ما بين اتفاقات سلام وتطبيع داخلي بين الحكومة المركزية وعشرات الحركات المسلحة والقوى السياسية وسلام وتطبيع مع إسرائيل يظل السودان مشتتاً يعاني من انقسامات حادة حول مساره السياسي وحول السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة والتي ينبغي أن تتبع في المرحلة الانتقالية أو في الأفق المنظور، ومحاولات تخطي آثار وتبعات سياسات نظام الحكم السابق وحدود القدرة على اتخاذ سياسات مغايرة.
في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول الجاري أعلنت حكومة عبدالله حمدوك توقيع اتفاق سلام مع الجبهة الثورية وبعض الحركات المنضوية تحتها، التي تضم خمس حركات مسلحة وأربع حركات سياسية، في حين لم ينضم فصيلان رئيسيان، وهما "جيش تحرير السودان" وجناح عبدالعزيز الحلو في "الحركة الشعبية" إلى مفاوضات السلام، وسط موجات اضطرابات على إثر تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد واحتجاجات في العاصمة والشرق واستقطاب حاد.
"تقاسم السلطة والثروة".. هكذا انفصل الجنوب
ينص الاتفاق وفقاً لبي بي سي عربي على بدء فترة انتقالية في البلاد تستمر ثلاث سنوات بداية من لحظة التوقيع، مع تخصيص ثلاثة مقاعد في مجلس السيادة، وخمس حقائب وزارية في مجلس الوزراء، لقادة الفصائل المسلحة، وحكم ذاتي لجنوب كردفان والنيل الأزرق. وفي جانب الترتيبات الأمنية، قرر الاتفاق دمج قوات فصائل الجبهة الثورية في القوات المسلحة مع تشكيل قوة مشتركة قوامها عشرين ألف جندي لحفظ الأمن في إقليم دارفور، وفقاً للاتفاق سيدفع صندوق جديد سبعة مليارات ونصف المليار دولار، على مدى السنوات العشر القادمة، للمناطق الغربية والجنوبية الفقيرة من السودان.
يرى العديد من المحليين السودانيين أن هذا الاتفاق هو اتفاق "محاصصة صرفة". فالاتفاق أثار احتجاجات مناطق أخرى تم وسيتم تحميلها ضريبة الامتيازات التي ستحصل عليها ولايات دارفور والتي تتيح لها حكماً ذاتياً ومحاصصة في مناصب سيادية لا تختلف كثيراً عما كان يفعله البشير في مواجهة المناطق المنتفضة ضده، بإسكاتها وتهدئتها بتعيين نائب للرئيس من أبناء المنطقة مع توزيع بضعة مناصب على قادة المنطقة، أي مجرد مسكنات آنية لأزمة حكم مستدامة.
لقد كان جوهر اتفاقات البشير مع الحركات المسلحة المتمردة على مدار حكمه يتراوح بين الحل العسكري والمحاصصة السياسية ولم تفلح أي من الخطتين في تهدئة الصراع بينه وبين الجنوب أو الغرب إلا لفترات قليلة جداً. فقد كان اتفاق "نيفاشا" الذي عقده البشير مع الجنوب أيضاً اتفاقاً لتقاسم السلطة والثروة إلا أنه قاد لتقسيم السودان نفسه بعد سنوات من الحروب بين الشمال والجنوب ليترك دولتين إحداهما بلا موارد والأخرى بلا طرق وروابط بالعالم الخارجي فلم تنتفعا من السلطة ولم تتقاسما الثروة بل تحولت تلك السلطة والثروة محل نزاع داخلي في كل منهما قاد لحرب في الجنوب بين سلفاكير ميارديت ونائبه رياك مشار لسنوات ولا تزال تبعاتها قائمة.
