تكمن مأساة عصرنا في سيطرة التافهين على الخريطة الاجتماعية، ألقِ نظرة سريعة لملاحظة النظام القائم على مكافأة الرداءة على حساب الجودة، قِس ذلك على كافة المجالات، في السياسة والفن والإعلام وخلافه، أصبحت الوجوه المألوفة توصف بمفردات (الجهل، العشوائية، ضعف القدرات، انعدام الموهبة). وبينما يرتقي البلهاء يبقى أصحاب المواهب في الأسفل، تكبلهم أصفاد الجهل والغفلة الراسخين في قلب المجتمع. هذا عالم يصفه الفيلسوف الفرنسي آلان دونو: "لقد تشيّدت شريحة كاملة من التافهين والجاهلين وذوي البساطة الفكرية وكل ذلك لخدمة أغراض السوق بالنهاية".
يقدم دونو نصيحة لمن يريد النجاح في هذا العالم: "لا تقدّمْ لنا فكرة جيّدة من فضلك، فآلة إتلاف الورق ملأى بها سلفاً". وتحت وطأة هذا الواقع تأسس نظام التفاهة في عصرنا الحالي، شيد على الاستسهال والتقليد، احتوت جدرانه الفرد معدوم الموهبة، فهو الأقدر على مواكبة التسطيح، ومسايرة المعايير المتدنية المحببة للقاعدة الأكبر من الناس.
منذ فجر الحضارات القديمة، راود الإنسان حلم الشهرة، سعى لها سيراً في طريق المجد الشائك، ظل الحلم يتناقل عبر الأجيال، يلازم شفرة الحمض النووي للبشر، إلى أن تحققت نبوءة الرسام الأمريكي "آندي وورهول" بظهور وسيط إعلامي يكفل للجميع الشهرة السريعة، خلال 15 دقيقة فقط. لقد تكفلت وسائل التواصل الإجتماعي بالمهمة، أفسحت المجال لفيض من الشخصيات المشهورة، عدد كبير لم يسبق للعالم الواقعي استيعابه في وقت ما من تاريخ البشرية على الأرض. بالطبع ينقسم صناع المحتوى لجيد ورديء، هناك مبدعون يملكون أسباب الوقوف على المنصة لاستقبال التحية والدعم، وهناك من ينطبق عليهم قول الفيلسوف الألماني نيتشه: "يكدرون مياههم كي تبدو عميقة". تلك الفئة الثانية وجدت في السهولة غايتها، لم يعد هناك جدار لتسلقه عندما اختفت المعايير التي تفاضل بين صانع المحتوى والمشاهد؛ فأضواء الشهرة والمال والعلاقات تجذب الكل. لذلك، ونظراً لسهولة تصوير فيديو وبثه عبر المنصات المختلفة، سرعان ما يتحول المتلقي لمصدر، يمضغ الصورة التي رأها، ثم يعيد إنتاجها مشوهة، بصورة بعيدة عن الروح الأصلية، تبحث عن إثارة البلبلة سواء بشيء مخزٍ سينتشر كالفيروس، أو مزاحاً سمجاً. محتوى يفتقد كل سمات الإبداع، لكنه أثبت قدرته على البقاء والاستمرار نظراً لأنه يخاطب أصحاب المعايير المتدنية، سادة اللعبة حالياً.
ظاهرة المحتوى السيئ الذي لا يخضع لأي معايير أو رقابة، تحتاج لوقفة تأمل، نختص بالرصد والدراسة في هذا المقال المحتوى البصري المعروض على تطبيق "تيك توك" و"يوتيوب"، فعندما نعرف أن ثلث مستخدمي التطبيق الأول أقل من 14 عاماً، وثلثي المستخدمين أقل من 30 عاماً من إجمالي تخطى المليار مستخدم، نستشف أين يسير بنا المستقبل، فهؤلاء الصغار أكثر عرضة للانبهار والتأثر بالمعروض، لم يروا من العالم الكثير وحجبت عنهم أبسط الوسائل لإعداد نشء بمقدوره التمييز بين الغث والسمين والترفع عن الضحالة.
"الأطفال الصغار اليوم لا يريدون أن يكونوا أطباء أو محامين. إنهم يريدون فقط أن يكونوا مشهورين".
