لم يعد دور التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي أداة فقط للتواصل وتسيير الأعمال التجارية التقليدية وتسويق المنتجات، بل تعداه لخلق مصادر جديدة للدخل، لاسيما انتشار صناعة المحتوى، والتي بدأت بالتدوين، ثم الصور والفيديوهات كأدوات أكثر تأثيراً وانتشاراً، علاوة على خلق التكنولوجيا حالة من الشغف لدى الشباب، وتطلعهم للترحال والسفر وتقليد تجارب الآخرين والانفتاح على العالم.
في مصر، ونظراً لسهولة وزيادة وصول الجمهور لمواقع التواصل الاجتماعي أصبح هناك تزايُد في أعداد الإنفلونسرز وصناع التأثير، ورغم ما يُدرّه هذا النشاط من دخول على أصحابه، وما يسببه من مشكلات تظهر بين حين وآخر كاستغلال الإنفلونسرز لأطفالهم في تقديم محتوى من أجل زيادة عدد المتابعين، ومن ثم الأرباح أو حتى التشهير ببعضهم البعض، فإنه يعد نشاطاً غير منظم لا يُفرض فيه رسوم، أو تراخيص على مقدمي المحتوى. فما هي الأسباب التي دفعت لتنامي ظاهرة المؤثرين، وهل هو مربح؟ وكيف أثرت على سوق الإعلانات التقليدي؟ وهل سيشهد هذا النشاط تنظيماً في مصر على غرار ما فعلته بعض الدول العربية؟
صعود نجم صناعة المحتوى.. بأية عوامل؟
تضافرت العديد من العوامل، منها الاقتصادية والاجتماعية التي عززت من انتشار صناعة المحتوى بالمنطقة العربية، ولا شك أن محتوى صناع التأثير غنيٌّ ومتنوع ما بين محتويات اجتماعية وعلمية وثقافية وكوميدية، أو مواقف حياتية وفنية ساخرة، وهذا المحتوى متجدد ومتدفق باستمرار عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ويرصد موقع Social Blade المئات من قنوات اليوتيوب، والتي يتخطى بعضها مليارات المشاهدات وملايين المشتركين في مصر، ويمكن النظر لأهم أسباب بزوغ نجم هذه الظاهرة كما يلي:
تحقيق الربح والبحث عن الشهرة، فقد اتَّخذ الكثيرون تقديم المحتوى حرفةً لجنيِ الأرباح، وبديلاً عن الوظائف التقليدية، ومنهم مَن تفرّغ من عمله الأساسي، أو كفَّ عن البحث عن عمل تقليدي، لإعطاء وقت أكبر وتطوير أكثر لعمله الخاص بصناعة المحتوى ولتحقيق الشهرة، وجدير بالذكر اتجاه الكثيرين من صناع المحتوى لريادة الأعمال بعد تكوين ثروة أو رأس مال يُمكِّنهم من بدء مشروع خاص، كالمقاهي أو المطاعم ودور الكتب وغيرها.
التقليد واكتشاف الذات، إنَّ ما يُظهره صناع المحتوى من ثراء جرّاء تصويرهم لحياتهم الخاصة بعد الشهرة يدفع غيرَهم إلى تقليدهم. نجاح الكثير من المؤثرين كان دافعاً للآخرين لترك وظائفهم التقليدية، أو دراستهم الجامعية، من أجل التفرغ لهذا النوع من "البيزنس" لجني الأرباح، كذلك ملء الفراغ الذي أحدثته جائحة كورونا والتوجه لصناعة المحتوى. وهذا ساهم في تعزيز وانتشار صناعة المحتوى، وقد يُقَدم محتوى غير جيد فقط من أجل الشهرة وكسب المال، وفي محاولة لاكتشاف الذات وتقديم مواهب خاصة للجمهور، وقد نجح العديد من المؤثرين في لفت الانتباه والدخول إلى عالم الفن.
