المتابع لثورات الربيع العربي خلال العقد المنصرم يجد أن غالبيتها انتكست بفعل عوامل خارجية ودول لعبت أدواراً كبيرة في تشجيع ودعم وتمويل الثورة المضادة لتحقيق أهدافها، ابتداءً من مصر ومروراً بليبيا واليمن وانتهاءً بسوريا. وربما تكون تونس هي الدولة الوحيدة التي خرجت بأقل الخسائر واعتُبرت ناجحة جداً. فالدعم الخليجي للعسكر في مصر أدى لقلب الشارع على حكومة محمد مرسي المنتخبة، والصراعات الخليجية بين دول خليجية لها أهداف متباينة تسبّبت أيضاً في اشتعال الحرب في كلٍّ من ليبيا واليمن حتى اللحظة. والتدخل الروسي والإيراني، بجانب التهدئة الخليجية بعد سنوات من دعم المعارضة السورية، أدّيا إلى إنقاذ بشار الأسد وحزبه من السقوط.
وإذا ما أردنا إسقاط احتمالات العامل الخارجي على محاولات إفشال الثورة السودانية – والتي اعتبرها كثير من المحللين والسياسيين من أعظم الثورات التي قامت في المنطقة، لجهة أن السودانيين داخل وخارج البلاد قاموا بها في ظل خذلان وتقاعس إعلامي وسياسي من غالبية حكومات ووسائل إعلام المنطقة والعالم لمدة تقارب الخمسة أشهر من العنف والتنكيل، سنجد أن التآمر عليها بدأ قبل نجاحها في إسقاط نظام البشير. فالولايات المتحدة -على سبيل المثال- بذلت الكثير من الجهود الدبلوماسية والاستخبارية وحتى العسكرية لما يزيد على العشرين عاماً لإسقاط نظام البشير، لكنها لم تبذل جهداً يُذكر لمساعدة الثوار الذين خرجوا ضد البشير تحت آلته القمعية التي لا ترحم.
يعزو البعض هذا التجاهل الأمريكي للثورة إلى حدوثها في فترة رئاسة دونالد ترامب الذي لا يخفي تجاهله وازدراءه لقارة إفريقيا وقضاياها. ويدلّ على ذلك عدم قيامه بزيارة إفريقيا وامتناعه قدر الإمكان عن دعوة رؤساء أفارقة إلى البيت الأبيض. وحتى أولئك الذين زاروا واشنطن مثل رئيسي الوزراء السوداني عبدالله حمدوك أو الإثيوبي آبي أحمد، لم يكلّف ترامب نفسه عناء مقابلتهم. ويبدو أن انطباعاته الشخصية عن إفريقيا وغيرها أصبحت سياسة دولة خلال فترته الرئاسية التي ستنقضي بنهاية العام الحالي. حيث قام بإقالة الكثير من المسؤولين الذين اختلفوا معه في إدارة ملفات خارجية أو داخلية. لكن المصادفة السيئة التي جعلت الثورة السودانية تحدث في فترة رئيس صاحب أجندة عنصرية داخلياً وخارجياً ومتقلب وغريب الأطوار مثل ترامب ليست وحدها السبب في الموقف الأمريكي المعادي للحكومة الانتقالية في السودان.
