بدلاً من اللجوء إلى التحكيم الدولي.. لماذا اتجه لبنان للتفاوض مع إسرائيل بشأن الحدود البحرية في هذا التوقيت؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/10/15 الساعة 12:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/10/15 الساعة 12:05 بتوقيت غرينتش
رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري/ رويترز

تستغل إسرائيل والولايات المتحدة أوضاع لبنان السياسية والاقتصادية الصعبة لدفعه إلى الموافقة على الدخول في مسار تفاوضي بشأن ترسيم حدوده البرية والبحرية ومنطقته الاقتصادية الخالصة، من دون أي مرجعية أو إطار زمني أو ضمانات للوصول إلى حقوقه التي يكفلها القانون الدولي.

هناك رهانات كبيرة لإسرائيل على المفاوضات التي انطلقت برعاية أمريكية لترسيم الحدود، وتعد علامة بارزة في تاريخ العلاقات بين البلدين وتثير تساؤلاً حول ما إذا كان الاتفاق حول هذه المسألة يمكن أن يؤدي إلى تغيير استراتيجي في العلاقات بين البلدين.

خاصة أن هذه المفاوضات تأتي بعد توقيع اتفاقيتي التطبيع مع الإمارات والبحرين، وفي ظل الوضع الصعب للبنان الذي يحتاج بشدة إلى مساعدة خارجية من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى.

يعتقد الإسرائيليون أن الانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت والمصيبة التي أوقعها على لبنان كان المحفز الذي أدى إلى تغيير لدى أصحاب القرار في لبنان، فقد تسبب لهم انفجار بيروت في استيعاب حقيقة أن منع الانهيار المتواصل للاقتصاد اللبناني، والذي وصل إلى الإفلاس وإلى العجز عن تسديد الديون لن يكون ممكناً إلا من خلال الزيادة الكبيرة لمداخيل الدولة من حقول الغاز التي اكتشفت في البحر المتوسط.

ومن هنا فإن وجود خلاف بين لبنان و"إسرائيل" يمنع شركات الطاقة الكبرى من التوقيع على اتفاقات لفتح حقول الغاز في مجال المياه الاقتصادية للبنان، وبذلك زيادة المداخيل التي يتوق لها لبنان.

أسباب التوجه اللبناني للمفاوضات

في ضوء المتغيرات في البيئة الإقليمية سواء ضعف المحور الشيعي من جهة والحصار الذي تتعرض له إيران، واتفاقيات إسرائيل الجديدة مع الدول العربية من جهة أخرى، فضلاً عن الوضع الداخلي الصعب في لبنان، كل ذلك خلق فرصةً لتعزيز التغيير في العلاقات بين البلدين، ومن هنا ترى "إسرائيل" وجود عدة أسباب ساهمت بهذا التوجه اللبناني وهي:

1- الأزمة الاقتصادية والسياسية والصحية التي يمر بها لبنان، والتي اشتدت حدتها إثر كارثة مرفأ بيروت، وهي من أشد الأزمات التي عرفها لبنان في العقود الأخيرة، وهو بحاجة ماسّة إلى مساعدات خارجية ضخمة، الدول العربية ومعظم الهيئات الدولية غير مستعدة لتلبية هذه الاحتياجات، ومبادرة المسؤولين الغربيين، بقيادة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والإدارة الأمريكية، تقضي برفع حزم المساعدات والقروض إلى لبنان، مقابل إخضاع المنظومة اللبنانية لإصلاح اقتصادي شامل. في إسرائيل، هناك من يقترح أن تتضمن البنود أيضاً تفاهمات تتعلق بالبُعد الأمني والعلاقات مع إسرائيل، لكن يبدو أن الطريق لتحقيق هذا الهدف ما زال طويلاً.