تحسين مستوى المعيشة، يكتظ العالم العربي بالفقراء، وتصل نسبة الفقر وفقاً للإحصاءات الرسمية في مصر لنحو 32.5%، علاوة على تُوقع ارتفاع معدل البطالة في مصر لنحو 10.5% بنهاية 2020، خاصة في ظل جائحة كورونا، فقد دفع ذلك الكثيرين لمحاولة تحسين مستوى معيشتهم بالدخول في عالم صناعة المحتوى، فلا يتطلب أن تكون مؤثراً سوى هاتف ذكي والقدرة على إنتاج محتوى جيد. فلم يعد هذا العمل مقتصراً على طبقة بعينها، الأمر الذي شمل الكثيرين، منهن "ربات المنازل" ممن اعتدن على تقديم روتين يومي لمشتريات السوق أو تنظيف المنازل وترتيبها، أو تقديم برامج للطهي أو حرف وأشغال يدوية، ومنهن من تحولن إلى رائدات أعمال ومقدمات برامج تلفزيونية محققة لعائد مادي مجزٍ.
العمل عن بعد ومتطلبات سوق العمل الجديد ما بعد جائحة كورونا، يعد العمل لدى التطبيقات الاجتماعية وصناعة المحتوى من قَبيل العمل عن بعد، فقد تسبَّبت جائحة كورونا في غلق النشاط الاقتصادي وتسريح الكثيرين من أعمالهم، فقد كان لانتشار فيروس كورونا بالغ الأثر على الحالة العملية للأفراد المشتغلين بالأسر المصرية، حيث تبيَّن أن حوالي 61.9% تأثرت حالتهم العملية، منهم 26% تركوا عملهم نهائياً (تعطلوا)، ترتفع فيها نسبة الإناث عن الذكور، وذلك وفقاً لعينة بحثية أعدّها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
لوّح وقل وداعاً لعصر الإعلانات التقليدية
إن انتشار خدمة الإنترنت واستخدام التليفون المحمول قد عزَّز من سهولة الوصول إلى المحتوى الرقمي، وكذلك المساهمة في إنتاجه، فقد ارتفع عدد مستخدمي الإنترنت في مصر لنحو 54 مليون مشترك، ويأتي ذلك بسبب انتشار استخدام التليفون المحمول في مصر لنحو 96.7 مليون مشترك بنهاية مايو/أيار 2020، ووصل عدد مشتركي الإنترنت عن طريق التليفون المحمول لنحو 41.42 مليون في مايو/أيار 2020، مقارنة بنحو 36.2 مليون مشترك في مايو/أيار 2019، وذلك وفقاً لتقرير صادر عن وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، علاوة على ارتفاع عدد مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي لنحو 42% من السكان حتي يوليو/تموز 2020، وتُصنف مصر في المرتبة 16 عالمياً في الوقت المنقضي في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وفقاً لتقرير we are Social.
إن هذا التطور والانتشار السريع لخدمة الإنترنت وما صاحبه من استخدام واسع لوسائل التواصل الاجتماعي جعل التخلي عن الإعلانات التقليدية السمة السائدة مع تطور التكنولوجيا، فثمة تغيُّر جذري في سوق الإعلانات، وأغلب الظن أن الأفضلية التقليدية للاعبي الكرة والفنانين، علاوة على أن الوسائل الإعلانية التقليدية كالتلفزيون والمجلات والجرائد الورقية في طريقها للتغير لصالح صناع المحتوى ووسائل الإعلان الحديثة، لاسيما مع سهولة الإعلانات عبر شبكات التواصل الاجتماعي، فما هي إلا خطوات بسيطة للإعلان عبر التطبيقات الاجتماعية المختلفة "فيسبوك، يوتيوب، إنستغرام… إلخ"، فقد غيّرت التكنولوجيا سوق الإعلانات، وأعطت أفضلية لليوتيوبرز والإنفلونسرز ممن لديهم الملايين من المعجبين على مواقع التواصل الاجتماعي وتصل لهم الإعلانات مباشرة، سواء من خلال روابط أو فواصل إعلانية مرافقة للمحتوى.
هذا، وقد اتجهت العديد من الشركات، ومنها الشركات الكبيرة والعاملة في السوق المصري مثل الشركات المقدمة لخدمات الإنترنت "وي، وأورانج"، أو شركات منتجة للسلع الاستهلاكية أو حتى سلاسل المطاعم العالمية "ماكدونالدز مصر"، للاتفاق مع أحد أو مجموعة من المؤثرين "إنفلونسرز"، من أجل تقديم فيديو ترويجي، إذ يجد الطرفان فرصة في هذا النوع من التسويق، حيث يتقاضى الإنفلونسر أجراً، ويستفيد الطرف المُعلن من شهرة "الإنفلونسر" في تسويق منتجه وسرعة انتشار إعلانه.
