بقع سوداء تأكل صدري.. قصة إنسان عادي وكدماته التي لا يراها العالم

عربي بوست
تم النشر: 2020/10/14 الساعة 10:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/10/14 الساعة 13:20 بتوقيت غرينتش

فزع من النوم بعد كابوس مزعج، صُوّر إليه أن عظام صدره انفجرت لألف قطعة.

بحركة لا إرادية تحسّس جسده ليطمئن بأن كل شيء على حاله، كانت الغرفة مظلمة، وتتسلل من النافذة المفتوحة أصوات قطط ضالة تعبث بهدوء في المكان، هو لم يخف يوماً من كحل المساء لكنه لسبب ما ارتعد وغرق في الرعب كما غرقت عيناه من العرق المتصبب من جبينه.

شعرت زوجته النائمة باهتزاز السرير، لكنها تجاهلت الأمر؛ ربما لأنها معتادة على تسلل الأولاد حولها في تلك الساعة، أو أن يومها الطويل بين العمل وواجبات المنزل حال دون تفضيل الحديث مع زوجها. اتخذت من النوم غطاء يحجب استخراج الأسرار من باطن الزوج، العملية التي تضاهي مشقة استخراج الغاز الطبيعي من شرق المتوسط هذه الأيام.

تسلل لخارج الغرفة مباشرة، حافظ على اتزانه متفادياً لمس أي شيء يصدر صوتاً كأنه سحابة رقيقة تمر أمام القمر، توجه للحمام وحين أغلق الباب نظر للمرآة بعد خلع ملابسه، ولاحظ ازدياد غزو الكدمات الحمراء لبشرته. في البدء ظهرت بقعة صغيرة أعلى العمود الفقري، ومن ثم أخذت البقع في التكاثر يوماً تلو الآخر حتى أصبح عددها تسعة. في البدء تجاهل، إلا أن اللامبالاة تراجعت وحل محلها الخوف، جسده المتين وصدره المنفوخ يتساقط كمن تعرّض لسائل حارق، وأحسّ بالألم المضني.

منذ الصباح، لم ينبس ببنت شفة. كان قد سهر الليلة الماضية يكتب استقالته، ارتدى ملابسه بدقة، سوى شعره برقة، لم يخبر زوجته ذات الوجه الجميل والملامح الجامدة الأشبه بالراهبات بخطته. حين دخل على مديره، أمسك الأخير بالورقة ثم قفز من مكانه وعدّل سترته وأخذ يقنعه بالعدول عن القرار تارةً وحاول استخراج مسوغاته تارةً، أقسم بالأديان كافة بزيادة وشيكة في الراتب، ثم هو يخيفه من ضياع أسرته، ويناجي مستقبله الذي سيدمر بيده. ماذا عن سُمعته التي بناها في الشركة، كيف ولماذا يترك كل هذا؟ حين انتهى المدير من كلامه جاء ردّه مقتضباً، سأله هل فرغت؟ مع احترامي، أنا راحل. وانتهى كل شيء.

شحب وجه المدير المذهول، بانفعال شديد نطق ببعض الجمل القصيرة، سمع منها قبل أن يغلق الباب خلفه ويرحل، أنه لن يتحصل منه على توصية جيدة تكفل له أن يعمل حتى في ملهى متواضع.

من العجيب كيف يستهلك الإنسان في تمهيد الطرق في الحياة، أبطأ من الإصلاحات الاقتصادية، ويدمر ما أعده أسرع من الرصاصة. فكر في هذا، لكنه ضحك على كلمات المدير الحادة حين تذكرها، فحينها لم يكترث كأنه لم يسمعها أو أنها نطقت بلغة غير مفهومة.

(2)

في القرية الريفية، يتلقى الأخ الأكبر رسالة تفيده بزيارة شقيقه لبيت العائلة، كان يظنه ميتاً، وتساءلت زوجته السمينة وهي جالسة على الأرض بجلابية نصف نظيفة عن سبب الزيارة، ربما يريد بيع البيت أو يبحث عن زوجة جديدة. شاور بإصبعه على قماشة بجانبها ليمسح النظارة، لم يبدُ عليه الاهتمام بما تقول، خرج للشرفة ونظر على امتداد الأرض الزراعية، بعيداً بمسافة أشق من القياس، حدّق في الفراغ.

تمتم ساخراً، ربما بالكاد سيعرفني بتلك الصلعة فوق رأسي.

بعد ساعات، انبعث ضوء الشمس من السماء، وهبط للقرية في العاشرة الأخ الذي ظن حين رحل في شبابه بأنه لن يعود لها يوماً، ما زال كل شيء في مكانه، الحظيرة بلا باب بجوار المنزل المتهالك، جدرانها سوداء ومدهونة بالعفن، الرائحة الكريهة، والبيت القديم ينازع الهلاك، كحال المنازل المجاورة.