2- اتفاقيات التطبيع الجديدة بين إسرائيل وبعض الدول العربية، برعاية من الرئيس دونالد ترامب، والتي أحدثت تحولاً فيما يتعلق بإسرائيل في الساحة العربية ولديها القدرة على إضفاء الشرعية على أي دولة عربية أخرى تختار الحفاظ على الاتصالات معها. كما يتم التسويق أن العلاقات مع "إسرائيل" لها فوائد اقتصادية، والتي يمكن للبنان الاستفادة منها أيضاً، لا سيما تلقي المساعدة الفورية من الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى، فضلاً عن التغييرات المحتملة في علاقاتها مع "إسرائيل" والتي ستساعد الاقتصاد اللبناني في مجال الطاقة (الغاز والكهرباء)، الزراعة، الماء، الصحة، الصناعات، السياحة.

3- الوضع الصعب الذي يمر به حزب الله وإيران، فمنذ أن انخرط حزب الله في القتال في سوريا واجه الحزب صعوبات مالية متزايدة. كما أن انهيار الاقتصاد اللبناني يؤثر عليه أيضاً، يضاف إلى ذلك العقوبات المباشرة المتزايدة التي تفرضها الولايات المتحدة على التنظيم، وعلى الجهات التي تساعده في لبنان (البنوك، الوزراء)، وعلى راعيها إيران التي خفضت أيضاً مساعداتها للتنظيم. بالإضافة إلى الضائقة الاقتصادية، وفشل حزب الله في الحملة السياسية لمواجهة الاستجابة المتزايدة للمطالبة بتعريفه كمنظمة إرهابية بمكوناته العسكرية والسياسية والمدنية والتي انضمت إليها دول أخرى (الولايات المتحدة، هولندا، المملكة المتحدة، كندا). كما يتعرض حزب الله أيضاً لانتقادات متزايدة في الساحة الداخلية في لبنان، مع تحميله مسؤولية الإدارة الفاشلة للبلاد، ومؤخراً خرجت بعض الأصوات المطالبة بنزع سلاحه. هذه الظروف أسهمت بدفع حزب الله إلى الموافقة على بدء مفاوضات ترسيم الحدود.

فوائد إسرائيل من المفاوضات

ترى إسرائيل أن هناك جملةً من الفوائد التي ستعود عليها عبر "مفاوضات مباشرة" لترسيم الحدود البحرية، وأن مجرد وجود المفاوضات بين بيروت وتل أبيب، لها معانٍ إيجابية تتجاوز الحاجة لحل النزاع، فهذه أول مرة منذ نهاية التسعينيات، تجرى فيها مفاوضات مباشرة بين الطرفين، على اعتبار أن اللبنانيين رفضوا كل اتصال مع "إسرائيل"، من مبدأ أن مجرد وجود المفاوضات بين الدولتين فيه نوع من الاعتراف بل وإعطاء شرعية لإسرائيل.

الاتفاق على بدء المفاوضات لتحديد الحدود البحرية، الذي تم التوصل إليه بعد حوالي عقد من التعامل مع القضية، هو علامة إيجابية وإذا أدت هذه المفاوضات إلى اتفاق، فإنها ستخلق جواً إيجابياً يمكن أن يسهل الحوار وربما يدفع لاتفاقات وتفاهمات حول نقاط أخرى، مثل الحدود البرية، والتفاهمات والتعاون في مجال الطاقة (التنقيب عن الغاز وإنتاجه، أمن منصات الحفر والمساعدة في إمدادات الكهرباء)، وتعزيز المساعدة الإسرائيلية للسكان اللبنانيين، على سبيل المثال من خلال فتح فرص للعمل في شمال فلسطين المحتلة، وربما حتى اتفاق في إطار تطبيق القرار 1701 بشأن إخراج حزب الله من "الخط الأزرق" الذي انزلق إليه في السنوات الأخيرة.

يرى الإسرائيليون أن السياسيين في لبنان أصبح ظهرهم إلى الحائط في ضوء خطر الانهيار الذي يهدد الدولة فحصل هذا التنازل، وحتى حزب الله اضطر لرفع الراية البيضاء بعد الموافقة على الشروع في مفاوضات مع "إسرائيل"، وهكذا يمنح اللبنانيون دولة الاحتلال الاعتراف والشرعية بشكل غير مباشر، والاستسلام لفكرة أن الطريق إلى الاستقرار والازدهار الاقتصادي يمر عبر الحوار مع "إسرائيل".

