في الـ12 من يوليو/تموز الماضي، أي منذ ثلاثة أشهر تقريباً، شنّ الجيشُ الأرمينيّ هجوماً خاطفاً، بالمدفعيّة الثقيلة، على مواقع عسكريّة تابعة للجيش الأذربيجاني، بالقرب من منطقة "توفوز" الحدوديّة بين الجانبين. لنتذكر اسم هذه المنطقة جيداً.
بحسب الحصر النهائيّ لبيانات الجيشين ووكالات الأنباء القريبة من الموقع والمراسلين العسكريين، فقد أدَّى هذا الهجوم المتقطّع على مدار أيام، إلى إيقاع خسائر كبيرة، بالعشرات، في أرواح الجنود الآذريين، مقابل عدد أقلّ كثيراً من الضحايا في صفوف الجيش الأرمينيّ.
تُعد هذه الاعتداءات المُبدِّدة لصمت وقف إطلاق النار المستمر منذ ثلاثة عقود نُزهةً متكررة بين الحين والآخر للأرمن، من حيث المبدأ والعدد الكبير في القتلى في صفوف الجانب الآذري؛ ولكن عاملين بارزين استجدّا في المشهد هذه المرّة، وعلى الأغلب كان بينهما علاقة: مُحيط الاشتباك، والموقف التركي.
لتركيا علاقاتٌ وثيقة مع أذربيجان منذ ثلاثين عاماً، بالنظر إلى التاريخ الحديث، وأكثر من قرن قبل إعلان الدولة التركيّة الحديثة وظهور جمهورية أذربيجان بالشكل الحالي. تتشعَّب دوافع هذه العلاقات ما بين الدينيّ، والعرقيّ، والتاريخيّ، أو الاشتراك في العداء لروسيا وأرمينيا. قبل نحو قرن، أرسل السلطان العثماني جيشاً لتحرير باكو وقتال الأرمن والروس والإنجليز بقيادة نوري باشا، وقد احتفل أردوغان مع الرئيس الآذري بمرور 100 عام على هذه الحرب عام 2018. وقد زاد على هذه الدوافع مؤخراً: المصالح الجيو-اقتصادية لتركيا، وبالأخص مستقبل الطاقة.
يمرّ من منطقة "توفوز" الحدوديّة، الّتي شهدت التصعيد العسكريّ المشار إليه في يوليو/تموز الماضي بين أرمينيا وأذربيجان ثلاثة مشاريع كبرى، تستفيد منها جميعاً تركيا بشكل أو بآخر. اثنان من المشروعات الثلاثة، هما أنابيب عملاقة لنقل النفط والغاز من أذربيجان إلى تركيا، التي تعاني نقصاً حاداً في إمدادات الطاقة، ومنها إلى أوروبا التي تشاطرها نفس الأزمة، ويندرج المشروعان ضمن استراتيجية أنقرة كي تصبح مركزاً إقليمياً لتداول الطاقة في هذه المنطقة. أما المشروع الثالث، فهو مشروع خط سكة حديد ضخم، يُخطط له أن يكون جزءاً من مسار "طريق الحرير" الصينيّ.
فهمت تركيا الرِّسالة الأرمينية بوضوح، ففتحت خطوط اتصالها مع القيصر الروسيّ الذي بات متخصصاً في إدارة مناطق النفوذ والنزاع مع أردوغان. وتحدَّث الأخير مباشرةً إلى الإعلام عن نيّة يريفان تحويل المنطقة إلى نقطة صراع جديدة. ستضرّ المشروعات الطاقويّة المراد إتمامها في هذه المنطقة بمصالح روسيا بشكل مباشر، ومن خلفها أطراف أخرى بشكل أقل مثل إيران.
بالرغم من رفعها شعار: "شعب واحد في دولتين"، وحرصها على تقديم الدعم السياسيّ المنشود؛ لم تستطع تركيا منع الاعتداءِ العسكري على أذربيجان، أو سقوطِ عدد كبير من الضحايا. فلا يمكن لتركيا، قانوناً، التدخل العسكري بشكل مباشر، لحسم المعركة ضد طرف آخر، طالما اتُهمت بإيذائه تاريخياً، كما أن التدخل في ذلك التصعيد، الذي تزامنَ مع رفع المحور المعادي لتركيا في شرق المتوسط درجة العنف المادي والرمزي ضد أنقرة، كان كفيلاً بفتح أبواب الجحيم على توجهات الرئيس أردوغان الخارجية، فضلاً عن عدم توقع رد الفعل الروسي، حيث تمتلك موسكو بالفعل قاعدةً عسكريّة في أرمينيا.
