أثناء عودتي من مدينة مرسى مطروح إلى مدينة الإسماعيلية خطر ببالي تساؤل كروي، هو للدقة معضلة قديمة لم يُجَب عنها بعد: لماذا لا يبرع لاعبو كرة القدم في تحليل كرة القدم؟ جميعنا نلمس السطحية المفرطة ونسمع الكليشيهات المكررة الصادرة من استوديوهات التحليل الكروية المكللة بالنجوم، لكن كيف للاعب لم يعاصر أحداثاً كروية فحسب، بل كان جزءاً منها ولربما كان بطل العديد من تلك الأحداث، أن يظهر على الشاشة بذلك العجز اللافت في تفسير ما حدث بالمباراة؟
سرقة بالاتفاق
قبل أن أجيب عن السؤال الذي وضعته في السطور السابقة، دعني أقص عليك كارثة أو فضيحة، تكشف لك فداحة الموقف. لديَّ صديق عزيز كان يعمل محللاً فنياً في إحدى القنوات المصرية الفضائية الشهيرة، ويعمل في برنامج يقوده إعلامي كبير بصحبة نخبة من أساطير ونجوم الكرة المصرية، جالسين إلى المائدة أمام الكاميرات بصفتهم محللين وخبراء. في الوقت نفسه كان صديقي يحلل المباراة أيضاً، لكن هناك، خلف الكواليس، يشاهد ويحدق جيداً في المباراة، ثم يدوّن الملاحظات على ورقة؛ ومن ثم تلف الورقة الاستوديو وتجلس أمام النجوم، يحفظون ما بها ومن ثم يلقونه على الهواء للجماهير المتعطشة إلى فهم وتفسير نتيجة المباراة! إحدى المشكلات كانت تتمثل في أن بعضهم لا يستطيع حفظ الكلام المغشوش، لكن لكل مشكلةٍ حلٌّ، والتكنولوجيا سهَّلت كل جوانب الحياة، وضمنها الغش، فكان يتم تلقينهم في آذانهم عبر السماعات، لتكتمل أركان جريمة سرقة أدبية شنيعة، بوضع بصمات المجني عليه على المسروقات. ربما وافق صديقي؛ لحاجته للأموال، أو ربما باع مجهوده لينال فرصة ذات مرة. لكن الأكيد أنهم ضيَّقوا الخناق على الموهوبين حتى صاروا يسرقون أنفسهم بنفس راضية.
بعد استماعك لتلك القصة، ربما أشفقتَ على المسروقين، واستحقرتَ السارقين، من تسببوا في تشويش وعي المشاهد بجهلهم المغلَّف بالجرأة. جرأة لا مصدر ولا أصل لها سوى أنهم ارتدوا قميص هذا الفريق أو آخر في فترة زمنية ما. أما عن إجابتي الشخصية عن السؤال الأصلي، لماذا لا يبرع لاعبو كرة القدم في تحليل مباريات كرة القدم؟ فتنقسم إلى جزأين.
الجزء الأول هو الدراسة، كيف ستحلل النظام الدفاعي لفريق ما وأنت لا تعرف أنواع الأنظمة الدفاعية، ولا النقاط المرجعية لكل منها؟
كيف ستحلل هيكل الفريق في الحالة الهجومية وأنت لا تعرف المبادئ الهجومية الأربعة؟
كيف ستحلل منظومة لعب مركزي وأنت لا تعرف مبادئها الأساسية والفرعية؟ بم ستجيب إذا سألك أحدهم لماذا اللعب المركزي هو أبو الأساليب؟
بالتالي، لا بد أن يمتلك المحلل الحد الأدنى من العلم بأساسيات اللعبة.
الجزء الثاني من الإجابة متعلق باللغة والمفردات اللغوية المستخدمة، يقول الفيلسوف واللغوي الألماني لودفيغ فيتغنشتاين: "حدود لغتي هي حدود عالمي". كلما امتلك المحلل مفردات ومعاني ومصطلحات لغوية عديدة، تمكَّن من شرح وتبسيط ما يريده بسهولة، ومن ثم تصل الفكرة للمشاهد واضحة ناصعة. المحلل لابد أن يقرأ في الأدب وعلم النفس والاجتماع ولَم لا يقرأ الفلسفة، حتى يتسع أفقه، ويحصد لغة قوية بها من جودة الكلمات الأدبية ما يساعده على مهنته. فكلما ازداد المحلل بلاغة ازداد ثقلاً وحصافة. ذلك يشمل المصطلحات الكروية أيضاً.
