرن العشرين: "يوليسيس".
نشط في حركات المقاومة منذ نهاية السبعينيات وحتى الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وكان أحد منظمي زيارة وفود النخبة المصرية إلى بيروت عام 1982 لكسر الحصار على المدينة، وخلال تواجده هناك كان من أوائل من دخلوا مخيم صبرا وشاتيلا عقب المذبحة المروّعة، وتمكن من توثيق المذبحة بكاميرته، وكانت الصور التي التقطها أول صور يتم تداولها في الإعلام عن المذبحة.
وله كتب عدّة، كُتب سياسيّة تُشرِّحُ الموقف العربي ضد إسرائيل والعالم، تُرجِم أحدُها للعبرية ودُرِّسَ في جامعة برينستون في ولاية نيوجيرسي الأمريكية.
ومن مؤلفاته: كتاب "الجزائر بين العسكريين والأصوليين" (1991)، و"الصراع العربي الإسرائيلي – أزمة الديمقراطية والسلام" (1997)، و"العرب ضد العالم – الأيديولوجيات الشمولية واللاهوت العربي الإسلامي" (2013)، و"الثورة المصرية بين القلعة والمعبد"، و"حضارات حوض المتوسط: جدل الساحل والداخل".
وله 42 دراسة في جريدة الحياة اللندنية من 1999 إلى 2005، وتوقفت نتيجة ضغط النظام المصري على جريدة الحياة، بجانب دراسات نشرت في العديد من الدوريات، والمواقع بالعربية والإنجليزية.
ونعاه الكاتب الصحفي عبدالعظيم حمّاد رئيس التحرير الأسبق لصحيفتي الأهرام والشروق بقوله: "أمين المهدي هو بحق من عاش من أجل السلام، ومات من أجل المبادئ، اتفقتُ معه كثيراً، واختلفت معه كثيراً – أيضاً – لكن وفاته خسارة كبيرة ومؤكدة".
ماذا فعل أمين المهدي؟
آخر كلمات كتبها الكاتب أمين المهدي عبر حسابه على الفيسبوك، في يوم 6 سبتمبر/أيلول 2020، كتبها معترضاً على ممارسات السيسي ضد معارضيه، وفضح النظام القمعي المصري، وما يقوم به من انتهاكات بحق مصر والمصريين.
في يوم 9 سبتمبر/أيلول قامت قوة أمنية باقتحام منزل الأستاذ أمين المهدي، واعتقاله وهو في كامل صحته وعافيته بدون إبداء أسباب، ليتم إيداعه قسم شرطة الدقي، بحجة قضايا جنائية قديمة وصلت إلى 50 قضية ملفقة، إذ ثبت أنها أحكام سقطت بحكم القانون، وتم تدويره واحتجازه في أقسام الشرطة، على الرغم من أنه رجل في منتصف السبعينيات من عمره في زمن "كوفيد -19"!
وأمضى الرجل 3 أسابيع بين أقسام شرطة بالإسكندرية والجيزة بدعوى أنه مطلوب في قضايا ذات طابع مهني غير سياسي، رغم أن ضابطاً برتبة لواء في الأمن الوطني قاد القبض عليه، وصادر الكمبيوتر الخاص به.
وفي يوم 30 سبتمبر/أيلول وبشكل مفاجئ تقرر النيابة إخلاء سبيله، وهو في بداية حالة صحية شديدة السوء حسب المعلومات التي ذكرها بعض المقربين منه، وازداد المرض غموضاً وقسوة.
وفي 12 أكتوبر/تشرين الأول صباحاً تزداد حالته سواء، ويتم نقله لأحد المستشفيات الطبية، ليتم اكتشاف خلل في كل أجهزة الجسم بشكل غير طبيعي وغير عادى، ويتم الإعلان عن وفاته، وسط اتهامات من مقربين منه بالاغتيال الطبي أثناء تواجده بالمعتقل.