ولكن، لم تكد طلقات المدفعيّة المتبادلة بين الطرفين تهدأ على وقع اتفاق ضمني جديد لوقف إطلاق النار، حتّى أعلنت تركيا نيتها عقد مناورات مشتركة بينها وبين أذربيجان، على مستوى القوات الجوّية والبرّية، بمشاركة كل أنواع الأسلحة المندرجة تحت هذين الفرعين، لمدة طويلة للغاية، وصلت إلى نحو 3أسابيع، باسم "النسر التركي الأذري". في العادة، تستمر أي مناورات مشتركة على صعيد الدول، عدة أيام، لا تتخطى الأسبوع، تشمل السفر والإقامة وزيارات تفقد المواقع العسكرية والمدنية. وقد فرض البلدان حظراً على تغطية الإعلام لهذه المناورات، باستثناء بعض اللقطات المصورة التي أفرج عنها الإعلام الرسمي من الجانبين.
بالنظر إلى نتائج جولة التصعيد الأخيرة، الّتي بدأت بحلول الـ 27 من سبتمبر/أيلول الماضي، وأسفرت عن استعادة عدد كبير من القرى الواقعة شمال إقليم قره باغ بالقرب من الحدود الروسية، وجنوب الإقليم بالتماس مع إيران، وتكبيد الجيش الأرميني خسائر فادحة وغير مسبوقة؛ فإن البصمة التركيّة تبدو هي العامل الحاسم في هذا الإنجاز. فطالما كانت "إسرائيل"، الحليف الثاني لأذربيجان، تُصدِّر الأسلحة النوعيّة إلى باكو، ولكن هذه التطورات الإيجابية بالنسبة لأذربيجان لم تحدث، إلا بعد استيراد الأسلحة، وتطبيق التكتيكات، وتلقّي الدعم السياسي من تركيا. يدخل هذا الدعم ضمن استراتيجية تركيا لنصرة حلفائها في الخارج مبكراً، كما حدث مع قطر وليبيا من قبل، بعد ما عاينت عواقب التأخر في مصر وسوريا منذ سبعة أعوام.
وبخلاف ما أُشيع عن تدخل سلاح الجو التركي سراً لإسقاط قاذفة روسية تابعة لسلاح الجو الأرميني من طراز "سو – 25″، والتي تعد المقاتلة الوحيدة التي سقطت من الجانبين خلال الاشتباكات؛ فقد اعترف الرئيس الأذريّ، إلهام علييف، بنفسه، بالدور الفعّال الذي لعبته الطائرات المسيرة التركية، التي استوردتها بلاده مؤخراً، في ترجيح كفة سلاح الجو الأذري خلال معركة السيطرة على السماء فوق قره باغ، وبالتحديد طائرات "البيرقدار"، على حد قوله. وبحسب إحصائية أعدها فريق من المدونين العسكريين، فإن 61 مقطعاً مصوراً، من أصل حوالي 95 مقطعاً بثها الإعلام الأذري عن الهجمات على الأهداف الأرمينية، بعد مرور أسبوع على القتال، جرى التقاطها لطائرات "البيرقدار".
الانتصار الأذريّ على أرمينيا في هذه الجولة، بفضل الدعم التركيّ، بدا واضحاً أيضاً في قلب بعض التفاصيل الصغيرة، مثل هرولة الرئيس الأرميني، أرمين سركيسيان، على بعض الدول العربية، طالباً الدعمَ، ومستنجداً لإيقاف الحرب، بعد أن استشعر للمرة الأولى أن التصعيد لن يكون في صالح بلاده، وأن حلفاءه الرئيسيين، روسيا وإيران، تخلّوا عنه، وأنّ قرار إنهاء الحرب لم يعد في يد قيادة الجيش الأرميني أو الروسي، كما كان الأمر في السابق. وفي شواهد، مثل استعجال الجيش الأرميني الدفعَ بترسانة أسلحة "الردع" لديه، صواريخ أرض أرض، تجاه المدن الأذريّة الكبرى، في محاولة للضغط على القيادة السياسية الأذرية لوقف الهجوم على قره باغ. وفي معاودة الحديث عن حظر بعض الدول الغربية (كندا) تصدير تكنولوجيا دقيقة مستخدمة في المسيرات التركية للتصويب والتهديف.
بالنسبة لقضيّة "قره باغ"، فقد كان واضحاً منذ البداية، أن هذه الحرب، بالاستعارة من المعجم المصري الخاص بحرب تحرير سيناء، كانت معركة "تحريك لا تحرير"، فالوضع المستقر منذ ثلاثين عاماً يصعب إنهاؤه في أيام أو شهور، ويتطلب ما هو أكبر بكثير من الطائرات المسيرة. وقد نجحت باكو في إجبار يريفان نفسها على طلب الجلوس على مائدة المفاوضات، ومحاولة الوصول إلى حل سلمي للقضية، وهو بلا شك انتصار مرحليّ مهم، بالنظر إلى الوضع الذي ظل قائماً خلال الفترة الماضية. وبالنسبة لملف تأمين ممرات الطاقة، فقد أوشك أحد الأنابيب الأذرية العملاقة التي ستنقل الغاز إلى تركيا وأوروبا بمحاذاة أرمينيا، على العمل رسمياً، ومن المؤكد، أن يريفان ستفكر كثيراً قبل المغامرة مجدداً في هذه المنطقة الخطيرة، بعد إعادة بناء جيشها المدمر على الأقل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.