استغرقت عاماً كاملاً تقريباً كي أكتب هذا المقال، إذ إن فكرته في رأسي، في صندوقي الأسود منذ أول مرة قرأت فيها مقالات "نورا ناجي" عن "الكاتبات والوحدة".
عام كامل لتصدر المقالات في كتاب من أوراق، وغلاف باللون الأزرق الداكن، يحفظ الكلمات من التلاشي أو النسيان، في كتاب ينضم لمكتبة تضم كتباً أخرى، فلا يشعر بالوحدة مثل أبطال حكاياته اللاتي جمعهن شعور واحد رغم أنهن لا يعرفن بعضهن البعض، ولا تعرفهن "نورا ناجي" بشكل شخصي، ولكنهن شاركوها في شعور الوحدة والضياع الذي يبتلع حيوات بعض الأشخاص حتى وهم غارقون منغمسون بالكامل في متاهات الدنيا.
منذ مدة طويلة كتبت عن نورا ناجي، وعن أعمالها التي تتسم بنفس الطابع الشاعري الذي يُعطي لبضع كلمات عادية طابعاً خاصاً بها يعبر عن أكثر المشاعر قسوة وغرابة، ويصيبك بالدهشة من تلك المرأة، وكأنها عاشت حيوات كثيرة، وكأنها تنقسم لنورات أخريات يعشن حيوات نساء خسرن كل شيء، ولامسن عتبات المجد، واليأس، والجنون، أو الانتحار.
الدافع الشخصي لكتابة عمل مثل هذا بدا متمثلاً في الجملة الختامية في مقدمة الكتاب، حينما قالت نورا: "إذ ربما تتلاشی وحدتي في وحدتهن، أو قد يحدث العكس".
نورا ناجي تجد نفسها بين عشر كاتبات، تضع نفسها في حياة كل امرأة منهن، لتحكي عنهن، وتشاهد اللحظات الأخيرة في حياة كل واحدة فيهن. تقف نورا في غرفة "عنايات الزيات"، الكاتبة التي لم أسمع عنها أي شيء قبل كتابة نورا عنها، تقف في الغرفة، تشاهد عنايات تبتلع عشرين حبة وردية من أقراص منومة لتسكن إلی الأبد.
تشاهد هرولة "إيمان مرسال" في الشوارع بحثاً عن أي شخص عرف عنايات أو سمع بها، تراها تقف أمام مقبرتها وتبكي، لأنها كانت تبحث عنها مراراً.
تتابع نورا، وتتتبع أثر الوحدة علی الكاتبات، لتكتب عن "فاليري سولاناس" التي خذلتها الكتابة والعالم والحب والرجال، التي عانت من التهميش والاستغلال، في سبيل الكتابة التي لم تنقذها من وحشة العالم، تراها نورا وهي ميتة، منكبّة علی الآلة الكاتبة جثة هامدة، تفعل ما أحبته طوال حياتها رغم أنها لم تجنِ من هذا الحب سوی العذاب.
تعود نورا لتكتب عن "مي زيادة"، المرأة التي نالت كل ما يمكن أن يحميها من الوحدة، ولكنها ماتت وحيدة، وكأن الكتابة والوحدة لفظان لا يأتي ذكرهما إلا متجاورين لا يفترقان، تتحدث نورا عن مي التي لا يعرفها أحد، عن مي أخری غير تلك التي يسخرون منها ويتهموها بأنها معشوقة الأدباء فقط، متجاهلين إسهاماتها الثقافية، متجاهلين حياتها ومماتها وحيدة، متجاهلين كتاباتها التي عاشت لها، متناسيين كل هذا دون سبب، حتی أتت نورا ناجي لتحكي عن المرأة الفاتنة التي أحبها الجميع بحياد، ولم يجرؤ أي شخص علی اقتحام وحدتها، أو مساندتها بعد كل فَقْد مرت به.
تكتب نورا عن "أروی صالح" وتحلم بها، تكتب عن صدقها ورغبتها الحقيقية في إصلاح العالم الخرِب للأبد، تكتب عن يأسها، وعن فشلها في إيجاد أي دافع للاستمرار لمنعها من إلقاء نفسها من شرفة منزلها وهي في عامها السادس والأربعين.
تتحدث نورا عن ذنب الأمومة الذي تشعر به النساء والكاتبات منهن بالأخص، لأنهن يجدن أنفسهن عالقات في المنتصف بين تحقيق الذات وبين تغيير الحفاضات وتحديد جرعات الحليب المناسبة، تذكر "إيلينا فيرانتي" مجهولة الهوية في الأصل، التي تُخفي نفسها عن العالم وتعجز عن إخفاء حقيقة شعورها بالذنب تجاه بناتها اللاتي جعلنها أثقل.
تكتب عن "نوال السعداوي"، المرأة التي تحدثت معها عبر الهاتف يوماً ما ولم تسعني سعادتي حينما أتی صوتها المتعب من الطرف الآخر علی السماعة، ولم أتمكن من قول الكثير حينما حدثتها، ورغم ذلك وجدتها تشكرني بشدة علی اهتمامي للاطمئنان عليها، تتحدث نورا عن امرأة من أكثر النساء دفاعاً عن حقوق المرأة، التي وقفت في وجه مجتمع جاهل بأكمله مكتفية بالورقة والقلم كسلاح أمام الظلم والتخوين والاتهام بالكفر، ثم أمام التجاهل الصارخ لقامة علمية وأدبية، ورغم كل إسهاماتها تجدهم يذكرونها بأفظع الألفاظ. الغريب في الأمر ألّا أحد ممن يتحدثون عن دكتورة نوال السعداوي، لا أحد ممن يسخرون منها يعرف عنها أي شيء، لا أحد يعرف عن الأعمال الأدبية ولا المناصب الرفيعة ولا الكتب العلمية، لا أحد يعرف أي شيء، ورغم ذلك تجدهم يسخرون منها بجهل قاسٍ ومؤلم، يُعد فصل نوال السعداوي من أكثر الفصول المؤثرة في هذا الكتاب، حيث تتقصّی نورا عن حياتها، وتكشف لنا صعاب حياة هذه المرأة، ومدی معاناتها في مجتمع غارق في الجهل والخرافات.