وفي آخر مقابلة له مع موقع "عربي 21″، قال "المهدي" إن "العمليات المسلحة في سيناء لغز كبير مشبوه، في ظل تعتيم كامل أكثر شبهة، خاصة أنها تحدث فقط ضد السكان المسالمين لتبرير الإبادة الجماعية والتهجير القسري لهم، وضد المجندين المساكين الفقراء وشباب الضباط بدون واسطة، وضد الممتلكات المصرية"، قائلاً: "أعتقد أنها فرق موت وميليشيات شكّلها الجيش والسيسي لتنفيذ (صفقة القرن)، وهذا لا يمنع وجود تمرد مسلح محدود"، مؤكداً أن "أكبر جرائم عبدالفتاح السيسي أنه اختزل الدولة بالكامل سياسياً وقانونياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً في الجيش"، وأن "كل الدول التي اختُزلت في الجيوش ذهبت أدراج الرياح، وربما كانت هذه النتيجة هي هدف السيسي الاستراتيجي".
وطرح "المهدي" وثيقة مبادئ كحد أدنى للتغيير في مصر بهدف "إسقاط جمهورية الإقطاع العسكري المركزية مع المحافظة على مدنية وسلمية كل أنواع الحراك والنضال"، مطالباً بـ"إعادة هيكلة الجيش ليصبح جيشاً صغيراً محترفاً حديثاً وظيفته الأساسية التدريب والصيانة، ومناقشة الخطط الدفاعية عن الحدود على أن تكون قواته الضاربة وجسده المقاتل من المجندين الاحتياط، مع إبعاد المؤسسة العسكرية تماماً عن أي مهام أو طوارئ مدنية داخلية".
كانت هذه هي جريمة أمين المهدي، التي من أجلها تم اغتياله!
سيل الدماء لا يجف
هذا الجنرال لم يترك شيئاً يضر بالمصريين في حاضرهم ومستقبلهم إلا فعله، ولا يزال، وأفقر الشعب المصري، وفرّط في مقدراته وأرضه (تيران وصنافير)، وموارده المائية (نهر النيل)، والطبيعية من الغاز في شرق المتوسط وغيره، وقلّص دور مصر على المستوى الإقليمي والدولي، وأذل المصريين في الداخل والخارج، كما أنه أهان كل مؤسسات الدولة، وجعلها خادمة له، لتحقيق أغراضه وأهوائه، وخصوصاً القوات المسلحة، التي حوّلها هي وجهاز الشرطة إلى ميليشيات لمواجهة الشعب المصري، وسيّس مرفق القضاء وحوّله لأداة لقمع المعارضين، وتلفيق التهم لهم بدلاً من أن يقوم بالدور المنوط به لإنجاز العدالة، ورد المظالم إلى أهلها.
أقول على الرغم من الفشل الذي يلاحق السيسي ونظامه في كل مناحي الحياة في مصر، إلا أن ملف الانتهاكات لحقوق الإنسان في مصر يبرز كوصمة عار سوداء على جبين هذا النظام الوحشي الذي لم يترك كبيرة ولا صغيرة إلا وارتكبها ابتداء من الانقلاب على نظام حكم ديمقراطي، إلى المجازر وجرائم القتل الجماعي، والتصفيات الجسدية بدم بارد، إلى جرائم الاختفاء القسري والزج بعشرات الآلاف من المعارضين في السجون، والمحاكمات الصورية، إلى قمع المتظاهرين، وحرية التعبير وغيرها من الحقوق التي أقرتها المواثيق الدولية.
ومن ثمَّ أتوجه بنداء لكل الحريصين على مصر في الداخل والخارج، من المعارضين، حتى المؤيدين للسيسي، وكل العلماء والمفكرين، من السياسيين والنشطاء، من الشباب والنساء، وإلى كل مصري شريف في كل مؤسسات الدولة المصرية؛ بسرعة التحرك لإزاحة هذا الطاغوت اليوم قبل الغد، لأن استمرار هذا الجنرال على كرسي الحكم في مصر لن يضر بالمصريين فحسب، ولكنه يضر بكل المنطقة العربية، ويؤدي إلى تأخرها لعشرات السنين، ويمكِّن للأعداء من كل مقدرات مصر والمنطقة، ناهيكم عن سيل الدماء التي لا تجف في مصر بحجج واهية.
وكما قال الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد: "لرفع الاستبداد يجب توفر الوعي، والمقاومة، والبديل، وذلك عند شعور أفراد الأمة بآلام الاستبداد، ومقاومتهم باللين، والتدريج، وإعداد البديل".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.