فحكومة حمدوك التي أبدى الأوروبيون دعمهم السياسي والمادي الكبير لها -بدءاً من قيام الرئيس الألماني ووزير خارجيته بزيارة السودان. وتنظيم ألمانيا مؤتمر مانحين لدعم وتمويل السودان. ومروراً بالموقفين الفرنسي والبريطاني الداعميْن للسودان- قوبلت بموقف أمريكي يميل إلى الابتزاز ووضع العراقيل أمام الثورة. وليس أدل من الاشتراطات والوعود الأمريكية المتكررة برفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ابتداءً من المطالبة بدفع السودان تعويضات لعائلات ضحايا المدمرة كول، إلى مطالبته بدعم تعويضات ضحايا سفارتي واشنطن في نيروبي ودار السلام، وانتهاءً بربط رفع العقوبات بالتطبيع مع إسرائيل. وهو موقف يعتبر امتداداً للابتزاز الأمريكي لحكومة البشير لما يقارب العشرين عاماً. حيث تم تصنيفه حينها بـ(سياسة العصا والجزرة) التي لم ينل البشير أو السودان منها أية جزرة أو ثمرة، وإنما انتهي به الأمر إلى أن ينقسم إلى بلديْن مدمْرين اقتصادياً وسياسياً. ولم تفلح دعوات قادة أوروبيين إلى دفع إدارة ترامب لرفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
موقف إدارة ترامب تجاه السودان يمكن قراءته أيضاً في إطار سياسة الأولويات بالنسبة لواشنطن، حيث تعتبر إدارة ترامب أن السودان ليس من ضمن أولوياتها في الوقت الحالي. وأن من الأفضل ترك أمره لبعض وكلائها في المنطقة. وقد كشف تقرير لمجلة "فورين بوليسي" العام الماضي عن استغراب الحاضرين لجلسة مغلقة عُقدت العام الماضي بعد نجاح الثورة، وشملت سياسيين وأعضاء في الكونغرس ومختصين في الشأن السوداني بمراكز أبحاث في الولايات المتحدة ودهشتهم من موقف القائم بالأعمال الأمريكي حينها في الخرطوم (والذي طار إلى واشنطن حينها لتقديم إفادته في هذه الجلسة المغلقة) ستيفن كوتيس (Steven Koutis)، والذي كان متماهياً مع سياسة الحكومتين الإماراتية والسعودية الداعمتين للعسكر والمعاديتين لإمساك حكومة مدنيين بمقاليد الفترة الانتقالية. وقد دفع هذا ببعض الأمريكيين المختصين بالشأن السوداني مثل إريك ريفيس (Eric Reeves) للدعوة لاستبدال ستيفن كوتيس، واصفاً أداءه ومواقفه بـ"الدبلوماسية الكارثية والفشل الأخلاقي".
وإذا ما أردنا التعرف على أسباب الموقف الأمريكي من السودان يجدر بنا العودة إلى التاريخ القريب لنتعرف على العقلية الأمريكية التي تجنح لابتزاز من تعتقد أنهم في موقف ضعف، ولا تستبين خطأ سياستها إلا بعد حين. فعندما قام الضابط الشاب حينها فيدل كاسترو بتنفيذ انقلاب في كوبا أطاح بالديكتاتور الحليف لواشنطن حينها الجنرال باتستا، لم يكن كاسترو حينها اشتراكياً. وحينما سافر إلى الولايات المتحدة بعدها بأشهُر (في عام 1960) تجاهله الرئيس حينها دوايت أيزنهاور وامتنع عن مقابلته، ليقابل كاسترو مندوبي الاتحاد السوفييتي في مجلس الأمن الذين أوعزوا إليه برغبة بلادهم في دعمه سياسياً واقتصادياً. لتصير كوبا شوكة في خاصرة الولايات المتحدة لأربعة عقود. كما أن التاريخ القريب يوضّح أيضاً تجاهل إدارة الرئيس كلينتون مراسلات من كوريا الشمالية في تسعينيات القرن الماضي للتطبيع مع واشنطن، لاعتقاد صانع القرار في واشنطن حينها أن هذا البلد سينهار في غضون أشهر أو عام أو عامين بعد انقطاع الدعم السوفييتي له. لتمر السنوات ويصبح البلد بعبعاً نووياً لواشنطن.