في منتصف الأرض الزراعية بني مسجد يبدو من طلائه أنه حديث العهد، بجانبه في منتصف أرض أخرى بيت أشبه بالقصر، يمكن إدراكه بالعين من مسافة كيلومتر قبل دخول القرية.

في مدخل البيت، تفشل الشمس في مجابهة العتمة، يوجد فرن كبير يبلغ مساحة نصف المدخل تقريباً بالكاد يُرى، من الصعب عدم ملاحظته ومن الصعب أيضاً تمييز وجوده، يغطيه السواد من كل جانب حتى إنه يمتد مستحوذاً على السلم الموصل للدور الثاني كأن المكان مُنِيَ بحريق من قبل.

لم يكن هذا الحال دائماً، سمع أحداً يخاطبه من الخلف وأحسّ بيد تسكن كتفه، استغرق برهة قبل أن يدرك أنه أخوه، لقد تغير كثيراً، امتدت بطنه لمتر أمامه، فقد شعره، وعينه يرى من خلالها ولا تنظر هي في شيء.

– يدك خشنة، أما زلت تجهد في الأرض لتحيي خلقاً جديداً؟

– نعم، وتخبرني نعومة يدك بأنك اعتدت المكاتب ولهجتك الغريبة تليق بمن عاشر القوم 20 عاماً. في أي ساعة مشؤومة تذكرتنا؟!

شعر بالخجل، ولم يدرِ أي تعبير يمكنه إخراجه من المأزق، انفرج وجهه حين سحبه ليصعد للأعلى.

في مدخل الشقة صورة كبيرة لوالدهم، كاد يتفوّه بتفاهات تضعه في موقف حرج حين أراد الاستفسار عنه، تذكر موته قبل 15 عاماً، وعدم حضوره الجنازة، لم يرَ ضرورة في أخذ إجازة من العمل حينها، حتى إنه تجاهل إرسال برقية مواساة.

نفخ كأن حجراً ثقيلاً أزيح من على صدره، والتزم الصمت.

تجلس زوجة أخيه مكان والده، عباءتها السوداء يغطي لون التراب الرمادي على لونها الأصلي، وما يربكه أنه قارب بينها وبين والده، الذي حَرّم الكرسي على غيره في حياته، كان يجلس واضعاً يده على خده بجلابية كانت بيضاء حينما اشتراها، وهي بشعر أشعث خفيف تتخذ نفس الموضع.

بعد قليل من الوقت يمتلئ المكان، أجساد كبيرة ساكنة وصغار يركضون في الأرجاء، يتناول سكان البيت الخبز اليابس مع الماء بنهم، عقب أن فرغوا، ظلت أكواب الشاي تقدم بلا انقطاع، كمية لم يشربها يوماً في حياته، وفهم أن هذا أقصى ما بوسعهم تقديمه، مكرراً في نفسه اللوم على عودته.

(3)

يحمل السيد الشاب صاحب الجلباب الأبيض سُمعة طيبة، تاجر رائع يربح الكثير من محاصيل القطن، يسكن بمنزل فسيح وسط الحقوق الزراعية، يجيد القراءة والكتابة بعكس غالبية سكان القرية الأميين، وهو ما جعله محل ثقة بجانب ثرائه الذي أجبر الجميع على احترامه وتبجيله.

تضرب ريح باردة وجهه مباشرة؛ حين أخبره محاميه بانهيار بورصة القطن، كان أحد اثنين مصريين من ضمن التجار الـ35 المسجلين حينها. انقلبت الدنيا حوله، كمن التفّ حول نفسه بسرعة شديدة ثم توقف فجأة، ماذا سيفعل بدين البنك؟ كيف الخروج؟ كم من الأموال التي استثمرها مع إخوته في التجارة مطالب بردّها؟

الصدمة التي أثقلته، مرّت، كما تمتص رمال الصحراء المطر، أخذ بجلد يعمل ليل نهار بغرض تعويض شيء مما فقده، احتفظ بسُمعته، وظل الجميع ينظر له كقدوة يُحتذى بها، لذا كان بيده يقاوم المطارق الموجهة إلى رأسه، حتى تهشمت، ووصلت لعقله، الذي فقد جزءاً كبيراً منه، كما فقد كل ثروته مع قوانين الإصلاح الزراعي وما تلاها من أحداث، لم يكن من المحظوظين القادرين على مجابهة الموجة؛ فسُحب للقاع.

قبل وفاته، ظل يردد بأن الحال صار غير الحال، حين يسأله أحد حتى عن اسمه، يرد: الحال صار غير الحال.. الحال صار غير الحال.

