لا أعرف من أين يجب أن ينطلق الكلام وإلى أي مدى مقدر له الجريان في وصف حالة من اللاإنسانية والامتهان، جسدتها واقعة لم تكن الأولى وبخيبة أمل وألم لن تكون الأخيرة، بتعمد وزارة الداخلية المصرية استمرار حبس الإنسان بعد أن قضاء نحْبِه وصعود روحه إلى خالقها، ليواجه حياً على مدار سنوات قسوة وقيد الزنازين، وميتاً بلا رحمة يظل هو وغيره داخل ثلاجات المشرحة مخزنين!
قُبيل احتفالات نصر 6 أكتوبر "حرب 1973 مع الصهاينة" وبالتحديد صباح يوم 3 أكتوبر/تشرين الأول 2020، استيقظت مصر على خبر تنفيذ حكم الإعدام بحق شخصين من سكان محافظة الإسكندرية بموجب حكم إعدامهما في قضية سياسية "أحداث مكتبة الإسكندرية" تحمل رقم 20091 لسنة 2013 جنايات باب شرق، لم تمر ساعات إلا وكشفت منصة "نحن نسجل" عن توافد جثث أخرى إلى مشرحة زينهم بالقاهرة وصل عددهم إلى 15 جثة.
كشفت بعد ذلك المعلومات التي تم توثيقها حول هوية الجثث والقضايا المدرجين فيها عن حضور ثلاث قضايا مختلفة كان لها نصيب من الإعدامات هي كالتالي:
1- قضية أحداث مكتبة الإسكندرية التي تم التنفيذ بموجبها على شخصين.
2- قضية "أجناد واحد" ونُفذ بمقتضاها حكم الإعدام على 10 أشخاص من إجمالي 13 صادر بحقهم حكم إعدام نهائي.
3- قضية "اقتحام مركز شرطة كرداسة" حيث تم تنفيذ الإعدام بحق ثلاثة من إجمالي 20 شخصاً محكومين بالإعدام.
وبالنظر إلى هذه التشكيلة من حيث القضايا والتنفيذ في البعض دون الآخر نجد أن هناك تجاوزاً للعرف الإجرائي المتبع داخل وزارة الداخلية حيث تتم إجراءات تنفيذ أحكام الإعدام مرة واحدة على كل المحكومين في قضية واحدة أمام لجنة تنفيذ واحدة.
العادة التي اشتهرت بها السلطات المصرية على مدار سبع سنوات عند تنفيذ أحكام الإعدام دائماً ما ترتبط بالمناسبات السياسية بالخروج من أزمات أو التسويق لانتصارات أو تهديد المواطنين بسواد المآلات وتجنب احتمالات الانفلات مهما ضعفت إمكانية حدوثه. بحيث يمكن تلخيص دوافع السلطات لتنفيذ الأحكام في هذا التوقيت فيما يلي:
1- تنفيذ أحكام الإعدام بحق المحكومين المودعين في "سجن العقرب" للرد على واقعة الاشتباك الدموي بين أربعة محكومين بالإعدام في سجن العقرب مع قوة أمنية داخل عنبر الإعدام "وينج 4" والتي أسفرت عن مقتل المحكومين الأربعة بعد قتلهم أربعة من ضباط السجن بتاريخ 23 سبتمبر/أيلول 2020.
2- التأكيد بالإعدامات على رسائل تهديد السيسي "اللفظية" للشعب المصري واستحضاره في أحد مؤتمراته قبل تنفيذ الإعدامات بساعات صور الخراب والدمار من الشقيقتين سوريا والعراق، وترسيخ مفهوم الترهيب والتخويف من مجرد التظاهر ضد سياساته التي تسببت في تظاهرات شعبية استمرت لأسبوعين في ديسمبر/كانون الأول الماضي وانتهت بالقتل والاعتقالات كما جرت سياسة السلطة في التعامل مع المظاهرات والاحتجاجات.
دوافع تمثل إجابة واضحة لما يمكن أن يلوح في الأفق من أسئلة حول توقيت الإعدامات وتجاوز إجراءات شكلية مستقر عليها في وزارة الداخلية عن تنفيذ أحكام الإعدام بتشكيلة قضايا لم ينفذ فيها الأحكام إلا في حق المودعين في سجن العقرب أما غيرهم من المحكومين بالإعدام في نفس القضايا المودعين في سجون أخرى ما زالوا يتنفسون ولكني لا أجزم بأنهم أحياء، فلحظات انتظار الموت في بيئة التوحش أشد إيلاماً من الموت نفسه.