الموقفان السابقان إذاً يوضحان عقلية صانع القرار الأمريكي الذي يتجاهل من هم في حالة ضعف ويفاوض الأقوياء (مثل طالبان التي تفاوضها إدارة ترامب من دون أية مطالبات بدفع تعويضات). كما يوضّح النظرة القاصرة لواشنطن في كسب أصدقاء وحلفاء. وإذا ما عدنا لحكومة حمدوك التي وصلت إدارة ترامب إلى مراحل بعيدة في ابتزازها لدرجة تعليق (مصدر أمريكي مقرب) من المحادثات التي جرت الشهر الماضي بين الخرطوم وواشنطن في أبوظبي بالقول إن "المسؤولين السودانيين يعتقدون أن لديهم كروت ضغط على حكومة ترامب.. وهم في الحقيقة يتناسون أن رفع العقوبات لن يستفيد منه غيرهم". وهو (تسريب) قُصد منه توصيل رسالة للمسؤولين في السودان أنّ "القرار لديكم، وترامب ليس في عجلة من أمره". والتسريبات الواردة الأسبوع الماضي تشير إلى منح السودان مهلة 24 ساعة للموافقة على التطبيع مع إسرائيل مقابل "حوافز" هزيلة لا تقدر بالثمن المطلوب. وهو جزء من الابتزاز وعقلية رجل الأعمال الذي يعرف كيف يحصل على ما يريد بأقل الخسائر، والتي برع ترامب في تسويق نفسه بها.
وقد أدّت الضغوط الأمريكية لخلاف داخلي بين قادة المجلس السيادي من العسكريين -البرهان وحميدتي- وبين المدنيين بقيادة حمدوك، حيث يرى العسكريون أن التطبيع "فرصة يجب استغلالها". وهي عبارة قالها البرهان وحميدتي صراحة. بينما يرى جناح من المدنيين أن قضية مثل التطبيع مع إسرائيل تتطلب تفويضاً لا تستطيع حكومة انتقالية تقديمه، والشق الآخر المتسم بالبراغماتية من المدنيين يرى أن الثمن الذي تقدمه واشنطن وأبوظبي لجرّ السودان لفخ التطبيع "لا يستحق المخاطرة لأجله". والذين يعرفون كواليس السياسة الأمريكية يعتقدون أنه إذا رفع ترامب السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب بدون موافقة الكونغرس فإن أول شيء ستفعله حكومة الديمقراطيين (في حال فوز جو بايدن) هو إعادة السودان إلى القائمة مرة أخرى، ويعتقدون أنه من الأفضل انتظار انتهاء الانتخابات أو الحصول في أسوأ الظروف على مكافأة مالية بعدة مليارات لتجاوز الوضع الاقتصادي الكارثي المتمثل في التضخم الجامح وخلو خزينة الدولة من متطلبات تسيير البلاد من رواتب ومنصرفات وقود وقمح وغيرها.
يمكننا إذا القول إن أي اتفاق سوداني – أمريكي هذه الأيام سيكون عمره أسابيع بحكم الواقع في حال خسارة ترامب للانتخابات. والطريقة التهديدية التي يدير بها بومبيو المفاوضات مع السودانيين بشقيهم العسكري والمدني لا تبشر بخير في مستقبل العلاقات بين البلدين أو حتى بمستقبل العلاقة مع الإسرائيليين في حال تم تطبيع العلاقات مع تل أبيب. حيث ستكون علاقة حكومة الديمقراطيين القادمة سيئة مع السودان. كما يعتقد اليسار الإسرائيلي واليهودي العادي للتطبيع مع السودان وغيره من الدول العربية كقضية ثانوية انطلاقاً من قناعتهم بأن الأمر لا يعدو كونه تهدئة فقط وليس سلاماً حقيقياً. لأن السلام الحقيقي لا يتم فرضه من الخارج. والأمثلة كثيرة على ذلك ابتداءً من اتفاقيات الفلسطينيين أنفسهم مع إسرائيل. واتفاقية السلام بين السودان وجنوب السودان في 2005 برعاية أمريكية أوروبية، والتي لم تخلق سلاماً أو استقراراً في كلا البلدين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.