هل تزيد السوشيال ميديا من شعورنا بالوحدة أم تخففه؟

عدد القراءات
1,364
عربي بوست
تم النشر: 2020/10/20 الساعة 15:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/12/09 الساعة 13:08 بتوقيت غرينتش

يوم حافل على الإنترنت، مئة صديق على فيسبوك أرسلوا إليك تمنياتهم بعيد ميلاد سعيد، وتغريدة الرأي التي نشرتها على تويتر تعقيباً على حدث سياسي مهم حظيت بعديد من إعادات التغريد، والإطراءات على أحدث صورة سيلفي على إنستغرام جعلتك تتبختر فرحاً، ولكن ما إن تضع هاتفك جانباً، لا يسعك إلا أن تلاحظ وجعاً وفراغاً لا يمكن وصفهما إلا بكلمة واحدة: الوحدة.

وسائل التواصل الاجتماعي واحدة من أعظم التطورات في تاريخ البشرية. لقد ربطت البشر كما لم يحدث من قبل، مكَّنتنا من أن نرى بسرعةٍ ما يحدث في مجتمعاتنا وحول العالم لحظة بلحظة، وساعدتنا على مناقشة القضايا الاجتماعية وحتى تنظيم الاحتجاجات والثورات.

ومع ذلك، هناك دراسات تشير بقوة إلى أنه مع كل الفوائد التي تجلبها وسائل التواصل الاجتماعي، فإنها أيضاً تُسبب بعض مشكلات الصحة العقلية، وعلى الرغم من أننا (مُتَّصلون) على الدوام، فإننا نشعر بالوحدة وسط الزحام. 

لا يمكن أن تتحمل التكنولوجيا كل اللوم على وحدتنا، فزيادة معدلات السفر والهجرة بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية، والوظائف غير المستقرة، والطلاق، ووفيات الأحبّاء، كلها مشاكل لا فرار منها وتؤثر على صحتنا العقلية بشدة، مما يضعنا أمام معضلة البيضة أم الدجاجة: هل نشعر بالوحدة بسبب الوقت الذي نقضيه على الإنترنت، أم أننا نقضي كثيراً من الوقت على الإنترنت، لأننا نشعر بالوحدة؟

في الواقع، الأمر معقد.

الشعور بالوحدة هو أن يشعر المرء بأن علاقاته الاجتماعية أقل في الكمّ والجودة مما يرغب فيه. تجربة الشعور بالوحدة ذاتية للغاية؛ يمكن أن يكون الفرد بمفرده دون أن يشعر بها، ويمكن أن يشعر بالوحدة حتى مع وجود أشخاص آخرين حوله.

الوحدة، كانت موجودة قبل وقت طويل من اختراع وسائل التواصل، كما وصفها الروائي توماس وولف في القرن الماضي : "كانت الوحدة وستظل دائماً التجربة المركزية والحتمية لكل رجل". لكنها في عصرنا الحالي تؤثر على عدد متزايد من الناس، حتى إن بعض العلماء حذَّروا من انتشار وباء الوحدة.

على الرغم من أن الشعور بالوحدة كان دائماً جزءاً من الوجود البشري، فإنه يتمتع بتاريخ قصير نسبياً كموضوع للبحث النفسي. وبإمكاننا فهمه في ضوء نظرية التعلق التي طوَّرها الطبيب النفسي جون بولبي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وهي نظرية مبنيَّة على أن الرابطة العاطفية التي تنشأ بين الرضيع ومُقدِّم الرعاية في طفولته تُكسبه نمط تعلُّق سينعكس على علاقاته المستقبلية، إما نمطاً آمناً يسهل له التفاعل مع الآخرين، وإما أنماطاً غير آمنة تقف عقبة في تواصله مع العالم.

ومن هذا المنظور، تحدث الوحدة عندما يتصرف الأطفال ذوو أنماط التعلق غير الآمن بطرق تؤدي إلى رفض أقرانهم لهم. ويعيق هذا الرفض تطوير مهاراتهم الاجتماعية ويزيد من عدم ثقتهم بالآخرين، مما يؤدي إلى الشعور بالوحدة المستمرة.

الوحدة تترافق مع سمات شخصية كالقلق الاجتماعي، والخجل والعداء، وعدم الثقة، وتدني احترام الذات، وهي خصائص تعيق قدرة الفرد على التفاعل في المناسبات الاجتماعية، مما يعمّق الشعور بالوحدة أكثر فأكثر ويجعل تكوين علاقات ذات مغزى والحفاظ عليها أكثر صعوبة. والطريقة الوحيدة للخروج من تلك الحلقة المفرغة هي محاولة الفرد التغلب على تلك الصفات ومحاولة التواصل مراراً وتكراراً، حتى يكتسب مهارات اجتماعية مناسبة، وهي مهمة شاقة بلا شك.