كما يُعد ذلك خسارة واضحة لحزب الله، ليس فقط لأنه يعارض المفاوضات المباشرة بين لبنان وإسرائيل، بل لأن حسن نصر الله (أمين عام الحزب) فهم منذ زمن، أنه في حال أراد فتح معركة عسكرية ضد "إسرائيل"، فهو ملزم بأن يستخدم هذا النزاع كحجة وأنها دفاع عن مصلحة لبنان الوطنية.

وبالتالي تأمل "إسرائيل" وواشنطن أن يؤدي ترسيم الحدود إلى نزع ذريعة "حزب الله" للاحتفاظ بسلاحه وصواريخه في لبنان بحجة أن إسرائيل تحتل أراضي لبنانية وتخرق الحدود الدولية، فضلاً عن تعديها على حقوق لبنان في الثروة الغازية والنفطية في البحر.

وعليه ترى "إسرائيل" أنه طالما بقي الخلاف على الحدود البحرية، فسيكون بوسع حزب الله أن يواصل الادعاء بأن "إسرائيل" تسرق المقدرات الطبيعية اللبنانية، وهذا سبب راجح لشن الحرب. أما إذا نضجت المفاوضات بين الطرفين لاتفاق، فسيُسحب البساط من تحت أقدام حزب الله، لهذا تهتم أمريكا و"إسرائيل" بنجاح هذه المفاوضات؛ لأنها تنهي بذلك تهديد "حزب الله" بقصف منصات حفر آبار الغاز الإسرائيلية (التي لم تبدأ إسرائيل بعد حفرها في المنطقة القريبة من الرقعة المتنازع عليها)، والتي سبق لحسن نصر الله الأمين العام لحزب الله أن هدد باستهدافها، بحجة الخلاف عليها.

"إسرائيل" ترى في حصول لبنان على مكاسب اقتصادية جراء استغلال جزء من حقول الغاز المفترضة تحولاً إيجابياً على الواقع اللبناني الداخلي، وذلك لبلورة بيئة تقلص من قدرة حزب الله وإيران على العمل هناك، على اعتبار أنه سيقلص من دافعية حزب الله مستقبلاً على التحرش بها، وإن كان ذلك لن يؤثر على جهوده لمراكمة القوة العسكرية، وتحديداً على صعيد الصواريخ ذات دقة الإصابة العالية، التي تمثل تهديداً استراتيجياً.

ومن الفوائد التي ترى "إسرائيل" أنها ستعود عليها، أن المفاوضات المباشرة في موضوع ما يمكن أن تؤدي إلى مفاوضات في مواضيع أخرى بين الدول المجاورة، وحتى وإن كانت معادية، فالمصالح المشتركة موجودة باستمرار.

يبدو واضحاً أن قرار لبنان بهذا الشأن، والذي يعد بمنزلة قبول بالشروط الإسرائيلية، قد اتخذ من منظور مصالح الطبقة السياسية اللبنانية التي تتعرض لضغوط داخلية وخارجية شديدة، وقد تكون بذلك فتحت الباب واسعاً أمام الابتزاز الإسرائيلي هذه المرة، كما أن قبول لبنان الدخول في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل وبوساطة أمريكية لترسيم الحدود البحرية بينهما يطرح مجموعة من الأسئلة الأساسية، أهمها: لماذا وافق لبنان على مسار المفاوضات بدلاً من اللجوء إلى التحكيم الدولي الملزم، أو إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، لتطبيق قانون البحار في نزاعه مع إسرائيل؟ ولماذا لم يشترط لبنان وضع مرجعية للمفاوضات في عملية ترسيم حدوده البحرية مع إسرائيل؟ ولماذا لم تتم الإشارة إلى بدائل في حال فشلت المفاوضات بين الطرفين، كالاتفاق مثلاً على التحكيم الملزم أو التوجه إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي؟

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

رامي أبو زبيدة
باحث بالشأن العسكري
رامي أبوزبيدة، حاصل على ماجستير في إدارة الحرب واستراتيجية الأنفاق، كاتب ومحلل عسكري لدى عدد من الصحف والمواقع والقنوات الفضائية العربية والفلسطينية
تحميل المزيد