كل هذا ولم نبدأ بعد في حديث عنوانه الجد، عن أهوال لا حدود لها ولا حد، لم تتوقف عند تلفيق القضايا لمجرد التظاهر والتعذيب والاختفاء القسري والحرمان من حقوق التقاضي أمام دوائر استثنائية هشة القوام فاقدة للشريعة والاختصاص، لم تنتهِ قصص هؤلاء عند حرمانهم من لقاء ذويهم قبل تنفيذ الأحكام، لم تتوقف الانتهاكات عندما انتُزعت أرواحهم عن أجسادهم على أعواد المشانق في ظلام وظلم خانق، بل انطلقت مرحلة جديدة عنوانها قمة الضلال، ومفادها الإذلال، لأجساد بلا روح، يبكي على فراقهم أحباء تلتهب في قلوبهم الجروح. وبنظرة وداع غير مسموح.
إجراءات تنفيذ خالفت قانون تنظيم السجون في غير موضع منها المادة 65 التي تنص على أن يكون طلب التنفيذ من النائب العام في حين صاحب القرار الفعلي هو الأمن الوطني ووزارة الداخلية، وأن يحدد موعد التنفيذ لا أن يفاجأ الجميع بالتنفيذ الفعلي وتضرب السلطات بالمواد 66 التي نصت على حضور محامي المتهم التنفيذ، والمادة 70 التي كفلت حق أسرة المتهم في زيارته في اليوم السابق للتنفيذ.
تجرع ذوو المعتقلين مرارة ومعاناة في استلام الجثث لم تكن الأولى من نوعها واعتدناها مع كل عملية تصفية جسدية أو تنفيذ الإعدامات، مماطلة وتسويف وتأجيل متكرر غير مبرر وإجبار الأهالي على القدوم أكثر من مرة يومين ليحصلوا على موعد آخر في يوم آخر وهكذا حتى تصدر التعليمات بالإفراج عن الجثث أسيرة الثلاجات.
استمرت عمليات تسليم الجثث لأكثر من ثمانية أيام بواقع جثتين يومياً لم تراعِ خلالها وزارة الداخلية حرمة الأموات ولا راحة ذويهم المكلومين بأن تُعلن عن جدول بأيام تسليم الجثث بالأسماء حتى لا تضطر الأسر للقدوم يومياً مادامت اعتمدت جدولاً منعدم الإنسانية في تسليم الجثث، بل أفاضت الوزارة من شر فعالها بتعمد تضليل الأسر وإبلاغهم يومياً بمواعيد استلام وهمية يفاجأون مع حلول كل موعد بموعد جديد.
لا يمكن التذرع بأي سبب يرمي إلى السماح أو التبرير للسلطات بخرق واضح للمادة 72 من قانون الإجراءات الجنائية التي ألزمت السلطات بتسليم جثث المنفذ في حقهم حكم الإعدام لذويهم ودفنهم بمعرفتهم، والدفاع عن كل هذه الإجراءات المؤلمة بحق جثث لأشخاص تجرعوا شتى صور التنكيل والتعذيب حتى الموت، وتعمد إحداث أكبر قدر ممكن من الإرهاق البدني والنفسي لذويهم، إيذاء لا يمكن وصفه فهناك ما هو أصعب في تفاصيله يغلق كل الأبواب أمام من تسول له نفسه بالتبرير للسلطة أو قبول إجراءات استمرار حبس ومعاقبة الأموات.
فهناك من بين المحكومين بالإعدام أشقاء وأقارب تعمدت السلطات تسليمهم فرادى على أيام متباعدة، وبدلاً من أن تكون إجراءات واحدة ومشواراً واحداً وجنازة واحدة تغلق بها الأسر صفحات موجعة وتضع نقطة نهاية لها بتكريم المتوفى وإيداعه في مثواه الأخير.
ففي قضية "أجناد 1" كان الشقيقان "محمد ومحمود صابر رمضان نصر" من بين المنفذ فيهم حكم الإعدام ولكن السلطات رفضت تسليم الجثامين لأسرتهما على مرة واحدة حيث تم تسليم جثمان "محمد" في 7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، أي بعد تنفيذ الحكم بأربعة أيام، ثم سلمت جثمان شقيقه "محمود" في 9 أكتوبر/تشرين الأول، وعلى صعيد قضية كرداسة فإن الثلاثة المُنفذ فيهم الحكم أقارب، ومن نفس العائلة، وكان من المنطقي أن يتم تسليمهم دفعة واحدة، وأن تُشيّع الجثامين في جنازة واحدة، وبالتالي التخفيف على ذويهم وأقاربهم ومحبيهم وتجنيبهم مدداً طويلة من الانتظار المؤلم، ليتسلم الأهالي جثمان أحمد الشاهد في 5 أكتوبر/تشرين الأول، ثم جثمان الأستاذ سعيد صالح في 10 أكتوبر/تشرين الأول، وأخيراً جثمان شحات الغزلاني في 11 أكتوبر/تشرين الأول.