هل صناعة المحتوى مصدر جيد للربح؟
بجانب ما توفره مواقع التواصل الاجتماعي من شهرة لأصحابها من مقدمي المحتوى، فإنها تدرّ عائداً مقبولاً في بعض الحالات، وسخياً في حالات أخرى، سواء بالحصول على أرباح من إعلانات التطبيقات الاجتماعية ذاتها، أو الترويج لعلامات تجارية معينة، أو عمل مراجعات لمنتجات يتم بيعها عبر تطبيقات التسوق الإلكترونية بمقابل مادي أو سلعي "طلبات، وسوق دوت كوم"، أو حتى إصدار كتب، قد تكون فارغة المحتوى، ولكن يباع منها آلاف النسخ، إذ يعج معرض الكتاب السنوي بالقاهرة بالكثير من كتب صناع التأثير.
يتوقف ربح "الإنفلونسرز" على عدة متغيرات منها؛ مدى شهرة المحتوى وانتشاره بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى البعد الجغرافي، إذ ترتفع قيمة مشاهدة الإعلان في أوروبا عنها في المنطقة العربية، وقد تتراوح أرباح المؤثرين بين مئة دولار ومليون دولار شهرياً.
هل آن الوقت لتنظيم صناعة المحتوى؟
تُمثل صناعة المحتوى، أو ما يمكن أن نُطلق عليه "بيزنس الإنفلونسرز" واحدةً من سمات التقدم التكنولوجي، وواحدة من أوجه التحول الاقتصادي الرقمي، بما تحويه من سوق ضخم للإعلانات وسهولة الولوج إليه، ورغم ما توفره صناعة المحتوى من مصادر للدخل فإنها تظل بعيدة عن التنظيمات المؤسسية بشكلها التقليدي، ولا تحتاج إجراءات قانونية أو حكومية معقدة، وهذا يضمن، بجانب عوامل اقتصادية واجتماعية، ازدهارها ورواجها.
سعى عدد من الدول إلى تنظيم صناعة المحتوى، واشتراط ضرورة الحصول على تراخيص لمزاولته، وكمثال قام المجلس الوطني للإعلام بدولة الإمارات العربية المتحدة باشتراط ضرورة الحصول على رخصة لصناع التأثير، وخاصة مقدمي الإعلانات منهم، برسوم تصل إلى 5 آلاف درهم، وتجديده بنحو 2.5 ألف درهم، وغرامة مالية تصل إلى 5 آلاف درهم على المخالفين، وقد تتضاعف للمثل في حالة التهرب من أدائها.
لم تتعرض مصر لتنظيم هذه الصناعة بعد، وهي بذلك تندرج تحت مظلة الاقتصاد غير الرسمي، أو ما يُطلق عليه اقتصاد الظل، والذي تعاني مصر من تضخم قيمته، إذ يسهم الاقتصاد غير الرسمي بنحو 23.12% من الناتج في مصر، وفقاً لتقديرات صندوق النقد العربي. ورغم ذلك، فقد وفّر هذا النشاط العديد من الفرص لرواد الأعمال لتسويق منتجاتهم وخدماتهم، ووفر أيضاً الكثير من فرص العمل وتنويع مصادر الدخل للعاملين في صناعة المحتوى.
وأثيرت مؤخراً محاولة لاستصدار قانون من البرلمان المصري لإخضاع أنشطة اليوتيوبرز في مصر للضرائب، وقد تم حصر من 300 إلى 400 يوتيوبرز ممن تُحقق قنواتهم دخولاً مرتفعة، لفرض ضرائب عليهم، وهي قنوات متنوعة كقنوات الطبخ والقنوات الترفيهية الأخرى والمطربين والفنانين.
إن التنامي الملحوظ في نشاط صناع المحتوى "الإنفلونسرز والفريلانسرز واليوتيوبرز" وكل أشكال العمل عن بعد يستوجب ضرورة تغيير النظرة تجاه هذا النشاط والعاملين فيه، وتنظيمه وتذليل التحديات التي تواجهه، كسوء خدمات الإنترنت وانعدام الخدمات المالية التي تستهدف العاملين فيه، لضم هذه الصناعة للقطاع الرسمي، وما تمثله من قيمة مضافة للاقتصاد الوطني، فالعمل عن بعد يعد سمة من سمات اقتصاد ما بعد جائحة كورونا!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.