تدبر ابنه المتعلم أموره وسافر للعاصمة، الكبير عمل مزارعاً أجيراً في أرض كانت ملكهم يوماً، والأخير استُقدم للعمل حارس عقار في إحدى المدن المجاورة.

(4)

كانت الأيام تسير وفق وتيرة واحدة، تعزف ألحان ما قبل عصر الباروك، صارمة، مملة، كل ما فيها يقول يا له من عصر منفر للعيش. أي رغبة في الاستمتاع تتلاشى مثل رماد الورق.

هناك جمال مرهف في المأساة الإنسانية، يبجل الجمهور اللوحات الكئيبة السوداوية، وتتصدر الروايات الأكثر كآبة حتى الفارغة منها قائمة الأكثر مبيعاً، للمأساة جمال يبرزه الرسام العبقري والموسيقار الفذ، يصعب على البشر العاديين إدراكه ووصفه. ربما هذا ما جعله يعود للمكان الذي أقسم على طلاقه المؤبد يوم خرج منه.

يسأل: أين أخوك؟

– صدقني، لا لشيء؛ لكنك حين تلتقيه ستود لو لم يأتِ من الأساس على ذهنك.

يا لها من كلمات تبعث الخوف، ماذا به سُرقت الدماء من وجهه؛ ازرقّ لونه كمن يختنق بكيس بلاستيكي. أرادت الزوجة اقتحام الحديث إلا أنها لم تبرح الكرسي وقالت بصوت مكتوم: بيشرب. هز كتفه عندما سمع صوتها الساخر، وأشاح بوجهه بنظرات تدرك أنه أُهين للتو، وأنه غير مرحّب به، لا يدري ما يقول أو ما يفعل، كما لم يدرِ كل ما أقدم عليه منذ أول من أمس.

مضى أخوه يفضي بما في قلبه بصدق، تملأ الدموع عينيه، جسده يشتعل وحديثه لا يقلّ حرارة عنه، بدا وكأنه أعد لليوم منذ سنوات، وانتظره ليجلس أمامه كصغار الطير تنتظر أن يأتي والداها للعش ومعهم الطعام. تحدث بشراهة مشرد وقع على وليمة ضخمة، حتى إن بعض الرغوة ظهرت حول فمه، لو أنه تكلم لساعات ستفيض عليه حروف اللغة وهو لم يبلغ نصف جعبته.

كأن الصمت وانتظار سكوت أخيه سيحل كل شيء، لكن مع كل كلمة تحولت ملامحه الهادئة ووجهه الأبيض لاحمرار غضب واشمئزاز، ضرب بيده على قدمه، وقاطع الحديث قائلاً: وما لي بكل ما تتفوه من هراء، هل أنا المذنب، أتظن أني حين رحلت تسببت في تدهور أحوالك، لا أرغب في سماعك -صرخ- لست بحاجة لسخافاتك، هل تريد المال؟ أخرج من جيبه بضع أوراق نقدية وألقاها على الأرض، وقال خذ، تلك حصتك من عملي في السنوات الماضية.

لماذا جئت إلى هنا؟ أتظن بأن ملابسك الأنيقة وشعرك الناعم يدل على أنك إنسان، إياك أن تهين كرامتي.

نثر الأموال بقدمه، وجسده يرتعش، وشفتاه تتحرك تلقائياً كأنها فلتت من السيطرة، صاح: لا تدفع للمهان، ووجه له لكمة أسقطته أرضاً. ظل ينظر باتجاهه بنفس البؤس والكراهية، كأنه يحدثه بلغة لا تُسمع، لغة صامته تلوم وتحتقر.

تساقط الدم من أنف الملقى على الأرض بغزارة حتى وصل لقميصه، اضطر لخلعه. كانت تلك المرة الأولى التي ترى فيها زوجته الكدمات الحمراء على ظهره، اتسعت عيناها، تجمد أخوه كمن سقط في بركة ثلج، سقط فيل من السماء على الجميع فألصقهم بالأرض، ساد الصمت ولم يهتز فاه أحد.

تلك الكدمات حين تدقق النظر فيها، أشبه بثقوب سوداء على حافة الكون، ربما كبح الأخ الغاضب رغبته في إقحام يده فيها، الحفر بأصابعه؛ بصعوبة بالغة.

ما صعقه حقاً، وجمده حيث يقف أنه رأها تغطي جسد والده في السابق. كان يستيقظ مفزوعاً كل ليلة على كابوس مزعج، تتوسع الفجوات في ظهره، تزداد عمقاً حتى تبتلع جسده كله، يبتلعه الفراغ حتى لا يبقى منه شيء.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد أشرف
كاتب وقاص مصري
كاتب وقاص مصري مهتم بالثقافة العربية وعلم الاجتماع وتقاطعاتهما مع عالم الرياضة