الصراع الدائر رحاه اليوم في العالم العربي، وفي بعض بقاع العالم الكبير، ليس صراعاً سياسياً يمكن اختزاله في مواجهةٍ، طرفاها هما الإسلاميون والعلمانيون، بل هو صراع أشمل من ذلك وأخطر، إنه صراع بين ما يمثله الدين الإسلامي اليوم وما تمثله العلمانية اليوم.
يمثل الإسلام اليوم صوت المجتمع المحلي المستعمَر والمستغَل والخاضع للهيمنة المفروضة عليه من قِبَل مؤسسات القهر والإخضاع المحلية والعالمية. الإسلام اليوم ليس مجرد عقيدة نظرية أو فلسفة مجردة أو خطاب كلامي فقط، لكنه يشير لمجتمعات المسلمين المتعددة في العالم الإسلامي في آسيا وإفريقيا، عرب وفرس وأفارقة وغيرها من المجتمعات متعددة الهويات ومختلفة الأعراق، لكن ما يجمعها هو كون أغلبها ينتمي للعالم الثالث؛ ليكون الإسلام صوتاً من أصوات هذا العالم الثالث المقهور.
يشير الإسلام في هذه اللحظة من التاريخ إلى بنية مادية، ومجتمعات وقوانين وعلاقات قوة وشبكات اجتماعية خاضعة لعلاقات تنتج التخلف والفقر والضعف. يذكرنا الإسلام اليوم بالقطيعة التي وقعت بين العالم الإسلامي والحداثة بالانخراط الهامشي في مشروع الحداثة الرأسمالي لا عبر الإنتاج، ولكن عبر الاستعمار ذي الطابع العلماني.
مِن هذه الزاوية، يتجاوز الإسلام الحدود المفروضة عليه كمجرد هوية فردية أو اجتماعية محدودة الفاعلية، إلى التواجد في قلب المعركة باعتباره جزءاً لا يتجزأ من ثقافة المضطهد والتابع المستغل القاطن في رحى العالم الثالث. ولكي ينتفض المضطهد ويضع حداً لعمليات الاستغلال والنهب التي يقاسيها، لا بد من تثوير مجتمعاته ورفع وعيها بواقعها، وذلك يمر عبر تثوير الثقافة، وهذا يفرض علينا تعاملاً إيجابياً مع الإسلام.
وعند الوصول إلى تلك الحقيقة، يكتفي الليبراليون والعلمانيون بمقولة تنم عن جهل فاضح وفهم مَعيب: "نحن محايدون تجاه الإسلام ولسنا ضده".
لكن حقيقة الأمر أن هذا موقف سلبي متواطئ مع ثقافة استعمارية علمانية تعادي الإسلام جوهرياً، وتضطهد أبناءه ومجتمعاته وتحمل في فكرها تصورات عديدة عن الإسلام باعتباره ديناً متخلفاً ضد المرأة وحقوق الإنسان والحريات العامة، وتؤمن أنه لا يمكن أن تقترن الحداثة بالإسلام إلا بأن يتم تقليم أظافر الأخير وحصره في دور العبادة على الأكثر.
ولكي يصبح أولئك الليبراليون معبرين عن مجتمعاتهم وصوتاً للمقهورين، يجب على هؤلاء المحايدين مغادرة قاعة "الحياد المتواطئ" إلى مقولة أخرى مضمونها: "نحن مسلمون، منحازون لمجتمعاتنا وواقعها التاريخي ونعمل على تثوير ونهضة هذه المجتمعات في صراعها ضد المركزية الغربية الرأسمالية ونطاقها العلماني المركزي". بمثل هذا المضمون فإن الإسلام لن يكون أصولية فوقية مستلبة للواقع بل سيكون من ضمن روافع ثقافية وحضارية واجتماعية تعيد الحياة لمجتمعاتنا. هذه الدنيوية التاريخية لا تقارب العلمانية الغربية المشدودة بنيوياً على مركزية الرجل الأبيض وحضارته باعتباره مركزاً للعالم، ولا تجعلنا متمحورين حول الذات أو غارقين في أحلام العظمة، لكنها رؤية دنيوية مرتكزة على وعينا بالتاريخ ومحددات الصراع الحالي.
إذا كان هذا ما يشير إليه الإسلام اليوم، فما الذي تشير إليه العلمانية اليوم؟ تشير العلمانية اليوم للحداثة الغربية وقواها الاستعمارية التي تخضع الآخر وتقهره وتجعله مطية لتحقيق أهدافها. تشير العلمانية اليوم إلى استقالة جماعية من طرف مجتمعاتنا عن الواجب التاريخي والأخلاقي لها، وتبني تصوراً بديلاً قائماً على أو أسير التصورات والصور الذهنية الغربية عن الإسلام. العلمانيون عندنا هم إما جزء من جحافل المنظمات الدولية أو بعض طوائف اليسار. علمانيو منظمات المجتمع المدني هم ليبراليون تدور أيديولوجيتهم حول حقوق الإنسان، وتحديداً حقوق المرأة، وتلك الأيديولوجية تكرس الاعتقاد بأن العدو هو الرجل. لكن العدو ليس الرجل إنما البنية السائدة ككل، العدو ليس الرجل لأنه ضحية لذات البنية السائدة التي تقمع المرأة. ووضعية الأخيرة في مجتمعاتنا لن تنهض إلا عبر روافع الثقافة المحلية، وحينها سيكون تحرراً حقيقياً في مجالات السياسة والاقتصاد والكرامة الإنسانية وفوقها الحقوق الأساسية كافة. لكن العلمانية اليوم تعني قطع الطريق أمام تلك الاستجابة الضرورية والتقدمية التي يقدمها الإسلام حين تتطور ثقافته بتطور مجتمعاته وتطور تشكيلاتها الاقتصادية. الشيء الذي تمنعه علاقات التخلف القائمة بيننا وبين الغرب حالياً.
أما علمانيو اليسار ففي مأزق حقيقي؛ لأنهم يتجاهلون حقيقة أن الموقف الذي يدعي الحياد أمام الإسلام هو موقف متواطئ مع الليبرالية. وهم عاجزون عن إدراك الرابط البنيوي بين العلمانية والإمبريالية الغربية. اليسار عندنا في مأزق فكري، وجوهر الموقف اليساري الثوري في مجتمعاتنا يمر عبر تثوير ثقافة الإسلام والمحافظة على جوهره المقاوم للنمط الليبرالي المتعولم.
التاريخ يتحرك تحت أقدامنا، والحركة ضرورية وحتمية لشعوبنا في هذا العالم النيوليبرالي الخاضع لمنطق القوة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.