على سبيل المثال، وصفُ لاعبَين مثل أندريا بيرلو وماكليلي بأنهما "لاعبا خط الوسط" أقل دقة من وصفهما بـ"لاعبَي ارتكاز"، والوصف الأخير أقل دقة من وصف بيرلو بالـ"ريجيستا" وماكليلي بالـ"مدمر هجمات الخصم" أو الـDestroyer باللغة الإنجليزية. الوصف المذكور زصف آخر أكثر دقة وشمولاً، لأنه وصف لمركز اللاعب في أرضية الميدان ووصف للوظيفة التي يؤديها أيضاً.
هنا انتهت إجابتي، لنذهب لإجابة المحلل والمدرب الموريتاني الشاب محمدي العلوي عندما طرحت عليه السؤال ذاته.
يقول العلوي: "اللاعبون ليس بارعين في التحليل، لأنهم مارسوا اللعبة انطلاقاً من الحدس، يعرفون ماذا يفعلون دون الحاجة لتحليل قرارتهم، لذلك يعتقدون دائماً أن ما يحدث في الملعب أحداث تلقائية ليست بحاجة لتحليل أو لا يمكن تحليلها. اللاعبون الذين تميزوا في التحليل كانوا منتبهين أثناء مسيرتهم الكروية، وفطنوا إلى أن ذلك الحدس غير كافٍ ولا يمكنه تفسير كل شيء. ولذلك قرروا الاهتمام بالسلك التدريبي أثناء مسيرتهم الكروية، لذلك كانوا أكثر وعياً بالمواقف التي يمرون بها. يمكنك أن تأخذ أحمد حسام ميدو كمثال، ويمكنك كذلك سماع معاناة المدرب ماسيمليانو أليغري من تساؤلات لاعب بحجم وقيمة سيدورف المزعجة أثناء توليه تدريب فريق آي سي ميلان".
إجابة العلوي كانت مختصرة وبلغية دقيقة لأبعد الحدود.
ميدو محلل جيد ليس لأنه كان لاعباً جيداً، بل لأنه قرر أن يكون محللاً عندما كان لاعباً، ولأنه اتجه للدراسة في جامعة كرة القدم في ويلز. وعبر سيدورف للصحافة بأن أليغري هو السبب في رحيله عن ميلان، بعدما ارتبكت العلاقة بينهما بسبب كثرة تساؤلات سيدورف.
إجابة إيطالية
إذا كانت ممارستهم للعبة نابعة من فطرتهم، ولا تمكنهم من تفسير القرارات النابعة من الغريزة والسجية بدقة، لا يجب أن نندهش من عدم قدرة "المحلل الفني" محمد أبوتريكة على تفسير ما يحدث في مباريات الدوري الإنجليزي بشكل أكثر عمق ودقة، مما يقوم به محلل شاب على صفحته الشخصية على فيسبوك، رغم امتلاكه لرؤية ومهارات فنية عظيمة.
أسطورة التدريب الإيطالية أريغو ساكي لديه إجابة قاطعة وحادة أيضاً عن ذات التساؤل، قال الإيطالي ذات مرة ما معناه، إن حياتك كرياضي ليست بالضرورة أن يكون لها شأن في التدريب أو التنظيم أو الإدارة، بل هو فكر وموهبة وفطرة لن تنالها ولو حتى لعبت 100 عام مع كل منتخبات العالم.
وأكمل حديثه بأن كونك لاعباً سابقاً للمنتخب أو النادي الفلاني لا يمنحك الحق بأن تلتصق بالرياضة وتخرب فيها. المدرب هو المايسترو الذي يرسم الإيقاع، يجب أن يسعى ليحصل على الجودة القصوى، لا على السطحية والسهولة، فأنا لا أذهب إلى الفرن من أجل الفران، بل من أجل الخبز.
إجابة ساكي كانت عظيمة لأبعد حد ممكن، فإليك عزيزي القارئ كل تلك الأسباب، ربما لم تكن كل الأسباب لكنها على الأقل كافية لتوضيح الصورة نوعاً ما، بما يجعلنا نقر بأن الميكانيكي ميكانيكي، والسائق سائق، واللاعب لاعب كرة قدم فقط، وعندما يقرر أن يصبح محللاً أو مدرباً، عليه أن يسعى لذلك ولا يرتكز على سمعته كلاعب فقط.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.