- ريف كريم طبيب نفسي أمريكي
يقدم الكثيرون الآن أنفسهم كصناع محتوى دون قيمة تذكر مما يقدمونه، فالمعروض يقتصر على تحريك الشفايف على أنغام مهرجان شعبي، سطحي، خالٍ من أي مظهر موسيقي –لكن هذا موضوع آخر- وهناك من يستعرض يومياته مع أسرته داخل المنزل، لا يراعي الفرق بين العام والخاص، يقدم صورة للباحث عن الشهرة والمكسب المادي الذي تخلى عن كرامته وصورته الاجتماعية نظير مئات الألاف من المتابعين ممن هم على شاكلته وينتظر بعضهم استنساخ تجربته عسى يدر هذا بعض الأموال، أو يشبع رغبتهم في الظهور واستراق أعين الناس، إلى آخر عروض التفاهة المختلفة.
ما نحتاجه الآن تقديم سؤال لما يحدث هذا؟ سلم الشهرة المصنوع من الهواء ترتكز قاعدته على أساس متين، وهو الإنسان نفسه. وتلك الإجابة المختصرة حين نبحث عن الدافع.
يقسم عالم النفس الأمريكي أبراهام ماسلو حاجات الإنسان في شكل هرمي، يتدرج وفقاً لأهميتها، أولاً الحاجة الفسيولوجية، الطعام والشراب والنوم والجنس. وثانياً، الأمان وما يرتبط به من السلامة الجسدية والأمن الوظيفي وخلافه. ثالثاً، الحاجة الاجتماعية، تكوين صداقات وأسرة ومعارف ضمن علاقة ودية حميمية. رابعاً، الحاجة للتقدير. وخامساً، الحاجة لتحقيق الذات.
أليست الشهرة قادرة على تحقيق كافة تلك الرغبات؟ وتندرج أيضاً تحت مبدأ الحصول على التقدير؛ إذ يلاقي "المؤثر" على وسائل التواصل الإجتماعي احتفاء من قبل مجموعة من المعجبين. كما يرتبط مفهوم تحقيق الذات بالشهرة وحب الظهور، حين يظن المرء أنه ذو أهمية في هذا العالم الشاسع الذي يخشى من ضآلته فيه.
ما نوع الشعبية التي يحققها هؤلاء؟ وفقاً للبروفيسور ميتش برينشتاين أحد الباحثين البارزين في علم نفس الشعبية بجامعة نورث كارولينا، يقسم الباحثين الشعبية والشهرة إلى نوعين: "التفضيل الاجتماعي"، ويختص بها صاحب الكاريزما، لما يتسم من سحر خاص يجذب الناس نحوه. والنوع الثاني هو "السمعة الاجتماعية"، ويمثل الأفراد اللاهثين وراء الشهرة، لأن يكون معروفًا وليس بالضرورة محبوبًا، بذلك يحصد الاهتمام. ويرى برينشتاين العالم حاليًا يسقط في جرف النوع الثاني، حيث أصبحت الحياة اليومية في العصر الحالي تدفعنا للامتلاك أكثر، لتحقيق قوة أكبر، الشعور بمكانة ونفوذ بين المجتمع.
"مأساة عصرنا تتمثل في كون البلاهة تفكر".
- جان كوكتو، كاتب مسرحي فرنسي
الملتزمون بالمعايير الرفيعة أقصوا أو أصبح وجودهم هامشياً إلى حد ما، إذا قارنا حجم المحتوى الجيد بالسيئ. ومتطلبات العصر الحالي المرتبطة بالكم وسرعة إنتاج المحتوى، أفسحت المجال لغياب الإتقان وتفشي الرداءة، وحيث يظل التقييم في أيدي أناس إما مفلسين فكرياً، أو متهكمين يساهموا بنشر المحتوى بمشاركته واستعراض أنهم أكثر علماً وأرقى ذائقة، عن جهل منهم.
"كان ياما كان يعيش كسالى ومتطفلون، وقد صنعوا قديساً. تأمل فقط أي أذى سيوقعه هؤلاء".
نقل ماكسيم غوركي تلك الجملة على لسان تولستوي، ونحن الآن نلاحظ ما آلت إليه جهود الكسالى. وإذا أملت أن يأتي الغد بالأفضل، أخبرك أن نظام البلاهة ذو نزعة توسعية، يستقطب أتباع يومياً، يبسط نفوذه على ممارسات جديدة. وعلينا "إزعاج البلاهة ومضايقتها"، على حد تعبير نيتشه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.