العسكريون يتصدرون مشهد التوقيع على الاتفاق
حرص رئيس المجلس العسكري الانتقالي الفريق أول عبدالفتاح البرهان ونائبه حميدتي ورعاتهما الإقليميون على توقيع اتفاق سلام مع الحركات المتمردة، لأنهما بحاجة إلى الشرعية الدولية التي ستنجم عن ذلك الاتفاق، بيد أن مقاربتهم المفضلة في التعامل مع حركات التمرد هي "فرِّق تُسد"، مقدمين المال والأعمال لشخصيات من قادة التمرد من أجل التعاون معهم أفراداً واحداً تلو الآخر.
ليس هذا النهج جديداً فلقد أدامت مثل تلك الاتفاقات لتقاسم السلطة والثروة حكم البشير لعقود رغم أنه نجم عنها انفصال الجنوب واستحالة حكم البشير لدارفور وبعض التمردات في الشمال والشرق على أمل أن تنال بعض المحاصصات، فالرجل عندما خرج من السلطة كان لديه وفقاً لآخر تشكيلة حكومية نائبان وخمسة مساعدين و67 وزيراً ووزير دولة كنتاج مباشر لاتفاقات المحاصصة السياسية المتعددة التي لطالما أجادها دون أن تقود لسلام حقيقي أو تنمية أو استقرار.
لقد كان حضور حميدتي ممثلاً عن مجلس السيادة الانتقالي للمفاوضات ولمرحلة التوقيع على الاتفاق وتصدره أخبار الإعلان عن هذا الاتفاق في معظم القنوات العالمية والعربية بمثابة إعلان أن العسكريين مازالوا يسيطرون على المشهد رغم أن السلطة نظرياً في الفترة الأولى للمرحلة الانتقالية هي للمدنيين بقيادة قوى الحرية والتغيير وحكومة حمدوك. ولقد كان، وما زال، حمدوك تحديداً حريصاً على إسكات الأصوات المطالبة بتصعيد جرائم دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية بأي ثمن، ومن هنا فإنه كان حريصاً على إقرار العديد من الترضيات المالية والسياسية لقادة الحركات المسلحة. فمبوجب المسودة الأولى للاتفاق الذي وقعه حميدتي، ستحصل الفصائل التي وقعت على الاتفاق على 40% من المناصب في حكوماتهم الإقليمية، التي ستحصل على 40% من الإيرادات المحصلة محلياً، وسيدفع صندوق جديد 750 مليون دولار سنوياً لمدة 10 سنوات للمناطق الجنوبية والغربية الفقيرة، كما أن الموقعين من الفصائل المتمردة سيحصلون فيما بينهم على الصعيد الوطني على ثلاثة مقاعد في المجلس الحاكم وخمس وزارات ورُبع مقاعد المجلس التشريعي الانتقالي، البالغة إجمالاً 300 مقعد.
مخاوف العسكريين
يخشى العسكريون من تبعات رئاسة المدنيين لمجلس السيادة والتي من المفترض أن تبدأ في 17 من مايو/أيار 2021 وفقاً للوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية الموقعة في 17 أغسطس/آب 2019، ومن ثم يسابقون الزمن سواء لإنجاز هذا الاتفاق أو لبدء التطبيع مع إسرائيل عملياً، وهي المهمة التي قد تجد معارضة واحتجاجات قوية في حال كان المدنيين في السلطة، مع عدم قدرتهم على ردعها. وتحت دعاوى أهمية رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ورفع العقوبات الأمريكية المصاحبة لها، مما يتصور أن يصاحبه تدفق في الاستثمارات اللازمة سواء لتمويل عملية التنمية أو استحقاقات اتفاق السلام تم الإسراع في توقيع تلك الاتفاقيات مهما شملت من تنازلات أو عوامل عدم استقرار يمكن ترحيلها لاحقاً لتتحملها حكومة حمدوك وقوى إعلان الحرية والتغيير.
