هناك طرفان دائمَا الحضور في معادلة السياسة المصرية منذ ثورة 25 يناير، طرف تصطف فيه القوى الأمنية والجيش وبقايا نظام مبارك، وطرف تصطف فيه القوى الثورية وجماعة الإخوان المسلمين.. نعم تتصارع أحياناً مكونات كل طرف مع بعضها البعض، لكن بالنهاية تبقى مكونات كل معسكر قريبة من بعضها البعض. فكثيراً ما تناحرت القوى الثورية مع جماعة الإخوان المسلمين وكثيراً ما تناحرت بقايا نظام مبارك والقوى الأمنية مع القوة العائدة لصدارة المشهد بعد 30 يونيو، أي الجيش المصري، ولكن بقي كلٌّ في معسكره وصفِّه، فكل طرف يرى أن هناك أولوية لمواجهة المعسكر الآخر.
بعد 25 يناير، أصبح الشارع هو الميدان والمظاهرات والانتخابات هي أدوات الصراع بين كافة الأطراف، القوى الثوري وجماعة الإخوان المسلمين يحشدون الجماهير في الميادين، بينما القوى الأمنية والجيش في السلطة يحسبون حساباتهم.
تلك الأطراف لم تكن مستقرة تماماً في معسكراتها، فعلى مدار فترة حكم المجلس العسكري والسنة اليتيمة التي حكم فيها الراحل محمد مرسي مصر، حدثت بعض الخروقات أو الخلخلة في تلك المعسكرات، حيث بدا أن هناك تحالفات وتفاهمات بين أطراف يفترض أنها متناحرة، لكن هذا هو حال السياسة. وفي نفس الوقت، وقعت كوارث مزلزلة وأحداث دموية لم يعتَد عليها المجتمع المصري ولم تشهدها الدولة بتلك الكثافة من قبل. أحداث لم يتم تفسيرها بشكل عقلاني أو التحقيق فيها من قبَل قوات الأمن بشفافية، أحداث مثل مسرح البالون، مجزرة ماسبيرو، ومجزرة بورسعيد لجماهير النادي الأهلي. تلك وغيرها من الأحداث الدامية لم يعرف على وجه الدقة مَن خطط لها ومَن نفذها ولماذا؟
تلك الأحداث كانت في سياقها التاريخي مجازر وخروقات أمنية شديدة التعقيد لم يعرف أحد من له مصلحة في قيامها، أو ربما نعرف ولا نملك دليلاً واضحاً. على كلٍّ، حينها تم إطلاق تسمية "الطرف الثالث"، على الطرف المجهول المسؤول الذي نسبت له كل تلك الأحداث المفجعة، ولعل الجميع استراح لتلك التسمية لهذا الغامض غير المعروف ونسب له كل حدث مكروه. ربما لأننا لم نرد حينها الاعتراف أن من بيننا من هو قادر على استباحة الدماء بتلك الشاكلة، بينما يفترض أنه حامي العرين.
عودة الطرف الثالث
لكن في العلوم السياسية والعلوم الطبيعية، "الطرف الثالث" هو مسمى في يطلق على كيان يسهل التفاعل بين طرفين مختلفين، لكن كلاهما يثق بذلك الطرف الثالث، وتستخدم تلك الثقة لجعل تفاعلهما أمناً. والطرف الثالث المطلوب حالياً في مصر هو طرف بعيد تماماً عن حالة الاستقطاب التي لا تنخفض حدتها منذ 2013، طرف يقبل أن يكون في المنتصف من الجميع وموثوقاً بقدر ما يكفي أن يكون وسيطاً بين الأطراف المتناحرة. طرف يقدم نفسه للناس والشعب والسلطة ومعارضيها بشكل محايد قدر الاستطاعة، ولا ينتمي لأحدهم وليس حكماً بينهم، بل كيان مستقل تماماً يميز نفسه عن طرفي المشهد الحالي، ويؤكد استقلاليته في الحركة والعمل والفكر. طرف ثالث يتميز بصبر أيوب وقدرة على تخطي المراحل واحدة بعد الأخرى، بلا حرق.
طرف لا ينتمي ولو قليلاً لمعسكر الثورة ولكل من انتمى لها يوماً، ولا معسكر السلطة ولا من انتمى لها يوماً.
لكن هذا التصور تقف أمامه عقبتان رئيسيتان هما:
- أولاً، هلع النظام وخوفه وحساسيته المفرطة من أية كيانات مستقلة، منفصلة عن جسده. واعتباره أن من ليس معه فهو ضده بالضرورة. بالإضافة إلى عدم ثقة معسكر الإخوان المسلمين ومعهم الكيانات الثورية في أي كيان لم يكن يوماً جزءاً منهما أو شريكاً لهما.
تخطي العقبة الأولى يكمن في إيجاد رموز كبيرة لها ثقلها في الداخل المصري لتنتمي لذلك الكيان الذي يجب أن يبدو متنزهاً عن أي منافسة ولا يقدم على استفزازات غير محسوبة.
- العقبة الثانية في وجه ذلك الكيان، وهي أخف بكثير من الأولى، تتشكل في الأساس من المعاناة والظروف القاسية التي يعاني منها جماعة الإخوان المسلمين والظروف شديدة السوء التي تمر بها الثورة. مما يجعلها لا تثق في ذلك الكيان أو الطرف الثالث مهما حسنت نواياه وصلحت أفعاله. ولكنها إن لم تثق به، لن تمنعه أو تقف أمامه ولعل إعلان عدم ثقتها فيه يصب في مصلحته.
وهدف هذا "الطرف الثالث" ينبغي أن يكون تحويل مصر إلى دولة مستقرة ديمقراطية، تحترم حقوق المواطنين وحرياتهم وتكفل لهم مقومات حياة كريمة.
هل يوجد مثل هذا "الطرف الثالث"؟ وهل من السهل إيجاده؟ لا يوجد هذا الكيان بالطبع حالياً، لكن توجد شخصيات داخل مصر بتلك المواصفات بالتأكيد، ويبقى أن يأتي يوم تتجمع فيه وتعلن عن نفسها وتبدأ.
عله يكون قريباً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.