وهنا يأتي التغيير الأكثر دراماتيكية الذي سببته شبكات التواصل، وهو قدرتنا على أن ننسحب بسرعة في أي وقت من الأوقات؛ لتفادي أي موقف صعب أو شعور يزعجنا، مثلاً، في حفلة عيد ميلاد تجمع أطفالاً في الثانية عشرة من عمرهم، هناك لحظة تصبح الأمور فيها محرجة عندما يبدأ بعض الأشخاص في المغادرة وينتشر الشعور بالملل، فيقف الطفل حائراً بين اختيار الرحيل منفرداً، أو البقاء منتظراً أصدقاءه ليغادر معهم، محاولاً مشاركتهم في الحوارات، مثل هذه اللحظات مهمة لتكوين القدرة على اتخاذ القرارات في المواقف الاجتماعية، لكن في هذه الأيام، عندما تأتي هذه اللحظة الصعبة، بإمكان الطفل ببساطة أن يجلس على هاتفه متصفحاً مواقع التواصل، مجنِّباً نفسه عبء اتخاذ القرار أو بدء حوار جديد، ويكون قد غادر الحفلة ولم يغادرها في الوقت نفسه.

عندما يخبرك المراهقون بأنهم يفضّلون الرسائل النصية بدلاً من المكالمات الهاتفية، فهم يعبرون عن جانب آخر من المزايا النفسية للتكنولوجيا الجديدة: إمكانية اختباء بعضنا من بعض. المكالمة الهاتفية تحتاج مهارات في الحديث وضبط نبرة الصوت مشابهة للتواصل المباشر، بينما الرسائل النصية أسهل في التعامل بكثير.

في كتاب (Bored, Lonely, Angry, Stupid: Changing Feelings about Technology, from the Telegraph to Twitter) الصادر في العام الماضي، يستكشف المؤلفون كيف أثرت تقنيات التواصل المختلفة على مشاعر الأجيال، عبر فحص الرسائل واليوميات والمذكرات، وجدوا أنه على الرغم من أن أجدادنا لم يستخدموا الفيسبوك مثلنا، فإنهم كانوا يشعرون بالوحدة أيضاً، وكانوا يلقون باللوم على المخترعات الحديثة كالراديو آنذاك.

 ولكن الفرق يكمن في أن توقعاتهم كانت مختلفة، وأكثر تواضعاً إلى حد ما، حول عدد الصداقات والصِّلات الاجتماعية التي ينبغي أن تكون لديهم، فحسب المرء أن يكون له صديقان أو ثلاثة، وليس خمسة آلاف على فيسبوك، كما اعتبروا الوحدة جزءاً لا مفر منه من كونك إنساناً.

ما لم يواجهه أجدادنا هو السيل المتدفق من الصور والتحديثات حول علاقات الآخرين، نحن نراقب حيوات الآخرين المنسّقة بعناية شديدة، ونقارنها بحياتنا الفوضوية، فنشعر بأن هناك خطأً ما فينا أو في أحبابنا، ونخلق لأنفسنا معايير مستحيلة التحقيق للعلاقات البشرية، فنزهد في علاقاتنا الحقيقية وخلافات أصدقائنا، ونلوذ إلى عالم مثالي مُبهج مصمَّم بخوارزميات متوافقة تماماً مع آرائنا ورغباتنا.

رغم أن بعض الأشخاص يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعي لتعزيز علاقاتهم بأصدقائهم الحقيقيين، فإن هناك قطاعاً كبيراً من الناس يكون أصدقاؤهم على فيسبوك أشخاصاً لا يعرفونهم أو غير متأكدين من طبيعة علاقتهم. هذا النوع من الصداقة الإلكترونية غير واضح المعالم ولا يعرف الأشخاص التزاماتهم تجاه الصديق الإلكتروني، في الواقع فإن معظمهم يكون بمثابة "المعجبين" أكثر من الأصدقاء. لكنَّ وجودهم يقدم لنا وَهْم الرفقة، دون تحميلنا أعباء الصداقة ومشاكلها.

في بحث من جامعة أوكسفورد وُجد من بين 150 صديقاً لديك على فيسبوك، في المتوسط يمكنك إيجاد أربعة أشخاص فقط لتعتمد عليهم عندما تحتاج صديقاً حقيقياً يصطحبك إلى المستشفى أو يساعدك على حزم أمتعتك عند نقل مكان سكنك أو يواسيك بعد تجربة صعبة.

كم مرة رأيت مجموعة من الأصدقاء الشبان في مقهى، يجلس كل منهم على هاتفه متحلِّقين حول طاولة واحدة، وسائل التواصل الاجتماعي رائعة في منحنا شعوراً زائفاً بالتواصل. والوقت والطاقة اللذان يتم إنفاقهما على اتصالات وسائل التواصل الاجتماعي التي لا تعد ولا تحصى، يأتيان على حساب بناء علاقات حقيقية أكثر تجذراً ودعماً.

وبينما يظل الاتصال وجهاً لوجهٍ أفضل طريقة للمساعدة في تقليل الشعور بالوحدة، يمكن أحياناً أن تقدّم مجموعات الدعم على الإنترنت معونةً أكبر من العلاقات الحقيقية، ويمكن استخدام منصات التواصل للتفاعل مع أشخاص جدد، قد يتحولون إلى أصدقاء حقيقيين لاحقاً.

لذا فإن السؤال عما إذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي تجعلك تشعر بالوحدة والاكتئاب، يشبه إلى حد ما، السؤال عما إذا كان تناول الطعام يجعلك سميناً. الجواب لكليهما هو: نعم ولا! كمية اختياراتك وجودتها هما ما يحددان الأثر الذي سينعكس عليك.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مريم منصور
كاتبة ومترجمة
طالبة في كلية الطب جامعة الاسكندرية، كاتبة ومترجمة فريلانسر، حائزة على جائزة الشارقة للإبداع العربي ٢٠١٧.
تحميل المزيد