واقعتان كان بالإمكان أن تشيع فيهما خمسة جثامين في جنازتين فقط بدلاً من خمس جنازات، تسبقها عشرات المشاوير من وإلى المشرحة، بدلاً من أن تزيد وتتضاعف معاناة الأسر، كان بالإمكان أن تخرج مأموريتان أمنيتان برفقة الجثامين بدلاً من خمس مأموريات أمنية، تنطلق مع انطلاق سيارة الإسعاف من مشرحة زينهم، مروراً بقسم الشرطة الواقع في محل سكن ومكان دفن المتوفى، وصولاً إلى المقابر.
مَوَاكب أمنية تُحاصِر فيها سيارات الأمن المصفحة وأفرادُها المدججون بالسلاح سياراتِ الإسعاف التي تحمل الجثث، لضمان عدم قيام ذوي المتوفَّى بالنظر إليه ودفنه حتى دون نظرة وداع مشروعة، وتحدّثت عن ذلك والدة الشاب "عبدالله السيد"، الذي دُفن في 9 أكتوبر/تشرين الأول، حيث روت قسوة تعليمات الأمن الوطني لها بعدم السماح لها برؤية فلذة كبدها، وكذلك حظر تشييع جثمانه على أكثر من 5 أشخاص هن شقيقاته فقط! الرابط
فما هو الخطر الداهم المنتظر من جثث قتلتها الدولة حتى تستمر في حبسهم بعد الممات لأيام وأيام داخل ثلاجات المشرحة، ثم تفرض عليهم حصاراً أمنياً مشدداً لا ينفضّ إلا عند قبورهم، بعد الدفن وانصراف المشيّعين المحدد عددهم من قِبل الأمن الوطني؟ بكل تأكيد لا يوجد خطر، بل السلطة وصلت لدرجة غير معقولة من التفنن في إحداث أكبر قدر ممكن من الضرر والأذى النفسي والبدني والتلذذ بمواجع مواطنيها.
لم تُمثّل تصرفاتُ الدولة خرقاً للقانون والقيم الأخلاقية والإنسانية بإهانة الجثث وامتهان ذويهم، بل وصل الأمر إلى تعمُّد إهدار المال العام من خلال تكرار تكليف مأموريات أمنية ضخمة بدون الحاجة لها، من حيث الأفراد ووسائل النقل مع كل جثة من المشرحة حتى قبره، والإفراط في إهدار مئات الآلاف من الجنيهات بغير حاجة، وإذا ما فرضنا جدلاً ضرورة مرافقة قوات الأمن للجثث، فلماذا لم يتم تسليم جثامين أشقاء وأقارب في مرة واحدة، وبدلاً من أن تخرج 5 مأموريات تخرج مأموريتان، الأولى نحو مقابر مدينة نصر حيث مثوى الشقيقين الأخير، والثانية إلى كرداسة مثوى الأقارب الثلاثة.
للأسف الدولة التي تبحث ليل نهار على كيفية فرض رسوم وضرائب على المواطنين والتفنن في استنزاف مواردهم لتغطية الفشل الاقتصادي أو الإنفاق على مشروعات ترويجية للسلطة منعدمة الفائدة على الطبقات الكادحة، نجدها تُغدق بغير حساب على بنود لا جدوى منها في القطاع الأمني، لا لهدف سوى تلبية رغبة السلطة بإذلال المواطنين والإثخان في دمائهم، والرقص على مواجعهم، وشراء ولاء الجيش والشرطة بمزايا مادية لا تتوقف.
وما إن تم الإعلان عن تسليم آخر جثة من المُنفذ فيهم حكم الإعدام الـ15 شخصاً، حتى خرجت أخبار بعدم تسليم جثامين الأربعة الذين قتلوا في اشتباك داخل عنبر الإعدام بسجن العقرب، في 23 سبتمبر/أيلول 2020، وهو ما يعني أنه تم حبس الجثث لما يقرب من ثلاثة أسابيع بنفس الدافع التنكيلي التوحشي، الذي تنتهجه السلطات المصرية مع الإنسان حياً وميتاً!
إن غياب مفهوم الدولة على هذا النحو في سلوكيات السلطة وانتهاجها لن يتوقف عند خرق القانون وتدنيس القيم الإنسانية، وانتهاك حرمات الأحياء والأموات على يد عناصر حكومية اعتادت الانتهاكات دون خوف أو تردد، بل سيفتح الأبواب أمام صور جديدة ومستحدثة في فنون التعذيب والإيذاء لم تعرفها أقبح أنظمة التوحش في تاريخ البشرية!
ننتظر برجاء الحالمين أن تُغلق هذه الصفحة السوداء في تاريخ الإنسانية، ويؤذن في مصر للقانون والعدل بأن يحكم ويسود، فلا طاقة لنا بمزيد من هذا القهر والجحود.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.