نورا ناجي تتحدث عن الهشاشة النفسية، والجسدية، والاضطرابات العصية علی المرء، تكتب عن "سوزان سونتاج" متعددة المواهب، الكاتبة والمخرجة والناقدة التي عاندها جسدها مثلما عاندها المجتمع، سوزان التي حاولت أن تعيش حياة عادية، تتزوج وتنجب، ولكن تفشل أو تعجز عن البقاء في رتابة حياتية كانت من الممكن أن تُفقدها قدرتها علی الكتابة، تتقبل أمر المرض بعد سنين من تجاهل جسدها المتعب، تخوض معركة ضد السرطان، وتخوض بروحها معركة ضد المجتمع المغلق، تعلن عن مثليتها الجنسية، تتخبط في الحب والأمومة والاكتئاب، تنتصر في جولتين علی السرطان، تكتب وتُخرج أفلاماً سينمائية، تصرخ بأعمالها وتقول "أنا هنا"، وفي الجولة الثالثة ينتصر السرطان ويقضي علی امرأة تبدو في كل ما كتبته هشة رقيقة، ولكنها كانت قوية بما يكفي لتترك آثارها في الحياة، معلنةً أنها كانت هنا ذات يوم.
تنتقل نورا إلی حياة امرأة أخری كانت لها حياة شديدة الزخم، وجديرة بالتقدير، تتحدث عن "رضوی عاشور" وأعمالها وحياتها، تنظر عن كثب، تری الوحدة متجسدة خلف كل هذا الزخم، وكل هذه المحبة التي حظيت بها رضوی بين الناس، تستكشف أن الوحدة مصير لا يفر المرء منه، وكما يقول آرثر شوبنهاور "إن الوحدة مصير كل الأرواح العظيمة"، فإن رضوی ورفيقاتها في هذا الكتاب كنَّ خير مثال علی تلك المقولة.
تكتب نورا عن "فيرجينيا وولف"، وطريقة انتحارها المأساوية التي تجعل المرء يقشعر وهو يتخيل امرأة علی مشارف الستينيات تُعبّئ جيوبها بالحجارة لتغرق في نهر "أوس" الذي تحفظ الطريق إليه جيداً.
أنا أيضاً كتبت عن فيرجينيا وولف من قبل، شاهدت فيلماً طويلاً يحكي عن كواليس كتابتها لرواية "السيدة دالاواي"، رأيتها متجسدة في صورة البطلة المضطربة التي تسمع طنيناً في أذنها بشكل مستمر، المرأة التي تحاول أن تتعافی طوال حياتها من آلام الفقد والاكتئاب والاضطرابات التي أكلت روحها طوال حياتها، السيدة التي كانت تناضل من أجل حصول النساء علی حياة حقة مستقلة، والتي عانت من التحرش الجنسي والعديد من الانهيارات النفسية.
أصيبت باكتئاب حاد بعدما انتهت من كتابة كتاب كامل يتحدث عن المكتئبين والمنتحرين، فقدت الرغبة في الاستيقاظ أو ترك المنزل، لم أرغب في الأكل أو الشرب لأيام طويلة لمجرد القراءة حول أولئك الناس الأكثر حساسية في العالم الذين لم ترحمهم الحياة ولم تمنحهم ما يجعلهم يرغبون في الاستمرار. أظن أن كل من يكتب عن هؤلاء يحاول دوماً أن يخفي اكتئابه فيهم، أن يتعافى ويتطهر بالكتابة عنهم ليذكرهم ويوضح للعالم أن المعاناة التي عاشوها جديرة كلها بالاحترام والتقدير دون أي تقليل أو اختزال الأمر في سبب أو اثنين، أظن أن الأشخاص الوحيدين الذين يعانون أكثر من غيرهم تأكلهم مئات الأسباب والأفعال يومياً من العالم ما يدفعهم لركن قصي بعيداً عن الصخب والضوضاء. الجميل في كتاب نورا أنه مكتوب بطريقة خاصة، كعادة كتاباتها، وحدها تكتب عن القسوة بطريقة غير قاسية، تكتب عن الألم وتجعل القراءة غير مؤلمة، لا تُشعرك كتابتها بغصة في الحلق أو ثقل في القلب رغم ما تحتويه الكتابة من ألم ومعاناة أصحابها، كتابة مثل هذه النوع من أنواع التضامن، كأن يربت علی كتفك شخص عابر ويقول لا تجزع، أو أن يراك أحدهم تبكي فيجلس بجانبك ليعانقك ويبكي معك! نوع فريد من الكتابة التي تخص كل الناس ولا تتميز بأي عنصرية، قد تكون نورا كتبت عن النساء وحدهن في هذا العمل ولكنها تعبر عن أزمة الشعور بين كل الناس، تذّكر قسوة الوحدة علی الكاتبات ولكنها تعبر عن ألم الوحدة الذي لا يعرف التميز، وتُشعرنا جميعاً بأننا متشابهون في وحدتنا، حيث ننسج للعالم الحكايات بكافة الأشكال بينما نعيش في عزلة تخصنا وحيدين كي نعبر عن أنفسنا ونقول "إننا هنا" أيها العالم القاسي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.