حركات معارضة للاتفاق ومعيقات متجذرة
غابت عن المفاوضات المؤدية للاتفاق ومراسم توقيعه حركة تحرير السودان بقيادة عبدالواحد نور، التي تسيطر على أجزاء من جبل مرة في إقليم دارفور، والحركة الشعبية بقيادة عبدالعزيز الحلو التي تقاتل في جنوب كردفان والنيل الأزرق. إذ يطالب الحلو بأن يصبح السودان دولة علمانية، وعبر عن ذلك في تصريحات تحمل طابعاً تهديدياً، إذ قال بأنه لن يكون هناك سلام واستقرار في السودان دون إقرار علمانية الدولة، وهو الأمر الذي شكل عقبة كبيرة منعت الحلو من الانضمام للاتفاق. كما يطالب بحق تقرير المصير لمنطقة النوبة، ولا يوافق على تقديم أي تنازلات من أجل التوصل إلى صفقة توافقية في هذا الصدد، وهي المطالب التي تثير قلقاً كبيراً لدى مجمل السودانيين ولدى أنصار النظام السابق بشكل خاص.
ورغم أن الجبهة الثورية السودانية تعد أوسع تحالف للجماعات المسلحة والحركات السياسية المتمردة لكنها تمثل تحالفاً هشاً، فعلى الرغم من أنها تشترك في العديد من الأهداف مع المتظاهرين السلميين في الخرطوم فإن عناصرها يأتون من خلفيات عرقية ومناطقية مختلفة. ولا يسيطر السياسيون على المسلحين أو العناصر القبلية بشكل كامل ولا تزال محاولات رأب الصدع بين المسلحين والسياسين المعبرين عن تلك المناطق قائمة، حيث ارتفعت طموحات وتوقعات أهالي تلك المناطق بشكل مكثف بعد الثورة وشهدت خطابات شعبوية مغازلة لتلك التطلعات دون مراعاة لظروف الاقتصاد السوداني والمرحلة الانتقالية.
تساؤلات مشروعة
وبرغم أن الاتفاق أعاد ترتيبات المرحلة الانتقالية والتي كان مقرراً لها 39 شهراً بداية من توقيعها في أغسطس/آب 2019، فإن الاتفاق الجديد قد يحمل إرباكاً للمشهد السياسي بإقراره تمديد الفترة الانتقالية بحيث تصبح 36 شهراً تبدأ من يوم التوقيع النهائي للاتفاق في 3 أكتوبر/تشرين الأول، وهو ما قد يحدث أزمة دستورية سواء عند انتهاء مدة حكم حمدوك أو إعادة تشكيل مجلس السيادة ومجلس الوزراء وفقاً للاستحقاقات الجديدة أو عند حلول أجل الفترة الانتقالية المحددة بموجب الاتفاق الانتقالي السابق ما لم تنجز دستورها والمؤسسات التشريعية التي تتطلبها المرحلة الانتقالية. حيث إن إطالة الفترة الانتقالية غير مضمونة العواقب، إذ تتبادل أطراف المرحلة الانتقالية عادة الاتهامات بالتقصير في مواجهة ثورة التطلعات أو تردي الخدمات العامة أو تفكيك حلفاء الثورة وإثارة الصراعات بينهم وتصبح المرحلة عرضة لاستقطابات أيديولوجية وسياسية حادة لا تزال بذورها موجودة بقوة سواء الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين أو بين المدنيين والعسكريين.
أيضاً، إن مثل تلك الترضيات الكبيرة للمناطق التي تعرضت لمآسٍ حقيقية جراء حكم البشير ينظر إليها بعين المطالبة بالمساواة من قِبَل المواطنين في الأقاليم الأخرى فليس حال المناطق الشرقية أو الشمالية أفضل حالاً من الجنوب والغرب ويتساءل المواطنون في الشرق والشمال، إذا كنا جميعاً ضحايا نظام البشير؟ فلماذا ندفع نحن ثمن الترضية للضحايا في الغرب والجنوب؟ لماذا لا يدفعها رموز النظام السابق، أو يتم التسوية على أساس لجان للحقيقة والمصالحة؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.